قراءة : احمد سماحة عندما نتكلم عن السينما فإنما نتكلم عن فن ترسخت قواعده، وأصبحت له خصوصياته وبلاغته وتنظيراته، مقتنعين تماما بأهميته وعلاقته الوطيدة والحميمة بالفنون الأخرى، بما فيها الأدب من "قصة ورواية وشعر وغيرها". فالسينما ليست نسخا للواقع تنقله تلك الآلة (الكاميرا) بل إنها تعيد تكوين هذا الواقع في صياغة جديدة ليست منسلخة عن واقعيتها تماما، كما تفعل الفنون الأخرى، إنها تستحق منا أن نطلق عليها كلمة (سحر)، متفقين مع الناقد "كلود مورياك" في قوله: "ها هي كلمة سحر تجعلنا نلمس ما عساه أن يكون سر الكمال الزائل في السينما الجيدة". إن الفنون أيا كانت تجسد الحلم.. إنها تنزع إلى إعطاء شكل لما هو غير محسوس، والسينما بين جميع طرق التعبير هي الطريقة التي تتمتع بأكثر الوسائل إقناعا في اقتناص الموج الشاعري أولا؛ «لأنها لاتجمده كما تفعل الفنون التشكيلية، وثانيا: لأنها لا تبطنه نتيجة لذلك كما يفعل الأدب». وهي بذلك تستفيد مما كانت تفعله قوة المسرح المعمرة، لكن للشاشة على المسرح تلك الميزة الأخرى وهي قدرتها على إسباغ اكبر مظاهر الواقع على ما هو غير واقعي بل إنها خير من هذا، تكشف ما وراء الواقع في قلب الواقع ذاته، هذا هو عالم السينما الذي يحمل تفرده والذي يتطلب الكثير من الجهد للكشف عن هذا التفرد، وان كنا نعلم أن الكثير من البحوث في مجالات التصوير والأدب والفلسفة قد مهدت الطريق لهذا الفن "برؤيتها الجديدة للأشياء ولعلاقاتها الطبيعية في العالم"، ولكن هذا وحده لا يكفي، فالصورة السينمائية كالصورة الأدبية تماما تحتاج إلى تحليل لإظهار عناصر بلاغتها من استعارة ورموز وغيرها، وما تحتويه من أفكار، كما أن للصورة الفيلمية إيقاعها ودلالاتها مما يقر بها كثيرا من الصورة الشعرية في الكثير من جوانبها. إن السينما هي الفن الوحيد القادر على كسر الحاجز الذي تزداد سماكته دوما، والذي يقف بين العمل الفني والمتلقي، لأنها فن "إتاحة الرؤية" ووسيلة المعرفة الجيدة لفهم العالم، والمشاركة الإنسانية وذلك لطبيعتها كفن جماهيري. إن كاتبا "كروبرت بريسون" وضع أيدينا على حقيقة هامة، حينما قال: "السينما ليست مشهدا بل هي كتابة"، فهو لا يكتب داخل "البلاتوه"، بل يجب أن يكون موجودا على الشاشة. إن السينما ليست صورة لشيء بل أنها بذاتها شيء، "إن هذه الحقيقة تقودنا بلا شك إلى عالم اللغة وتدفعنا إلى التساؤل مرة ثانية عن حقيقة اللغة السينمائية، وما ثار من جدل حول كينونتها ..لم يحسم حتى الآن"، ورغم اتفاق الكثيرين من النقاد، مثل: جان كوكتو، والكسندر ارتو، وجان ابشتين، ومارسيل مارتن، وغيرهم واختلاف البعض، مثل: "كوهين سبات، وجابرييل اوريزيو.. ألا أننا وبجميع المقاييس نتفق مع من يعتبرون السينما لغة؛ لأنها في النهاية وسيلة تعبيرية، أو وسيلة لنقل الأفكار وان كان المجال لا يسمح هنا بعرض أفكار المؤيدين والمعارضين إلا أنني سأنقل لمارسيل مارتن الذي أثار هذه القضية وخصص لها أحد أبحاثه هو "اللغة السينمائية"، قوله: "من ذا الذي لا تدهشه القوة التي تفرض السينما بها نفسها في ميدان البحث عن لغة مثلى؟ والحق أن الأشخاص والأشياء ذاتها هي التي تظهر وتتكلم في السينما، وما من وسيلة اصطلاحية بينهم وبينها فالمواجهة مباشرة والإشارة والشيء المشار إليه هما هنا شيء واحد وكائن واحد". "إن الكلمات التي هي اشارات تنتهي بها التغيرات المتتالية التي تطرأ عليها إلى أن تصبح أشكالا بسيطة خاوية تماما، او على الأقل مفتوحة لكل المضمونات، لفرط تنوع المعاني التي يسعها أن تلبسها عند مختلف الأفراد. أما الصورة الفيلمية فهي على العكس من ذلك دقيقة دقة كاملة وليس لها غير معنى واحد. على الأقل فيما تمثله. ان لم يكن في الامتدادات الإيديولوجية التي تبثها في كل متفرج". إننا إذ نتفق -ولو ضمنا- على كون اللغة السينمائية حقيقة واقعة، (وهذا ما نلمسه على الأقل من الناحية الوظيفية)، فإننا يلزمنا البحث في مفردات هذه اللغة أو مادتها الأساسية (الصورة) واضعين في اعتبارنا القيمة الجمالية كهدف ضروري. ومدركين أن السينما فن الانتقاء، أي انتقاء المفردات (الصور) وتنظيمها وأنها في النهاية فن الصور المتحركة. ومن