نادراً ما كانت بغداد تظهر في رسوم أبنائها. من شيخ رساميها عبدالقادر رسام الذي نسي التاريخ اسم أبيه ليكتفي بغوايته الى عبد الأمير علوان، رسام المائيات الوحيد في العراق الذي عرف بشغفه بالمناظر الطبيعية. أتذكر لوحة صغيرة لرسام بريطاني تعود الى القرن التاسع عشر رأيتها في بيت أحد الأصدقاء الخليجيين تصور جزءاً من المكان الذي يطلق عليه اليوم اسم "ساحة الميدان" في بغداد. سحرتني تلك اللوحة الوثيقة - لأنها كما أرى كانت بمثابة محاولة تعرف حميمي ولم تكن تسعى الى التعريف بالمكان. فالحساسية الجمالية التي انطوت عليها يد الرسام كانت أقرب الى شغف الشعر منه الى دقة الوصف. وهو أمر لا نجده في الكثير من المحاولات الفنية التي بذلت من جانب بعض الفنانين العراقيين في خمسينات القرن الماضي لاشتقاق معنى صوري لكثافة العيش في مدينة ساحرة مثل بغداد. فعلى سبيل المثال يمكنني القول ان واقعية العيش في بغداد دفعت برسام متمرد مثل فائق حسن الى أن يهجرها في أربعينات القرن الماضي ويقود حشد مريديه الى أطرافها، حيث الطبيعة كانت لا تزال تملي شروط تحولاتها على المخيلة اللونية. لذلك لم يعلق من بغداد، كونها مكاناً صلباً للعيش، شيء يصور أولئك البدائيين وهي التسمية الأولى لجماعة الرواد التي شكلت في حينه نقلة جديدة في اتجاه استيعاب فهم حقائق المشهد الطبيعي جمالياً. لقد انتجوا رسوماً هي غاية في الحساسية والرقة، غير أنها كانت أسيرة لخيال الطبيعة الذي بسبب شموليته لا ينجح أحياناً في الانتماء الى مكان بعينه، وخصوصاً حين يقرر أن يكون أعمى ازاء الوجود الإنساني. وفي مدائح الطبيعة تلك لم نر على الإطلاق أثراً لإنسان. ولأن الإنسان به وبأثره على المستوى عينه هو المعيار الذي يمكننا من خلاله التحقق من المكان والزمان في الوقت نفسه فقد بدت لوحات جماعة الرواد التي تزعمها فائق حسن، وبدرجة أقل لوحات جماعة الانطباعيين التي تزعمها حافظ الدروبي في منتصف القرن الماضي، وكأنها خيانة مزدوجة للعلاقة بمفهومي الزمان والمكان. ولولا عتقها الظاهر وهي ضمن النفائس الفنية التي نهبت في الأيام الأولى للغزو الأميركي للعراق لظن من يراها انها رسمت اليوم في ريف ما، أي ريف من هذا العالم وفي لحظة غير محددة من الزمن. والحقيقة فإن فائق حسن وهو الذي تتلمذ فنياً في باريس وعشق اللوفر لم يكن يمتلك حساً نقدياً ازاء المكان وفكرة العيش الممكن والواقعي والمحتمل في بغداد لم تكن برأيه ترقى الى مستوى الخيال الأسطوري الذي انطوت عليه لوحات ديلاكروا التي شغف بها، لذلك فقد اختار ان يهاجر الى الطبيعة بأشكالها المطلقة البساتين، الأعراب، الخيول، الصحراء بحثاً عن جمال لا يراه في مدينة تعيش تحولاتها على وقع خطى الإنسان. هذا الأمر كان مقلوباً بالنسبة لبغدادي تنفس هواء البرجوازية في مدينة بدت كما لو أنها تنفتح على العالم في ظل الانتداب البريطاني هو جواد سليم. كان سليم في حقيقته الاجتماعية والثقافية ابناً أصيلاً للمدينة في حين كان حسن ابن فلاحين. وكما يبدو لي فإن شق الاختلاف في نظرتهما الى بغداد وهو ما ألقى بظلاله على نظرتهما الى الفن يبدأ من هذه النقطة الجوهرية في بنائهما النفسي والثقافي والاجتماعي، ففائق حسن لم ير من بغداد ما يليق به رساماً لأنه لم يكن قادراً على رؤيتها من الداخل ذلك لأنه لم يكن يمتلك ما يؤهله لفك طلاسمها في حين لم يكن ذلك الحاجز موجوداً بالنسبة لجواد سليم، هذا الرسام الذي كرس