بيني وبين الشيخ حمد بن جاسم بن جبر قصة قديمة، فأنا أزعم ان وزير خارجية قطر يبث الأرصاد والعيون في لندن، فإذا تأكد أنني مسافر، يتّصل بي على الهاتف المحمول ويدعوني الى غداء أو عشاء. والنتيجة انني لم آكل على مائدته منذ سنوات. هذه المرّة اتّصل بي الشيخ حمد وأنا في الرياض ودعاني الى زيارة الدوحة، وقلت في نفسي انه يعتقد انني سأعتذر عن عدم قبول الدعوة بسبب المسافة أو ضيق الوقت، فلم أفعل وقبلت الدعوة. وخسر الشيخ حمد عليّ عشاء مفتخراً في النادي الديبلوماسي في الدوحة مع الصديق الشيخ جبر بن يوسف، مدير مكتب الوزير. طبعاً، ما سبق مجرّد هذر، فقد أكلت على مائدة الوزير في بيته ومطاعم الدنيا، الاّ انه أكثر ما يدعوني في الصيف، وأنا في فرنسا لذلك قامت القصة التي بدأت بها. الشيخ حمد زوّدني رزمة أخبار، أكثرها ليس للنشر، أو على الأقل ليس للنشر منسوباً إليه، الاّ انني سأسرّب بعضها في هذه السطور في الأيام المقبلة اذا استطعت فأقول للقارئ اليوم "البقية في العدد المقبل". بقيت في الدوحة يوماً كاملاً بعد دبي، ووجدت ان دول الخليج تتنافس في البناء، وفي كل يوم شيء جديد. وفي حين يشكو الناس، وبعض الشكوى محق، فإنني أزور الخليج بانتظام منذ مطلع السبعينات وقد تقدم ثلاثين عقداً، لا ثلاثة، لأن أهله جنحوا للسلم، فاستفادوا وأفادوا. ركبت الطائرة في الدوحة متوجهاً الى بيروت، ورأيت الشيخ عبدالله بن محمد بن سعود، رئيس الديوان الأميري، فوقفنا نتحدث، ثم وصل الصديق مروان حمادة، وزير الاقتصاد اللبناني الذي كان في مهمة رسمية هناك، وأكملنا الحديث معاً. وسألني الشيخ محمد كيف وجدت قطر، وقلت ان كل شيء عظيم فيها باستثناء الهاتف المحمول، فقد وجدت صعوبة في الاتصال بالمكتب أو البيت في لندن. وأخرج الشيخ عبدالله بطاقة أخرى من جيبه سلّمها إليّ وقرأت هذه المرّة اسماً مع لقب رئيس مجلس ادارة كيوتل، وهي شركة الهاتف المحمول في قطر. وأصرّ أخونا على مروان انه لم يجد صعوبة في الاتصال، ورفضت ان أتراجع، فلعلّ الفندق حيث نزلت، هو سبب صعوبة الاتصال. سرّني أن أرى مروان حمادة، فهو زميل وصديق قبل ان يكون وزيراً، وربما كان أجمل ما في السفر، على عنائه، ان يرى أحدنا صديقاً حيث لا يتوقّع ان يراه، وكان من هؤلاء كثيرون حين وصلت الى بيروت للمشاركة في اجتماعات لمؤسسة الفكر العربي، وهي مناسبة توفّر فرصة لرؤية الأصدقاء، الاّ انني لن أثقل على القارئ بأسماء كثيرة، وإنما أقول انني دخلت الفندق، ورأيت فوراً محسن العيني وكمال أبو المجد وكلوفيس مقصود، والجلسة معهم وحدهم تستحق ان أقطع لها ألف ميل. ونقلت "الحياة" خبر افتتاح مقر المؤسسة، فلا أكرّر شيئاً، وإنما أقول ان اليوم انتهى بعشاء في ضيافة السيدة بهية الحريري، النائبة عن صيدا، وأنا معها في لجان عدة، وهي أنشط الأعضاء، وبالتأكيد أنشط منّي. وفي حين أرفض ان أمتدح عملنا، وأكون كمادح نفسه، فإنني أقول ان لجنة تضمّ معنا سيدات راقيات وبطرس بطرس غالي وغسان سلامة ومحسن العيني وأمثالهم لا بدّ من ان يكون انتاجها من مستوى هذه العقول النيّرة. على كل حال، أنا لا أزور بيروت الا وأزور دمشق معها، ورأيي في الشاميات معروف، فهنّ أحلى، الاّ انني أجد نفسي عادة في دمشق وأنا في صحبة شاميين لا شاميات، والفارق شاسع. وكنتُ أفكّر هل أسرق يوماً من السفر للذهاب الى دمشق عندما رأيت في الفندق الأخ فراس طلاس ومعه زوجته رانية، وهي أخت عزيزة. وسألاني لماذا لا أذهب الى دمشق معهما ذلك المساء فحملت متاعي وذهبت. وتزامنت الرحلة مع الافراج عن الزميل ابراهيم حميدي، مدير مكتب "الحياة" في دمشق الذي افتقدنا عمله، وسرّني ان أجد المسؤولين يشجعونه بعد ان عبرت الضائقة. وجلست مع اللواء غازي كنعان، وتذكرت فوراً اللواء، في حينه، والفريق بعد ذلك، علي الشاعر. اللواء غازي الآن هو رئيس شعبة الأمن السياسي في سورية، الا ان حديثنا تناول سنوات عمله في لبنان، قبل ان ننتقل الى ما نحن فيه اليوم. وكان الفريق الشاعر سفيراً للمملكة العربية السعودية في بيروت، ثم أصبح وزير الاعلام السعودي، ومع ذلك بقي يحمل ملف لبنان في عقله وقلبه سنوات، ويحدثني عن لبنان بقدر ما يحدثني عن عمله كوزير. وشعرت مع اللواء غازي كنعان بأن تجربته اللبنانية باقية في قلبه وعقله على رغم وجوده في دمشق. ومن اللواء الى العماد الأول مصطفى طلاس، وقد روى لي نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع السوري قصة وحدة نسيها الناس بين سورية والعراق في صيف 1979، عندما كان يفترض ان يصبح أحمد حسن البكر رئىساً وحافظ الأسد نائبه. الاّ ان صدام حسين تآمر لقتل الوحدة، ثم قتل أقرب معاونيه إليه، وخلف البكر في الرئاسة، لتبدأ سلسلة الكوارث التي أحاقت بالعراق والمنطقة في عهده المنكود. طبعاً لا تكتمل زيارة دمشق من دون رؤية الصديق عدنان عمران، وتبادلت مع وزير الاعلام السوري أخباراً وأفكاراً، واستطعت بعد هذا كله ان أنهي يومي الوحيد في دمشق بعشاء مع نحو 50 من الأصدقاء والصديقات الشوام، ومعنا سايمور هيرش، الذي يسمونه في الغرب "مراسل محقق"، ولعلّه أفضلهم، وقد أطاح مقال له أخيراً ريتشارد بيرل من رئاسة مجلس سياسة الدفاع بتهمة تضارب مصالح. ورأيت هيرش يحدث فراس طلاس، وقد أذهله الحسن والذكاء حوله كما أذهلني قبله، وأننا جميعاً نعرف أحدنا الآخر، ونعرف الناس حولنا، فأنتظر لأرى ما سيكتب في مجلة "نيويوركر" عن سورية.