وجهة نظري إنها تعتبر من اكثر الفنون "جمالية". الصورة الفيلمية: إننا حينما نتحدث عن الصورة الفيلمية، إنما ننوه إلى حقيقة هامة وضرورية، وهي حركية هذه الصورة أي ارتباطها بالحركة "القيمة الجمالية للصورة"، فتلك هي المفردة الرئيسية في اللغة السينمائية" والتي تميزها عن باقي الفنون الأخرى وبدون هذه الحركة فإننا نكون قد اتجهنا إلى فن آخر غير السينما فالحركة هي إحدى أهم المقومات في واقعية الصورة، والتي تشكل بالإضافة إلى مقومات أخرى، مثل: الصوت، واللون، عناصر هذه الواقعية التي تتميز بها السينما عن الفنون الأخرى، تلك الواقعية التي تجذب المشاهد وتجعله يندمج في إطار الحدث المروي. وليست الواقعية وحدها بعناصرها الحركية والصوتية واللونية هي السمة الرئيسية للصورة الفيلمية، ولكن هناك عدة عناصر أخرى لعل أبرزها هي قابليتها للتشكيل. ولنا أن نقف قليلا أمام هذه الخاصية، إذ أن هذه الخاصية هي التي تحدد في النهاية كما يقول مارتن: "المضمون الفيليمي".. من وجهة نظر المبدع "والمضمون الذهني" من وجهة نظر المتفرج، إن قابلية الصورة للتشكيل إنما تعني مقابلاتها بالصور الأخرى لاعطاء المضمون او "المعنى"، وهذا يبين لنا مدى ما للصورة الفيلمية من قدرة على المرونة لاعتبارها عنصرا حيويا من عناصر التكوين داخل البنية الفيلمية المتشابكة والغنية بالتفاعلات والتفسيرات، كما أن لها مضمونها الدال الذي يهمله الكثيرون عند تحليلهم لها. إننا عندما نتكلم عن الصورة الفيلمية بهذا الشكل، فإننا نقترب كثيرا من الصورة الأدبية وخاصة على الصعيد البنيوي، حيث تتناول الصورة بنية متشابكة العلاقات "تتفاعل لتنتج الأثر الكلي الذي يتفتح على العمل الفني ويضيء أبعاده. وكما ان الصورة الفيلمية كما أشرنا عنصر دلالي في المضمون الفيلمي، فان الصورة الأدبية أيضا تحمل هذه السمة. فالصورة في كلتا الحالتين تفعل على مستوى واحد هو المستوى الدلالي. ان الحديث عن الصورة بهذا الشكل يقودنا إلى خاصية أخرى من خواص الصورة الفيلمية، هي خاصية التعبير الأوحد. وهي ضمن الخواص التي حددها "مارتن" في كتابه "اللغة السينمائية".. ان تلك الخاصية لا تتأتى للصورة الفيلمية الا بحكم واقعيتها العلمية التي لا تلتقط في الحقيقة الا مظاهر دقيقة ومحددة تماما لطبيعة الأشياء.. وهذه الخاصية بالطبع لا تتعارض وقابلية الصورة للتشكيل التي تحدثنا عنها في السطور القليلة الماضية. إنني اعتقد أن الصورة الفيلمية بخواصها تلك إضافة إلى خاصيتي "الواقع الفني للصورة" و"حاضرية زمن الصورة"، كانت مطمحا حاولت الكثير من الفنون الأخرى ترقى إليه، فارتكاز الشعراء وخصوصا القدماء منهم على الأبعاد والمظاهر الحسية وتحديد الألوان والأحجام.. ومحاولات الفن التشكيلي الدائبة في إسباغ عنصري الزمان والمكان على لوحاتهم عبر عمق الصورة والإطارات المائلة، وجهد "مونيه" الدائب في تثبيت الميوعة المتلاشية للعلاقات بين الظلال والأنوار. كل هذه الجهود كانت تسير باتجاه الصورة الفيلمية التي استطاعت أن تكملها وتطورها وتصنع منها فنا مستقلا هو الفن السابع أو فن السينما، هذا الفن الذي استطاع أن يجمع بين عنصري المسافة والزمن اللذين لا يجتمعان في فن واحد "على ما اعتقد"، ولعل تلك الميزة هي سر تفرد هذا الفن.. الذي يتطور دائما بدرجة كبيرة جعلت الحركة النقدية تلهث وراءها واوقفت الكثير من المنظرين عند مسافة معينة لم يتجاوزوها حتى الآن.. مما حدا بذهنية المتفرج والملتقي الواعي والمثقف إلى الوقوف أمامها في حيرة، لم تفلح الكتابات القليلة والكتب المحدودة العدد في العمل على تلاشيها. ونظرا لأن النقد التطبيقي المشتت هو الغالب الآن في مجال الفن السينمائي؛ فلن يرجى خير إلا بمضافرة الجهود في البحث والكتابة والنقد الواعي، خاصة وأن بعض مشكلات هذا الفن ذات طابع أدبي أيضا. ولعل ما سطرته في هذه العجالة، يكون مدخلا أوليا للدخول إلى هذا العالم الرحب "عالم السينما"، من باب الدراسات النظرية الأدبية. «حواشي» للمزيد من الإضافات حول ما طرح في هذا الموضوع يمكن الرجوع إلى: 1 كتاب الفيلم والجمهور.. مانفيل. 2 اللغة السينمائية ..مارسيل مارتن. 3 الفن والواقع.. 4-في السينما. جان بيير.