بغداد كونها مصدر الهام لحياة تفارق الرسم في اتجاه مناطق خيال نائية في الجزء الأكبر من حياته القصيرة مات في أربعيناته، ولقد أخذت بغداد بين يدي جواد سليم هيئة المتاهة التي تتشكل بعيداً عن الأنظار ولا تظهر منها إلا حافات الدروب التي جسدتها خطوط حافية، مرسومة برغبة عميقة في اقتفاء أثر واقعة في طريقها الى الغياب. كانت هذه الخطوط بالنسبة لجواد لقية نادرة قادته الى تفاصيل تقنية مذهلة هي أقرب الى الحذف منه الى الإضافة. وكأن الرسام من طريق تلك التقنية كان يسعى الى التماهي مع ما يعصى من المدينة على النظر. هل كانت بغداد موجودة فعلاً في لوحاته؟ وأية بغداد تلك التي سعى جواد سليم الى اختراق حاجز النظر اليها ليذهب في اتجاه ما هو غير مرئي منها؟ في خطوط هذا الرسام المتقشفة والغنية بالتعبير في الوقت نفسه يمكنك أن ترى انفعال الحواس كلها لا انفعال العين وحده، بل ان انفعال العين هو آخر ما يمكن أن نراه في بغدادياته، تلك اللوحات التي رسمت أواخر خمسينات القرن الماضي. أطلق سليم لحساسيته العنان من أجل أن يقيم عرساً للحواس في مواجهة رغبته في اعادة تشكيل بغداد كما خبرها، مادة خيال وليست مكاناً محصوراً بفكرة العيش. كانت بغداده مزيجاً من المرئي والمتخيل، المستعار والمستعاد، مكاناً يتخطى حدود صورته الفيزيقية وفي الوقت نفسه ينشط في القبض على لمعان الانفعال الذي تنطوي عليه الحكايات. كانت بغداد جواد سليم تتمرى بناسها همومهم ومهنهم وانشغالاتهم ولقاءاتهم كما لو أنها سطر فالت من دفتر حياة معيشة مرة ثانية عن طريق الحلم. كان جواد سليم على المستوى الفكري ابن مرحلته، حيث كان الأمل يومها صناعة محلية، غير أن كشوفاته على المستوى التقني لا تزال في الجزء الأكبر منها تحتل حيزاً مهماً من المشهد التشكيلي الحداثوي على المستوى العربي. كانت تجربة جواد سليم الفنية في مرحلة البغداديات منطقة للقاء تم بصيغة ما بعد حداثوية بين الرسام العراقي القديم محمود بن يحيى الواسطي وبين الرسام العالمي بابلو بيكاسو وبتأثير أقل ماتيس. وإذا كان الأسلوب هو الذريعة والقناع الذي نتج من هذا اللقاء الغريب فإن حضور بغداد، كونها موضوعاً كان كافياً لتفسير هذه النزعة الكونية التي تمزج الأزمنة ببعضها ولا تعترف بحدود المكان. فبغداد التي رسمها سليم هي بغداد التي عاشها وخبرها وعرفها وحلمها واستمكنها وأنصت اليها وشمها ولمسها وأولها وتذكرها وقرأها وفارقها ومشاها وحلق بها ونادمها وهجرها وشكاها. لم تكن بغداد بالنسبة اليه موضوعاً جاهزاً للرسم كما الحياة الصامتة، فهي لم تكن موجودة لترسم بل كانت الرسوم تخترعها أو تخترع جزءاً منها، لكن بمادة مستلهمة من حضورها التاريخي والثقافي والاجتماعي، بالمعنى الذي يفصح عن قدرتها على العيش وهي غائبة. لم يكن سليم يستعيد بغداد كما لو أنها زمن ضائع، بل كان يذهب الى غيابها كما لو أنه واقعة جمالية مفترضة، واقعة تستدعي الوقوف عندها. هذه الفكرة استفاد منها رسام عراقي آخر ليصل بها الى حدود التصوف والوله الروحي. فمع رافع الناصري بدت بغداد وكأنها طالعة من خيال الكتابة الصينية. يقرأها أبناؤها ويصرع جمالها الغرباء. فهذا الرسام الذي انتشى بالحرف العربي حيث وجد ضالته التي تترجم سنوات غيابه في الصين صار يرى ومنذ أن هدأت حمى التجريب الستيني في بغداد موضوعته الأثيرة. فكان معرضه في بداية ثمانينات القرن الماضي أدعية الى بغداد بمثابة قراءة صوفية لمدينة في