لا يزال حجم السندات التي أصدرتها الحكومات العربية في الأسواق الدولية صغيراً نسبياً، إذ لم يتجاوز مجموع هذه الإصدارات 20 بليون دولار في نهاية عام 2002، أي ما يشكل نحو 12 في المئة من إجمالي الدين العام الخارجي للدول العربية ككل، مع تفاوت كبير في ثقل السندات بين دولة وأخرى. وتشكل إصدارات لبنان وحده أكثر من ثلثي مجموع السندات الدولية الصادرة عن الدول العربية، علماً أن الدين الخارجي للبنان لا يتجاوز تسعة في المئة من إجمالي الدين العام الخارجي للبلدان العربية. ويعزى ذلك إلى عوامل عدة أهمها التوتر السياسي الذي ساد المنطقة، والصعوبات الاقتصادية التي واجهها بعض البلدان لا سيما مصر والمغرب، ولكون الاقتراض المصرفي أقل كلفة من إصدار السندات في الأسواق الدولية الذي يتطلب توافر شروط كثيرة، كالحصول على تصنيف معترف به عالمياً والتزام معايير المحاسبة الدولية وغيرها من قواعد الشفافية والإفصاح. وتحسنت أسعار السندات التي تصدرها الدول النامية في أسواق المال العالمية بما فيها السندات الصادرة عن عدد من الدول العربية بشكل ملموس خلال الشهور الستة الماضية، ما جعل العائد على الاستثمار في هذه الأدوات أفضل من العائد على العديد من الأدوات الاستثمارية الأخرى خلال تلك الفترة. وسجل الهامش بين العائد على سندات الأسواق الناشئة والعائد على سندات الخزانة الأميركية تراجعاً من 7.3 في المئة في تشرين الاول أكتوبر عام 2002 إلى 4.3 في المئة أخيراً، حسب مؤشر سالمون لأسواق السندات الناشئة. وأما العائد المتحقق على الاستثمار في السندات العربية الصادرة في الأسواق الدولية، فقد كان أعلى من ذلك، إذ أن السندات التي أصدرتها مصر بالدولار وتستحق عام 2011 حققت أرباحاً رأسمالية وصلت إلى 31 في المئة خلال الاثني عشر شهراً الماضية وتلتها سندات قطر التي تستحق عام 2009 بنسبة 20 في المئة، والسندات التي أصدرتها تونس والتي تستحق في عام 2007 بنسبة 12 في المئة. كذلك سجلت سندات الأردن السيادية بريدي بوندز أرباحاً رأسمالية بنسبة 13في المئة، وفي المعدل، يكون الاستثمار في السندات العربية الصادرة في الأسواق الدولية قد حقق عائداً سنوياً يزيد على 20 في المئة خلال هذه الفترة. وساهمت عوامل عدة في ارتفاع أسعار السندات العربية المصدرة في الأسواق الدولية، منها انخفاض أسعار الفائدة العالمية وتحسن المناخ الاستثماري مع انتهاء الحرب على العراق والذي شجع العديد من المستثمرين على أخذ نسبة مخاطرة أعلى وارتفاع درجة التصنيف الائتماني لكل من تونسولبنانوقطر والبحرين. ولقد تزامن ارتفاع أسعار السندات العربية مع تراجع الفائدة على سندات الحكومة الأميركية إلى أدنى مستوى لها منذ 40 عاماً، إذ أن العائد على هذه السندات هبط إلى 1.25 في المئة للسندات ذات آجال السنتين، في حين تراجع العائد على سندات الحكومة الأميركية ذات آجال خمس سنوات إلى 2.25 في المئة والعائد على السندات ذات آجال عشر سنوات إلى 3.25 في المئة. كما أن العائد على السندات ذات آجال السنتين التي تصدرها الحكومة الألمانية تراجع إلى 1.84 في المئة، وانخفض العائد على السندات الحكومية اليابانية ذات آجال عشر سنوات إلى 0.5 في المئة. ولابد للقارئ غير المتخصص أن يميز بين السندات والأسهم، فالمستثمر الذي يشتري سهماً يصبح مالكاً في الشركة المصدرة للسهم وعندما يشتري سنداً يصبح دائناً للشركة أو للحكومة المصدرة للسند والتي تتعهد بأن تعيد له استثماره بتاريخ الاستحقاق إضافة إلى الفائدة المتحققة عليه. فالسندات إذاً هي أدوات دين توفر معدل فائدة