"عزيزي ارنولت، الأربعاء ستقدم "في أدغال المدن" للمرّة الأولى. عليك ان تحضر من دون ابطاء". على هذا النحو عبر برتولد بريخت ذات يوم من العام 1932، في بطاقة أرسلها الى صديقه ارنولت برونن، عن اهتمامه الاستثنائي بمسرحية كان كتبها منذ أسابيع قليلة وعرفت طريقها الى الخشبة على الفور. والحال ان بريخت ظل حتى نهاية حياته مهتماً بهذه المسرحية المبكرة بين أعماله، حتى وإن لم يعتبرها ابداً واحداً من أعماله الكبيرة. وربما يعود هذا الى كون "في ادغال المدن" الأولى بين سلسلة مسرحيات سيكتبها بريخت لاحقاً مستوحياً اميركا والحياة فيها، باحثاً في "الحلم الأميركي" الذي كان والت ويتمان اوصله الى أوروبا كلها. ذلك ان الاطار المكاني ل"في ادغال المدن" هو شيكاغو، تلك المدينة الاميركية التي كانت تبدو اشبه بالاسطورة في ذلك الحين. وحول هذا الأمر ينبئنا فردريك أوين، صاحب واحد من أفضل الكتب التي تناولت حياة بريخت وحللت أعماله، ان "ألمانيا كانت، بعد الحرب العالمية الأولى، جعلت من أميركا ميداناً خرافياً رؤيوياً، يرتبط بالواقع والخيال في آن معاً. وكان الواقع، بالطبع، هو وجود القوات الأميركية بكثافة في أوروبا، واحتلال الاراضي الألمانية وتهاوي "العالم الجديد" الذي كان الرئيس ويلسون يحلم به، ثم الجاذبية الدائمة التي يمارسها الدولار الأميركي، في رؤية براقة بالتعارض مع السقوط الكابوسي للمارك الألماني. وكانت هناك، كذلك، بقايا من الماضي: الحلم الأميركي، والغرب والهنود الحمر الذين خلدهم فينمور كوبر في رواياتهم وبجلهم كارل ماي" والمغامرات الكبرى وسط البراري المسكونة بالجواميس ورعاة البقر" هذا لئلا ننسى جاذبية المدن الأميركية الكبرى بما فيها من ناطحات سحاب"... وبريخت، حتى من قبل "في ادغال المدن" كان انشد أميركا على النحو الآتي: "آلو... آلو... نريد التحدث الى أميركا عبر أعماق الأطلسي / مع مدن أميركا العملاقة... آلو... آلو / وتساءلنا بأية لغة نتكلم لكي يفهمونا / لكننا الآن جمعنا كل منشدينا / منشدين يمكن فهمهم جيداً، عندنا وفي أميركا / وفي العالم كله / ... الآلات هي التي تغني". اذاً، في ذلك الحين كان بريخت على أتم الاستعداد لمسرحيته "الأميركية" الأولى. تلك المسرحية التي ستدخل في حمى الشعور الألماني بأن ألمانيا محاصرة ومسجونة، وسط الحلبة والملاكين الأميركيين وسباقات الدراجات التي تتواصل ستة أيام، واللكنة الأميركية والجاز الأميركي، واغنيات الروح الساول الزنجية... ولم تكن ألمانيا الوحيدة المستسلمة امام كل هذا العالم، وهذا الغزو الأميركي. كانت أوروبا كلها اسيرته. ومن هنا فإن ما أراد بريخت ان يعبر عنه "في ادغال المدن" انما كان عالم أميركا الغريب والرؤيوي، ولكن ايضاً عالم الافتتان الأوروبي - الألماني ازاءه. تدور أحداث المسرحية في شيكاغو العام 1912. ومنذ الملاحظات التفسيرية للمسرحية ينبهنا بريخت: "انكم هنا تلخصون المباراة غير القابلة لأي تفسير. المباراة التي تضع شخصين في مواجهة بعضهما بعضاً. وتشاهدون دمار عائلة أتت من منطقة السافانا الى ادغال المدن الكبرى. اذاً، بدلاً من ان تشغلوا الفكر، حتى الهلاك، بحثاً عن ذرائع الخصومة التي ادت الى احتدام المباراة بين ذينك الشخصين، شاركوا ملتزمين انسانياً، وأحكموا على أساليب الخصمين من دون تحيز، ثم احتفظوا باهتماماتكم كلها حتى الجولة النهائية". ولكن، ما هي هذه المباراة التي تدور في شيكاغو مدينة الأدغال الاسمنتية في العام 1912، حين كان العالم لا يزال عشية الحرب العالمية الأولى، يعيش براءته؟ انها مباراة في الملاكمة الميتافيزيقية، يشهدها المؤلف والمخرج من دون أدنى تأثير بأحداثها. انهما مراقبان حياديان، على رغم ان محك الرهان في المباراة مرتفع جداً... ذلك ان الرهان يتعلق بحياة الخصمين وحلفائهما وثروتهم في الوقت نفسه. وهذه المباراة تدور، اصلاً، بين شلينك، وهو تاجر أخشاب، وجورج غارغا بائع الكتب. اما حلبة الملاكمة فهي مدينة شيكاغو كلها. وفي خلال تلك المباراة يبذل شلينك كل ما في وسعه للاستحواذ على روح غارغا، لكنه يلقى من هذا الاخير مقاومة عنيدة تفسد عليه مخططاته. فيبدأ في توسيع خطته الهجومية، اذ يحول عشيقة غارغا جين وأخته ماري، الى عاهرتين، ثم يسلم تجارته الى غارغا الذي يحطم التجارة ويفلس فيقاد الى السجن. وإثر هذا يشي غارغا بشلينك امام جمهور من السابلة متهماً اياه بإفساد المرأتين مثلما يفسد الشيطان القوم الطيبين، ويقوم الجمهور بمطاردة شلينك وسجنه. وهنا يخرج غارغا من سجنه ويتمكن هو وشلينك من الفرار امام مطاردة الرعاع لهما. وهكذا بعد ان يفلت الاثنان من الوقوع بين ايدي الجمهور الهائج، يتجابهان معاً في جولة اخيرة. وخلال الحديث، هنا، يقول شلينك انه في الحقيقة لا يخوض المعركة الا من أجل طابعها الروحي والميتافيزيقي الواضح. اما غارغا فإنه يقول انه اذا كان يقبل خوض هذه المعركة، من هذا إلا لكي يتمكن من النجاة والبقاء. وعند نهاية تلك الجولة الختامية يقتل شلينك. اما غارغا فإنه، وسط هيجانه وانتصاره، يشعل النار في متجر الخشب الخاص بغريمه، ثم يتوجه منتقلاً الى نيويورك، من دون ان يتنبه الى أنه، بحسب نظرة مؤلف المسرحية، انما ينتقل من دغل الى آخر، ربما سيكون أسوأ منه كثيراً. في تعليق له على هذه المسرحية، بعد عروضها الأولى التي حققت نجاحاً لا بأس به، ومن دون ان يكون أكبر نجاح حققه عمل لبريخت حتى ذلك الحين، كتب هذا الاخير: "اسمعكم تقولون: انه يتحدث عن أميركا ولا يعرف عنها في الواقع شيئاً / لم يزرها ابداً / اذاً، صدقوني، انكم تفهمونني جيداً حين اتحدث عن أميركا / ولعل أفضل ما في أميركا هو اننا نفهمها". وكان بريخت، في ذلك الحين، معتاداً على ان يصف اميركا بأنها "صديقة طفولتنا التي لا نكف عن التعرف عليها كل مرة من جديد". ومع هذا يحق لنا ان نتساءل: هل كتب بريخت هذه المسرحية عن أميركا حقاً؟ ان ارنولت برونن يوحي الينا هنا، بأن أميركا وشيكاغو بخاصة ليستا سوى كناية هنا، لأن "المباراة" الحقيقية تدور في برلين. ف"مباراة الملاكمة المزعومة هنا ليست سوى مأساة الوحدة ومحاولة التواصل ولو من طريق المعركة في عالم يتفتت مستعصياً على كل حوار". فنحن، في الواقع، اذا محونا اسم شيكاغو هنا سنجدنا في مواجهة الكابوس الألماني ودغل برلين... بل إن الدغل الحقيقي هو الحياة نفسها. ولنضف هنا ان تفكك غارغا "في ادغال المدن" كان سبقه تفككه هو نفسه في مسرحيتين سابقتين لبريخت هما: "بعل" و"طبول في الليل". وهذا ما يقودنا وجهة أكثر حميمية مع برونن الذي يقول مضيفاً ان بريخت ربما يكون رغب هنا ان يكتب الحكاية المتعاقبة لأسرته. ويلفت برونن هنا الى ان بريخت نفسه كان، على مرور الزمن، يعطي تفسيرات مختلفة ومترددة لمسرحيته الغريبة هذه. ولعل في امكاننا ان ننطلق من هذه الفرضية لنضع "في ادغال المدن" 1923 في مكانة على حدة بين اعمال برتولد بريخت 1898-1956. وبريخت من بعد هذه المسرحية تطور عمله كثيراً في اتجاه الابتعاد عن العنصر الذاتي وعناصر الالتباس والابهام والشاعرية الميتافيزيقية حتى. ومع هذا نجده غير قادر على انكار هذه المسرحية وتقديمها احياناً حتى على بعض أعماله الكبيرة التي صنعت له سمعته كواحد من اكبر مسرحيي العصور الحديثة، مثل: "دائرة الطباشير القوقازية" و"الأم شجاعة" و"أوبرا القروش الثلاثة" و"الاستثناء والقاعدة" و"الانسان الطيب من ستشوان" وغيرها من أعمال حية وفاعلة.