طريقها الى الخراب. لم يكن ذلك المعرض حدثاً نبوئياً، فهذا ما لم أقصده، بل كان حدثاً إشارياً. كان رافع الناصري فيه هو المعني بصلابة العيش في مدينة أسطورية مثل بغداد. وفي الحقيقة فإن الناصري على رغم تمرده الستيني وهو تمرد لا يخالطه الشك فإن عينه كانت متجهة الى جواد سليم الخمسيني بامتياز ريادته، ذلك الرسام الذي وهب مدينته حياة متخيلة من خلال الصور. حياة تفرض سحرها كما لو أنها وقعت فعلاً. علاقة هي مزيج من الرهبة والحسد والانبهار، دفعت الناصري الى اقتراح بغداده جمالياً وهي كما ظهرت بغداد أخرى. مدينة لا ترى إلا من خلال أهلتها. فإذا ما كان جواد سليم قد نظر الى بغداد من موقعه كائناً أرضياً فإن رافع الناصري قد رأها من الفضاء، مدينة خلاصات، تذهب الى القول في كل ثنية من ثنيات عطائها المعماري الذي يثني على عبقرية رخائها. لقد استعرض الناصري بغداد كما لو أنها المدينة الفاضلة، مدينة الأبجدية التي لا يخطأها قمر ابن زريق البغدادي. موحشة ومنتقاة، صارمة وأنيقة. لقد صنع الناصري بغداده التي تشبهه الى حد كبير. فهل كانت هذه البغداد صلة الوصل التي تكشف عن اعجابه بفن جواد سليم أم أنها كانت العصا التي تومئ الى مكان آخر، مكان لا تكون رسوم سليم فيه هي البوصلة الوحيدة التي تشير الى بغداد؟ كما قلت فإن رسوم الناصري تقترح بغداد أخرى. وهي بغداد شخصية الى حد كبير، لا مكان فيها للرجع الثقافي السائد. فهي لا ترى ولا تذكر ولا تستعيد ولا تستعار. فالتة من الزمن، ليس الواقع مكانها بل اللوحة. طرد هذا الرسام الناس من لوحاته كما يفعل أي تجريدي منفعل بموسيقاه المرتجلة واكتفى بأثارهم. صارت بغداد بين يدي هذا الرسام العلامة التي يمتزج عندها المكان بناسه، الزمان بذاكرته، الليالي الألف بروايتها، الحلاج بصليبه. صارت الهواء الذي يتلقف الأدعية ليبثها كما لو أنها وشاية. كانت بغداد الناصري أقرب الى رؤيا المتصوف منها الى حكمة الشاهد. وهكذا فإن قدر هذه المدينة أن لا يراها أقرب الناس اليها، أباؤها الخارجون من لجة خيالها. أن لا تظهر إلا بصيغة الاختراع الشخصي. وكأنها لم تكن موجودة، أو أن ما يظهر منها لا يكفي للابلاغ عنها والارتقاء الى مستوى حقيقتها. مدينة كامنة، صورتها لا يمكن النظر اليها إلا من خلال عينين مغمضتين. وهي رهينة نومها الأسطوري بين دفتي كتاب هو الأشهر بن الكتب. وكما أرى فقد انتحل جواد سليم ورافع الناصري وهما الأكثر من بين الرسامين العراقيين شغفاً بأسرارها، كلاً من جهته، بغداده التي يشعر انها المكان المتخيل للعيش. مدينة مفترضة تعيش تطرفها النزق ما بين احتمالين: ترف جمالي لا يخفي شظف العيش كما لدى جواد سليم أو اشراق صوفي مطلق لا يتستر على لوعته كما لدى رافع الناصري. وفي الحالين فإن هنالك رثاء واضحاً تفصح عنه الألوان والخطوط، على رغم ثرائها وغموضها ورخائها وصمتها. وفي بعض تفاصيل هذا الرثاء ما يعيننا على القبض على السر الذي دفع بهذين الرسامين الى الامتناع عن النظر الى صورتها، حيث اندفع كل واحد منهما الى صنع صورة للمدينة التي يستدعي سحرها الجمالي الكامن ذاكرته التقنية. صورة تحتفي بالنسيان، فلا تقع في سوء فهم فولكلوري كما حدث لمقلدي جواد سليم الذين ما زالوا حتى اللحظة يجوبون الآفاق وهم يتباكون على بغداد التي مضت الى زوالها. ان أعظم وأغرب حكمة تقولها أعمال هذين الرسامين اللذين أحبا بغداد الى درجة الوله: ان المدن تزول أما اللوحات فتبقى.