محدد يُعرف بالقسيمة أو الكوبون والذي يُدفع للمستثمر الذي يشتري هذه السندات كل ثلاثة أو ستة شهور، وتتحدد أسعار هذه السندات في الأسواق المالية تبعاً لتوجهات أسعار الفائدة وقوى العرض والطلب. ففي الفترة التي يتباطأ فيها النشاط الاقتصادي وتقوم البنوك المركزية بتقليص أسعار الفائدة تماماً، كما حدث في الولاياتالمتحدة وأوروبا منذ عام 2000، تتجه أسعار السندات إلى الارتفاع. وعندما يكون الاقتصاد قوياً يحصل العكس، فترتفع أسعار الفائدة وتتراجع بالتالي أسعار السندات. وعندما يقوم مستثمر ما بشراء سندات ذات فائدة سنوية ثابتة، فإنه يتعرض لمخاطر "تقلبات سعر الفائدة"، فالذي دفع مبلغ 1000 دولار لشراء سندات تستحق بعد خمس سنوات بسعر فائدة قدره ستة في المئة مثلاً، فسيحصل على دخل قدره 60 دولاراً في السنة. ولكن إذا ارتفعت الفائدة في السوق إلى سبعة في المئة، وتم إصدار سندات جديدة بسعر الفائدة المرتفع عندها يتراجع في السوق الثانوية سعر السند الذي يعطي فائدة ستة في المئة فقط. والمستثمر في هذه الحال لن يجد من يشتري منه السندات ذات سعر فائدة ستة في المئة والتي تستحق بعد خمس سنوات كما اشتراها بمبلغ 1000 دولار ولا بد من بيع هذه السندات بسعر أقل، مثلاً بنحو 900 دولار. وهكذا عندما ترتفع أسعار الفوائد في السوق تنخفض أسعار السندات، والعكس صحيح فأسعار السندات ترتفع مع انخفاض أسعار الفوائد، وقد حقق المستثمرون في السندات أرباحاً كبيرة أخيراً نظراً لهبوط أسعار الفوائد العالمية. وتتأثر أسعار السندات بفترة استحقاقها وبالتصنيف الائتماني للدول والشركات المصدرة لهذه السندات. فالسندات المدعومة بمصداقية وملاءة حكومة الولاياتالمتحدة أو حكومات دول غنية أخرى تكون مخاطر عدم الوفاء شبه معدومة، في حين أن السندات التي تصدرها حكومات الدول النامية فهي معرضة لمثل هذه المخاطر، ولذلك تكون الفائدة عليها أعلى من مثيلتها في أميركا وأوروبا. فالدول الناشئة الغارقة في الديون، أو الدول التي لها تصنيف ائتماني ضعيف غالباً ما تكون مضطرة لدفع معدلات فوائد أعلى على السندات التي تصدرها لاجتذاب المستثمرين. وعلى سبيل المثال كان معدل الفائدة على السندات التي تصدرها الدول ذات التصنيف الائتماني الممتاز "أ أ أ" خلال العشرين عاماً الماضية أعلى بنقطة مئوية من الفائدة على السندات ذات التصنيف الائتماني الجيد "ب ب ب". وسُجل خلال الشهور القليلة الماضية تحسن في التصنيف الائتماني لعدة دول عربية، فمثلاً رفعت مؤسسة "موديز" تصنيف دين تونس الخارجي إلى "ب أ أ2" لتعكس تحسن الأداء الاقتصادي للبلاد وانخفاض العجز في الموازنة خلال الربع الأول من هذه السنة بنسبة 17 في المئة. كما أن مؤسسة "ستاندرد آند بورز" عدلت التقدير الائتماني للبنان من مستقر إلى إيجابي، ورفعت وحدة المعلومات لمجلة الإيكونومست إي آي يو نسبة نمو اجمالي الناتج المحلي للبنان المتوقع لهذه السنة إلى 1.9 في المئة وإلى 2.8 في المئة لسنة 2004، لتعكس التأثيرات الإيجابية التي تركها مؤتمر باريس للدول المانحة على الاقتصاد اللبناني. وقد تقدمت قطر خطوة نحو الديموقراطية عندما صوت 96 في المئة من مواطنيها باستفتاء دستوري على تأسيس برلمان جديد، كما أن قطر أصبحت اليوم منتجاً رئيسياً للغاز الطبيعي بالإضافة إلى ما تصدره من النفط، وقد ساهم هذان الأمران في تحسين ملاءة قطر الائتمانية. وبعد تباطؤ معدلات نمو الاقتصاد الأردني خلال الربع الأول من هذه السنة إلى 2.8 في المئة من 4.3 في المئة خلال الفترة نفسها من العام الماضي، عادت النشاطات الاقتصادية