انهمكت الجامعة الأميركية في بيروت بأكثر من مناسبة أكاديمية أمس. فهي لم تكتف هذا العام بتوزيع شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه على طلابها الخريجين في حفل تتكرر تقاليده كل عام منذ بدايات التأسيس في القرن التاسع عشر، بل استعادت ايضاً تقليداً توقف ل30 عاماً مضت ويقضي بمنح الدكتوراه الفخرية الى شخصيات تختارها وفق معايير تعتقد الجامعة انها مجسدة فيها. وسلّط الاختيار هذا العام على اسماء برزت بتواصلها بين الغرب والعالم العربي على منصة قاعة "اسمبلي هول"، اعتلت ست شخصيات لمعت في اكثر من ميدان، منها العربي أو من أصول عربية، وبينها من يحمل الجنسيتين العربية والأميركية في آن، وهو ما اعتبره المحتفى به المفكر ادوارد سعيد "مشكلة في هذا الزمن الصعب". والخمسة الى جانب سعيد، كانوا: الروائي أمين معلوف ورجل الأعمال كارلوس غصن والمهندس حسيب صباغ والاعلامية هلن توماس والديبلوماسي الأخضر الابراهيمي، وهم جاؤوا من الخارج والأكثرية من الولاياتالمتحدة حيث الاقامة، للمشاركة في هذا التكريم. بعضهم حمل أوجاعه وعجزه، لكنه لم يفقد الأمل بمزيد من العطاء. قاعة "اسمبلي هول" امتلأت بحضور سياسي حاشد لبناني وعربي، وديبلوماسي أميركي ودولي موفد الأمين العام للأمم المتحدة الى الشرق الأوسط تيري رود لارسن وجمع من الأكاديميين الذين عبّروا عن تقديرهم للمكرمين بالتصفيق مطولاً لهم. كان صعباً على رئيس الجامعة الدكتور جون واتربوري التعريف بالمكرمين أو اختصار منجزاتهم أو تجاهل ما يعتمر ذواتهم تجاه أوطانهم التي ينتمون اليها او يعملون من أجلها. ادوارد سعيد وقال عن أستاذ الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا ان "ادوارد سعيد يلقب برجل النهضة، ومع انه لم يسع الى هذا اللقب يوماً الا انه يستحقه، نكرمه اليوم لانجازاته في النقد الأدبي والأدب المقارن وفي كل حقول ابحاثه، فهو غزير الانتاج عميق المعرفة وواسعها، سنواته ضجت بالانفجارات الفكرية التي لا تشعلها الا الادمغة الخلاقة حقاً. ناشط ومحلل سياسي ولعله محبط لكون قلة ممن يكتب لهم يستطيعون أن يساووه طاقة أو تمحيصاً. إننا لا نعطي الدكتوراه الفخرية في الشجاعة، ولو فعلنا لكان ادوارد سعيد أول الحاصلين عليها". ورد سعيد بكلمة لم يتجنب فيها الكلام في السياسة التي تحدث فيها من منطلق كونه عربياً وأميركياً في آن، "فنحن الذين كذلك نمثل اعداء في المكانين، في أميركا نحن العرب ارهابيون ومتشددون وفي العالم العربي نحن أميركيون امبرياليون، وما يجعل الأمور أكثر سوءاً ان هذين العالمين في تطرفهما لا يمكن التوفيق بينهما، فكروا في ديك تشيني وبول وولفوفيتز في عالم وبالشيخ أحمد ياسين ومروان البرغوتي في العالم الثاني، أي طريق ممكن بينهما. وأي رابط يمكن ان يردم الهوة؟". وإذ لفت الى "غياب أي نظرية سياسية يمكن التعويل عليها في كل الاحتمالات في المجتمع الانساني"، أشار الى "قيم ومؤسسات وتواريخ وأشخاص، رجال ونساء، تعبر ظروفهم الشخصية الحدود الدينية والطبيعية، وأفكارهم تسافر وتتواصل مع الآخر على رغم كل المحاولات لمنعها من ذلك". وقال: "لكن هذا لا يعني ان كل المشكلات يمكن حلها انما يمكن للتعايش ان يحصل من دون عنف وغضب". واعتبر سعيد "ان الجامعة الأميركية تمكنت عبر التاريخ ان تكون مكاناً للتعايش