أسئلة الفيلم والثقافة، الخطاب الفيلمي والشكل، تتداخل كلها في توصيف العلاقة المعاصرة بين الفيلم والمتلقي. وهي تطرح على اكثر من مستوى، لعل ابسطها ان المشاهدة الفيلمية في حد ذاتها هي فعل تبسيطي من جهة ذهاب المشاهدين الى صالة العرض كنوع من انواع الترفيه ثم الأستغراق في المشاهدة المنزلية كنوع من التسلية وزجو الوقت وقتل الفراغ. ربما كانت هذه الأوجه هي التي حولت الفيلم الى أداة تداولية يومية ومن ذلك ان ثمة فارقاً بين قراءة الأدب والمشاهدة الفيلمية، وربما كان فعل القراءة اكثر جدية وتركيزاً من المشاهدة ذاتها. بموازاة ذلك تحيط المرء كل يوم احداث عالمية سياسية واجتماعية ورياضية وغيرها يتوقف عندها ويناقش ابعادها مع الآخرين بجدية واهتمام اكثر بكثير مما هي الحال في الفيلم في معظم الحالات. انها احالات واقعية لتفاعل / لا تفاعل مع الصورة الفيلمية يخرج عن اطار النظر الى الفيلم كترفيه بل تتجه الى استقصاء بنية الفيلم كبناء ونسق ثقافي. من هذه النقاط مجتمعة ينطلق البروفسور والمنظر الجمالي روبرت كولكر استاذ الدراسات الجمالية وفن الفيلم في جامعة جورجيا في قراءته للفيلم في كتابه: "الفيلم، الشكل والثقافة"، الصادر حديثاً في 260 صفحة. الصورة والواقع: اسئلة لا تنتهي يبدأ المؤلف قراءة للفيلم من احالته الى واقع ما .. من تلك الوشيجة التقليدية في استقراء الواقع ونقله ويأتي بمثال مهم وذلك في الفصل الأول من الكتاب الذي يحمل عنوان "الصورة والواقع"، هذا المثال هو مشهد من فيلم ذائع الصيت اتيح لكثير منا مشاهدته وهو فيلم "قتلة بالفطرة" 1994 لأوليفر ستون، يقدم الفيلم مشهداً مؤثراً يتمثل في قيام الشرطة بالقاء القبض على نيكي - احدى شخصيات الفيلم - وذلك داخل متجر يبيع انواع العقاقير الطبية، لم يكن المشهد خالياًَ من العنف والغطرسة، لكنه اعاد الى الأذهان قصة هزت الرأي العام في سنة 1991 وتمثلت في هجوم حشد من الشرطة على شخص اميركي من اصول افريقية يتهم بتعاطي المخدرات او تداولها. والذي حصل ان الشرطة هاجمته بشراسة شديدة مبالغ فيها واوسعته ضرباً ونكلت به في مكان عام، وبطريقة او اخرى تصور الواقعة وربما كانت عدسة المحل هي التي التقطت، وما تلبث ان تعرض على عموم شاشات الولاياتالمتحدة ويشاهد الناس عملية اعتداء سافرة من الشرطة على انسان لم تثبت ادانته ولم يقم بعمل مناوئ للشرطة او للقانون بل لمجرد الأشتباه به، وسرعان ما اعادت تلك االسلوكيات الى الأذهان قصة انتهاك حقوق الملونين وعدم الأكتراث بحقوق الأنسان في بلد الحرية الأول. في اثناء المرافعة الخاصة بتلك القضية مارس القضاة والمحلفون قراءة تطبيقية للفيلم الذي صور الواقعة وجاؤا بخبير وبدأ تحليل الفيلم تكنيكياً بأبطاء الحركة واستخدام اللقطات القريبة والأعادة والتقديم وهكذا صارت الواقعة الحقيقية معطى فيلمياً خالصاً. على اساس هذا المثال يؤسس المؤلف فكرته في التمييز بين الواقع والصورة وبين الكلمة والأفتراض، فهو يتوقف عند الأستخدام اللغوي الألسني، من منطلق تجريدية اللغة وعمومية المعنى في مقابل خصوصية العرض وتأطير الحالة، فالمدينة هي مدينة والشخص هو اي شخص اما الصورة فتحد الأجابة من و أين اي عن الفاعل ومكان الفعل. وعلى هذا الأساس يفترض المؤلف ان الصورة وفق هذا التحديد كانت اقرب الى المتعة الجمالية، ولهذا فأنه يستنتج أن الانسان رسم وعبّر عن نفسه