باكراً منذ العام 1985، ومع بدء ال"فيديو كليب" تركيز نفسه كعمل فني له نوع من الاستقلالية، كتب الناقد السينمائي الفرنسي سيرج دافي ملاحظاً ان "الكليب هو ذاكرة السينما، بوصف السينما فناً يختفي. لكنه ايضاً وعد سينمائي بوصف السينما فناً يعيد تكون نفسه، على اي حال. وثمة طريقتان لمشاهدة الكليب: الأولى تنظر إليه كبقايا مقاطع من كل ضائع والثانية بوصفه عارضاً مقاطع من كلّ قيد الاكتشاف. واللذة التي نستشعرها إزاء ال"الكليب" تنبع من هذا التردد بين الطريقتين، حيث يبدو الكليب إما كرسالة مكتوبة بخط اليد نتلقاها متأخرة جداً، وإما كبرقية اكثر التباساً من ان تمكننا من فك رموزها". ما يهمنا من هذا الكلام الصعب، صعوبة لغة سيرج دافي نفسها، ما يجعله في حاجة الى ان يُقرأ مرات حتى يستوعب تماماً، هو ان دافي الذي كان واحداً من اهم نقاد فن السينما - ثم التلفزة - ومنظريها في جيله، أدرك باكراً جداً اهمية فن الكليب، وأعلن في المقال الذي نجتزئ منه هذه الفقرة، انتماء فن ال"الكليب"، الى الفنون الجميلة، بل كاد يصفه ذات يوم بأنه "الفن التاسع" على اعتبار السينما فناً سابعاً، والتلفزة فناً ثامناً. وسيرج دافي حينما كان يكتب مثل هذا الكلام كان يفكر، بأعمال مثل "كليب" اغنية "باد" لمايكل جاكسون والذي حققه مارتن سكورسيسي واضعاً موهبته الفنية كلها في خدمة عمل كان ينظر إليه قبل ذلك على انه مجرد عمل تزييني غايته خدمة كلام الأغنية ولحنها وإرادة المغني ومنتجيه. ونحن هنا، يمكننا الآن ان نقول اننا تأخرنا كل تلك المسافة الزمنية الفاصلة بين ظهور "كليب باد" وكتابة دافي استيحاءً منه، وبين بدء ظهور ما يمكننا ان نسميه اليوم "المدرسة اللبنانية في فن الكليب". ولا شك انه سيحق لمقدم برنامج "سيرة وانفتحت" على شاشة "المستقبل" زافين قيومجيان، ذات يوم ان يقول انه هو من اعلن عن وجودها ككل منهجي متماسك في واحدة من حلقات برنامجه بثت قبل اسبوعين. ولا يعني هذا - لكيلا يساء فهمنا - ان البرنامج هو الذي أوجد هذه المدرسة... هو أعلن عن وجودها فقط، وذلك حين استضاف ثلاثة برزوا في الآونة الأخيرة، ليس من خلال التنظير لهذا الفن، بل من خلال ممارسته بالفعل. ولم تكن استضافتهم في البرنامج سوى صدى لما أثارته اعمالهم - خلال السنوات القليلة الماضية - من اهتمام. ولنسمهم: نادين لبكي وسليم ترك وميرنا خياط. صحيح انهم ليسوا كل الذين يحققون اعمالاً جيدة في هذا المجال، على صعيد الأغنية العربية - بما فيها الأغنية اللبنانية - لكنهم الأبرز هذه الأيام. ولا سيما منذ تفجرت كل تلك الغرابة التي تسم كليبات لأغنيات ليوري مرقدي حققها الترك، قبل ان يقدم ما سمي - لماذا؟ - "أجرأ كليب حقق لأغنية عربية" وهو كليب اغنية "اجمل احساس" للرائعة اليسا؟ ومنذ فغرت الأفواه امام نانسي عجرم، التي ما كانت قبلاً تثير اهتمام احد، وهي تغني "اخاصمك آه" ثم "يا سلام" في شريطين لهما كل روعة الفن الجميل. شريطين من الواضح ان مخرجتهما نادين لبكي ثأرت فيهما كما في كليب آخر لكارول سماحة كانت انجزته قبل ستة اشهر عنوانه "حبيب قلبي" من انتظارها الطويل - وغير المجدي حتى الآن - لتحقيق الفيلم الروائي الطويل الذي تحلم بتحقيقه منذ فاز فيلم تخرجها "شارع باستور" بجائزة، وأيضاً منذ بدأت تظهر اعمال الكليب الاستعراضية الخارجة عن المألوف التي راحت ميرنا خياط تحققها لأغنيات لنوال زغبي وشيرين وجدي وغيرهما. مع ظهور مثل هذه الأعمال انطوت صفحة كان فيها تحقيق ال"كليب" في لبنان - وفي غير لبنان من البلدان العربية - مجرد عمل تزييني همه إظهار المغني النجم وكلبه وشرفة بيته وصاحبته مرتدية سروال الجينز الضيق والكعب العالي راسمة فوق وجهها وجهاً آخر بالألوان الطبيعية، وعمل همه ترجمة كلام الأغنية أو لحنها من دون ان يسمح محقق العمل بنفسه بأية مسحة من الخيال. الآن صار ال"كليب" "وعداً سينمائياً حقيقياً" إن لم نقل شاهداً محفوراً بدقة فوق قبر فهم معين لفن الصورة. وصار ما يمكن ان يوجه من "اتهام" لنادين لبكي، مثلاً، من انها تقتبس من السينما مشاهد وأفكاراً، هو بالتحديد سر السحر الذي يميز هذه الأعمال. فمثلاً حين تختزن نادين لبكي من السينما المصرية صوراً عدة، بما فيها صورة لجسد هند رستم ورقص تحية كاريوكا وحانات البحارة ومعارك فريد شوقي حميدو، تكثفها لتحولها شريطاً في دقائق عدة، او حين تعيد احياء صورة لبطلة "كان ياما كان اميركا" وهي تمسح الماكياج عن وجهها، دامجة اياها مع كواليس مستقاة من شيكاغو او من غيلدا، ريتا هايوراث، او حينما يغوص سليم ترك في عالم السادو - مازوكية والغرائبية الخيالية العلمية، أو ينتقل فجأة الى اقصى درجات اللغة الحميمية في مشهد غرامي - عائلي يعتمد اللقطات المكبرة والأحاسيس، من الواضح ان فن ال"كليب" يكون خرج مرة واحدة من عباءة "اجمل الأزياء"... ومن تلك المتطلبات القديمة التي ترجح "كفة المناظر الطبيعة والمشاهد الوطنية" لتدخلنا مباشرة في عالم لغة الصورة التي هي هنا لغة المخيلة وخزان الذاكرة البصرية في الوقت نفسه. هنا، في مثل هذه الأعمال، لا يعود المهم ان تتطابق الصورة المنكشفة مع الصورة المعهودة للنجم، او على الأقل صورته المراد تأبيدها: تكون صارت وراءنا تماماً صورة كاظم الساهر كنجم محاط بعشرات العرائس يرقصن من حوله وهو يغني "قولي احبك" مذكراً ايانا في كل لحظة انه هنا ليس شيئاً آخر غير المغني النجم الذي تحبه البنات جميعاً. في النوعية الجديدة من الأعمال لم يعد المغني - النجم هو صانع العمل. صار العمل قطعة فنية حقيقية تصنع الأغنية من جديد، في تكامل - وحتى في تنافر خلاق - وبين الأغنية وشريطها، وفي طريقها تعيد صنع الفنان نفسه معطية إياه ولغنائه ولشخصيته دوراً جديداً ومفاجئاً في اللغة البصرية الجديدة. ومثل هذه الأعمال إذ تستقي في معظم الأحيان، مواضيعها من المخزون البصري - السينمائي؟ - المشترك بين المتفرجين، معيدة توظيفه في معان وصور جديدة، إنما تستفز ذاكرة المتفرجين وتتعامل مع مرجعيتهم البصرية جاعلة تاريخهم جزءاً من العمل. وفي يقيننا ان هذا هو العنصر الأساس في اجتذاب اعمال مثل "اخاصمك آه" و"يا سلام" و"اجمل احساس"، لملايين المتفرجين معطية الأغنيات حياة جديدة لم يكن في الإمكان توقعها. ومن المؤكد ان هذه نتيجة ايجابية لدخول فنانين حقيقيين ميداناً كان وقفاً على الصنّاع الحرفيين، ميداناً كان كثير من المهتمين به ينظرون الى اعمال متميزة مثل "كليب" اغنية "الجريدة" لماجدة الرومي متحسرين لأن روعة ذلك ال"كليب" من إبداع فنان اجنبي، متسائلين: متى يصبح لدينا فن من هذا النوع، مكتفين حينها بالتندر على كلب المغني وسروال صاحبته وحمرة شفاهها عارفين انهم إن اغمضوا عيونهم لن يغيب من العمل اي جزء. اليوم، وكما افادتنا حلقة "سيرة وانفتحت" التي عرف فيها مبدعو الأعمال الجديدة - بعضهم على الأقل - كيف يدافعون فيها عن اعمالهم ويشرحون خلفياتها معلنين انهم إنما يحققونها في انتظار حلم السينما ووعدها، اليوم تغيرت الأمور... وصار لدينا فن جديد يمكننا ان نعتبره ضيفاً دائماً في مملكة الفنون الجميلة من الآن وصاعداً.