والتفاهم بين الأميركيين والعرب على رغم الاختلافات"، وان الدكتوراه الفخرية التي منحته اياها الجامعة "تعطي الفرصة لجعل العرب والأميركيين يشعرون بالاختلاف الذي يفرقهم وإنما بالروابط الانسانية التي تجمعهم مع بعضهم بعضاً". أمين معلوف وقدم واتربوري أمين معلوف "الصحافي والكاتب الفائز بجائزة غونكور في فرنسا، الذي ابدع كماً هائلاً من الروايات والمقالات وهو يصغي دائماً الى الجذور التاريخية". وقال: "مثل لبنان هو، رجل مفترقات طرق على دروبها تصادمت هويات وأدمجت حيث ان الرحالة كان في الوقت نفسه مراقباً ومتجرداً ومشاركاً في صميم مجريات الأحداث، رواياته تستحضر تقلبات الناس والقيم وامتحان الذات و"الهويات القاتلة" تحاول ادراك العواطف التي دمرت مسقط رأسه لكنها ليست حكراً عليه". ورد معلوف بكلمة امتنان للجامعة وقال: "ان الجامعة الأميركية كانت بالنسبة الى أسرته الطريق الى التقدم". وأسف لأن "الحلم الذي حرك مؤسسي الجامعة والمؤمنين بها منذ بدايتها لم يتحقق بعد"، متمنياً على الاجيال المقبلة ان تقوم بذلك. كارلوس غصن وقدم واتربوري الرئيس والمدير التنفيذي لشركة "نيسان للآليات" كارلوس غصن "الذي ولد في البرازيل عام 1954 ودرس في فرنسا وبرز كأحد ألمع اللبنانيين وأكثرهم تأثيراً، بنى مسيرته المهنية الفذة عن السيارات، وكان مديراً ماهراً وصاحب مبادرات يعرف الانتاجية وكيف زيادتها، كيّف وسائله مع ظروف العمل المختلفة في الولاياتالمتحدةوفرنسا وأميركا اللاتينية واليابان وثمرها بنجاح". ورد غصن بكلمة شدد فيها على أهمية التعددية الثقافية وأهمية التعليم وقال: "ان التعليم بمعناه الواسع هو نوع من حوار مستمر وتبادل في وجهات نظر مختلفة وعملية تستمر مدى الحياة". وأضاف: "ان عمل افراد من جنسيات مختلفة معاً لأهداف مشتركة هو مصدر غنى وتطور انساني"، مشيراً الى انه تعلم كثيراً من عمله "مع آراء وبيئات ثقافية مختلفة لبنانية وفرنسية وبرازيلية وأميركية ويابانية وصينية". وقال: "ان اختلافاتنا كثيرة وتواصلنا شكّل تحدياً في اوقات كثيرة، لكننا كنا نتشارك التزاماً واحداً هو بذل كل كوامننا". حسيب صباغ وتكلم الدكتور واتربوري عن حسيب صباغ مقدماً رئيس مجلس ادارة شركة "كونسوليداتد كونتراكتورز انترناشونال" ومالك 50 في المئة من أسهمها قائلاً: "حسيب صباغ بنّاء بكل معنى الكلمة. ومثل الكثير من الفلسطينيين الذين صهرهم التهجير، صب كل طاقته في انشاء شركات وتشييد مبان، ومثل الكثير من الفلسطينيين أصبح محسناً ثابتاً وتلقائياً، ومن دون وطن يحضن مواطنيه، استعمل وعدداً من زملائه الفلسطينيين ثرواتهم لتوفير الخدمات الأساسية والوظائف للفلسطينيين الذين يكافحون للبقاء في الأراضي المحتلة". وإذ لفت الى ان صباغ أحد خريجي الجامعة الاميركية قال عنه: "رجل عصامي بدأ من الصفر وتغلب على الصعاب وعمل بمشقة، وتألقت أعماله بامتيازها، تخرج في جامعتنا منذ 62 عاماً وتكاد الدكتوراه الفخرية لا تفي عقوده الستة من الانجازات الفائقة حقها". ورد صباغ بكلمة تلتها ابنته سناء قال فيها: "ان شهادته من الجامعة كانت جواز سفر له الى المستقبل وانه بموازاة جسور الصلب التي كان يبنيها كان يقيم أيضاً جسور تفاهم بين مختلف الشعوب". وقال: "بعد 11 ايلول سبتمبر صار من الواجب إرساء حوار بناء بين الشرق والغرب وان الجامعة الاميركية مؤهلة للإسهام فيه". هلن توماس عميدة السلك الصحافي في البيت الأبيض والكاتبة المعتمدة في صحف شبكة "هيرست" قال عنها واتربوري انها "لو كانت رجلاً لكانت منجزاتها متفوقة فكيف بها وهي سيدة؟ ولدت عام 1920 في ونشستر كنتاكي ولم يكن من حولها أي تشجيع لولوج المرأة عالم المهن أو أي قلة قليلة من الأمثلة تحتذي بها، ما يجعلنا ندرك ان ما أنجزته كان عبر ثباتها وكفايتها وطاقتها التي لا تنضب، فهي اخترقت الكثير من السدود والحواجز والأوهام لتصبح المسؤولة الأولى في نادي الصحافة وأول محترفة في جمعية مراسلي البيت الأبيض. غطت عهود كل الرؤساء الأميركيين من كينيدي الى كلينتون ورافقت الكثير منهم في اسفارهم وأدرجت تقليد شكر الرئيس بعد كل مؤتمر صحافي". وردت توماس، التي ارتفع عدد شهادات الدكتوراه الفخرية التي نالتها الى 27 بمنحها شهادة الجامعة الأميركية، ردت بكلمة أبدت فيها افتخارها بكونها تربت على ثراء حضارتين، "من التراث العربي كسبت دفء الصداقة وحسن العطاء وحسن الضيافة والمعروف والعمق الروحي، ومن الولاياتالمتحدة الحريات التي ارساها دستور المؤسسين لا سيما الحقوق، ومنها حق التعبير وحرية الصحافة والمعتقد". وإذ شرحت ما اكتسبته من مهنة الصحافة على الصعيد الشخصي، قالت: "ان المهنة سمحت لي بتسليط الضوء على الاخطاء السياسية التي ترتكب بحق الناس العاجزين والضعفاء". وأملت في "ان يحل، يوماً ما، السلام والعدالة والتفاهم في العالم". الأخضر الابراهيمي المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة الى افغانستان الأخضر الابراهيمي قدمه واتربوري كصانع سلام لا يخاف الاضطرابات والعنف، خاض غمارها تكراراً ولا يكترث للظهور حفاظاً على صدقيته مع كل محاوريه في مختلف الأمكنة الساخنة. مهارته الاستراتيجية والتفاوضية لا منازع لها ولو كان لديه الوقت الكافي لتمكن من كتابة دليل صانعي السلام". ورد الابراهيمي بكلمة عاد فيها الى البدايات في الجزائر وعمله، وقال: "جلت على العالم باسم بلدي والجامعة العربية والأممالمتحدة لخدمة هدف واحد هو تحقيق التعاون والتفاهم بين الأمم والشعوب، وأحياناً ضمن الدولة نفسها. وكانت لي الفرصة لألتقي رجالاً ونساء عظماء واكتسبت كثيراً من معرفتهم وثقافاتهم وحكمتهم وتجاربهم. كما عرفت الانسان في أسوأ احواله، في أنانيته وطمعه وجبنه وتوحشه، تعرفت اليه في احسن أحواله، كرمه وشجاعته وتجاهله للذات، غير ان تجربتي تقتضي مني القول ان الأمل يجب ان يبقى موجوداً وأن الروح الانسانية لا تهزم". وتحدث عن تجربته في لبنان أثناء الحرب ومساعيه الديبلوماسية لإنهائها وأمل بألا تعود تلك الأيام مجدداً. وقال: "انها أول شهادة دكتوراه فخرية أحصل عليها وفخور ان أحصل عليها في الجامعة الأميركية في بيروت، ذلك انها جامعة استحقت الاحترام والتقدير في لبنان والعالم العربي، فهي خرّجت قادة في المنطقة حتى انني ألتقي خريجين منها في افغانستان حيث يشغلون مناصب وزراء ورجال أعمال وأساتذة". ولفت الى "ان الجامعة هي نموذج للتعاون بين الولاياتالمتحدة والعرب والعالم الاسلامي، وعبر هذه الجامعة وإنجازاتها نرى أميركا ونحترمها ونقدرها ونحبها، نرى ان اميركا هي هناك من اجلنا، وعبر الجامعة الأميركية نرى أميركا التي نريدها اكثر هنا حيث نعيش وأميركا التي نريد ان نذهب اليها".