فنياً وجمالياً وحسياً قبل ان يكتب. انطلاقاً من هذا وللقوة التعبيرية للصورة فقد تركت الصورة الفوتوغرافية تحديداً اثراً ما لدى المتلقي ولهذا كانت للصورة الأعلانية قوة اثر نفسي وانفعالي يفضي الى قبول وتفاعل معها ولاحقاً مع المادة التي يجرى تسويقها. اذاً، اصبح التعبير عن الواقعية عبر الصورة، ليس تعبيراً تجريدياً فحسب، بل هو تعبير للفهم، لادراك الصلة، انا، وانت والآخر وهذا العالم الذي يتجسم ويختزل امامنا كل يوم عبر الصور الرقمية التي لا ينقطع مدها. وامتداداً لهذا يتابع المؤلف "سيرة الصورة" عبر مراحل تطورها التكنولوجي، بتطور السينما وتحولها الى صناعة ضخمة، فهل تخلت السينما عن تعبيرية الصورة وواقعيتها في ظل هذا التحول؟ قوة السرد الفيلمي تحيلنا تعبيرية الصورة الى منطقة اخرى في القراءة الفيلمية، هي قوة السرد وتنطلق هذه من حقيقة ما يقوله الفيلم او ما يرويه، وعند الوصول الى هذه المنطقة نكون قد وصلنا الى شبكة المرويات ضمن بنى السرد. والسرد - بحسب المؤلف - هو بناء او معمار القصة، وبمقدار عنايتنا بتتبع بنى السرد وشبكة المرويات، فأننا بصدد قراءة الحبكة، لأن الأقتراب من الحبكة ببساطة شديدة هو اقتراب من الآلية التي بموجبها يتم توزيع الأحداث الفيلمية او القصصية او الروائية على مسار الزمن. وبذلك يقترن المروي بالعامل الزمني وبفعل الشخصيات كما يذهب المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب. ويقود الأنتقال من الصورة الى السرد ومن السرد الى الحبكة الى الأنتقال من المحتوى او المضمون الفيلمي الى الشكل الفيلمي، وذلك لأن القراءة الجمالية للفيلم سرعان ما تؤطر البناء الفيلمي بهذه الشبكة الكثيفة من المعطيات. من هذه النقطة يذهب المؤلف الى ان البناء الفيلمي انما يقوم على نسق شكلي/ بنائي، ثم معنوي "مقترن بالمعنى وتوليدات الصورة". لكننا في هذا لن نعدم الصلة بالمتلقي التي سرعان ما ستتحول الى صلة عاطفية ما حالما ننتقل الى استقراء المعنى في الفيلم. فالصورة هي اداة توليد للمعنى، وهي موجهة له عبر الغزارة التعبيرية للفيلم. يعرض المؤلف نماذج وامثلة من الأفلام المعاصرة ليؤكد الفاعلية السردية للصورة فيعود الى سبلبرغ في قراءة نسقية للصورة من خلال حركتها وحجمها ويناقش بأسهاب وظائف احجام اللقطات والقطع المونتاجي واللقطات العكسية و"الميزانسين" ويقترب في كل هذا من التجارب السينمائية الأولى للرواد مثل الرائد الروسي آيزنشتاين الذي يقرأه المؤلف قراءة جمالية / سردية ويمضي باتجاه صانعي الصورة مقترباً من دور المخرج وكاتب السيناريو وغيرهما من مفاصل وفعاليات انتاج او صنع الصورة وهو ما ناقشه المؤلف في الفصل الثالث. الفيلم ممارسة ثقافية؟ لاشك في ان الصفة الاقتصادية / التكنولوجية هي السائدة في النظر الى الفيلم اليوم بعد التطور التقني المبهر والتقنيات الرقمية التي دخلت على الصناعة الفيلمية، يضاف الى هذا السباق المحموم على شباك التذاكر والملايين من الدولارات التي تجنيها بعض الأفلام عند عرضها في الأسبوع الأول وهو مقياس مهم وصار مقياساً تقليدياً في عرف هوليوود... ولا ينفصل هذا كله عن السؤال الذي يردده صانعو الفيلم: كيف يوجد الفيلم جمهوره وكيف يوفر القناعة في ما يشاهده ويجذبه تباعاً؟ وهو السؤال الأساسي الذي يطرحه المؤلف محوراً للفصل الرابع من كتابه. من هنا كان الفيلم وسيطاً مرئياً / مسموعاً اكثر سهولة في الفهم والتفاعل من المشاهد وهو لا يحتاج الى مقدرة ذهنية عالية لكي يستوعب احداثه، هذا اذا استثنينا افلاماً محدودة في التجارب الأوروبية كما يقول المؤلف كأفلام برتولوتشي وفلليني وغودار وانطونيوني وبرغمان وغيرهم... ولكننا في الوقت نفسه نجد جمهوراً ما ينفك يقيم صلة وصل مع الثقافة. انه الجمهور الذي يرغب في مشاهدة افلام مأخوذة عن روايات هنري جيمس وجين اوستن وغيرهما من هذا المستوى. لكن جمهوراً آخر يمثل شريحة من الشباب يندفع نحو افلام ذات عناوين فيها جاذبية وتمتلئ بالأثارة والتشويق والمطاردات والمفاجآت غير المتوقعة والصراعات المعقدة... بموازاة هذا سيبرز السؤال: هل يمكن فصل الثقافة عن السينما؟ وقبل الأجابة سنحدد الثقافة بأنها "نص يحمل تفاصيل وجودنا"، ما نعتقده، ما نؤمن به، الفن الذي نريده، الحضارة التي نشكلها، الجمال الذي نتفاعل معه... هذه كلها... كما يقول كولكر. من هنا فأننا سنبحث عن شكل ما للثقافة بمقدار صلتها بفن الفيلم، وستتحدد هذه الثقافة بمستويين هما: الثقافة العالية او الرفيعة وهي التي تخص شريحة المثقفين، والثقافة الشعبية. في كل الأحوال يمكننا القول ان الفيلم وجد لكي يدمجنا او يقربنا من نصه السردي. وبالتالي من النسق الثقافي الذي يحمله. ولقد ترتبت على هذا البناء السردي اشكال متعددة من التلقي بمعنى انها تعتمد الوسيلة او الأداة التي يتم بموجبها ذلك التدفق السردي وقاعدة ذلك هي التكنولوجيا. اذ باستخدام تقنيات الصورة والصوت نكون امام نمط محدد من السرد ووجهات النظر وعمق الكادر وحركات الكاميرا وكلها ادوات تدعم السرد وتقدم رؤية ما من المخرج لما يريد ان يقوله اما بلغة متقدمة عالية في تعبيريتها، وإما قاسماً مشتركاً مع شرائح متباينة المستوى. الشاشات: مستقبل الصورة في فصل اخير يبحث المؤلف في استراتيجية الصورة، في مستقبليات البناء السمعبصري، وهو ينطلق من حقيقة الأندماج الكامل بين الكومبيوتر كمنظومة تكنولوجية - اشارية - سمعبصرية وبين الشاشات، وذلك ابتداء من عام 2000 الذي توجت فيه هوليوود اعلى درجة من المزاوجة بين الشاشات والفضاء "السبراني"، ويناقش البحث الجزء الأول من فيلم "ماتريكس" للمخرجين الأخوين واتشوسكي -1999- الذي يقدم عالماً افتراضياً تتوحد فيه لغة الكومبيوتر مع جماليات السينما. ويؤكد المؤلف ان كثيراً من مفاهيمنا وقناعاتنا حول الصورة بدأت تتغير بالتدريج، اذ ان عالم الشريحة الفيلمية سلولويد قياس 35 ملم ما يلبث ان يتغير تباعاً... وينتقل الباحث الى استقصاء النظرة الى الشاشة الصغيرة ابتداء من الألفة مع الشاشة من خلال المشاهدة المنزلية او في الأماكن العامة وانتهاءاً بطابع التعود على البرامج الأخبارية وغيرها من البرامج التي اوجدت بتطور التقنيات والبث الحي والمباشر، اوجدت جمهوراً ذا خبرة بالشاشات وليس من اليسير اقناعه بما نقدمه له بسهولة. ويؤكد الباحث ان التلفزيون يتحول قدماً الى وسيط ثقافي يكرس ثقافة نمطية خاصة به. فهو بهذا الجمهور العريض انما يبرمج خطاباً سردياً متواصلاً مقترناً بتجدد الأحداث. وتجدد المنجز الصوري وتجدد برامج الترفيه وتنوع الأفلام بحسب مدى البث اليومي المتواصل طوال ساعات الليل والنهار. ويناقش المؤلف مستقبل الشاشات المدمجة والمجسمة والرقمية وأثرها في بناء الصورة كما يناقش البناء الذهني / الصوري لألعاب الفيديو.