إلى الانتعاش عقب انتهاء الحرب على العراق كما أن الأردن تسلم مساعدات إضافية بقيمة 700 مليون دولار من الولاياتالمتحدة، في الوقت الذي تعهدت فيه كل من السعودية والإمارات والكويت بتزويده بكامل حاجاته من النفط وبأسعار مدعومة لتعويض خسارته للنفط العراقي. وحافظت الجزائر على وضع اقتصادي مريح بسبب ارتفاع أسعار النفط وما لذلك من تأثير إيجابي على احتياط البلاد من العملات الأجنبية، وذلك على رغم الخسارة البشرية والمالية والمقدرة ببليوني دولار نتيجة الزلزال الذي هز الجزائر العاصمة أخيراً، ما انعكس إيجابياً على أسعار السندات التي أصدرتها الجزائر في الأسواق العالمية. ومع أن المغرب تأثر من انخفاض مدخول السياحة والآثار السلبية للهجوم الإرهابي على الدار البيضاء، إلاّ أن نجاح تخصيص شركة التبغ والتقويم الإيجابي لصندوق النقد الدولي، اذ توقع أن يصل نمو اجمالي الناتج المحلي هذه السنة إلى 5.5 في المئة مدعوماً بموسم أمطار جيد، انعكس كل هذا إيجابياً على السندات المغربية في الأسواق الدولية. وهناك مخاوف من أن الانكماش الاقتصادي وما تبعه من تراجع متواصل في الأسعار والذي شهدته اليابان خلال الأعوام العشرة الماضية قد يمتد إلى مناطق أخرى من العالم. فالاقتصاد الأميركي الضعيف أصبح هو الآخر عرضة لحدوث تراجع مضطرد في الأسعار، كما أن الإحصاءات الأخيرة جاءت لتؤكد بأن الاقتصاد الألماني قد دخل فعلاً مرحلة الانكماش وتراجع الأسعار، ما أقنع البنك المركزي الأوروبي أخيراً بخفض سعر الفائدة على اليورو بمقدار نصف نقطة مئوية الى اثنين في المئة ويتوقع أن يتبع ذلك المزيد من تراجع أسعار الفائدة على اليورو. وهناك بعض أوجه التشابه بين الوضع الاقتصادي الحالي في كل من الولاياتالمتحدةوألمانيا وما كان عليه الوضع الاقتصادي في اليابان قبل عقد من الزمن. صحيح أن أميركا لا تواجه اليوم مشكلة انكماش اقتصادي وتراجع مضطرد في الأسعار، إلاّ أن الاقتصاد الأميركي سجل معدلات نمو بطيئة خلال الأعوام الثلاثة الماضية بحيث أن النشاطات الاقتصادية لم تؤد إلى تقليص البطالة المتزايدة وتحقيق الاستغلال الأمثل للطاقات الإنتاجية المتوافرة. وهذا شبيه لما حصل في اليابان، فالاقتصاد الياباني لم يمر بمرحلة ركود حادة حتى عام 1988، ولكن أداؤه كان ضعيفاً ولم يتم استغلال كافة الطاقات الإنتاجية المتوافرة سنة بعد سنة. وعلى رغم أن الحكومة اليابانية حاولت تنشيط الاقتصاد باستعمال السياسات المالية والنقدية المعروفة كافة، مثل زيادة الإنفاق الحكومي وتقليص أسعار الفائدة وضخ السيولة في الاقتصاد، إلاّ أن ذلك لم يكن كافياً. فبحلول عام 1995 دخل الاقتصاد الياباني مرحلة الانخفاض المتواصل في الأسعار وشهد بداية دورة انكماشية ما تزال آثارها ظاهرة حتى الآن. وها هي ألمانيا اليوم تشهد بداية مرحلة مشابهة من الضغوط الانكماشية. ومع أنه لا يتوقع للاقتصاد الأميركي أن يدخل مرحلة تراجع أسعار في القريب العاجل، غير أن مخاطر الانكماش الاقتصادي تبقى واردة وستشكل عامل ضغط تنازلي على معدلات الفائدة على الدولار وكذلك على عائدات السندات الأميركية خلال الشهور القليلة المقبلة. لذا نتوقع أن تحافظ أسعار السندات المقومة بالدولار على نهجها التصاعدي وستستفيد السندات التي تصدّرها الدول العربية والدول النامية الأخرى في الأسواق العالمية من تراجع أسعار الفائدة العالمية هذه. غير أن الارتفاع المتوقع في أسعار السندات من مستوياتها الحالية إذا ما تحقق لن يوازي بأي حال من الأحوال الزيادة الكبيرة في الأسعار التي سجلتها هذه السندات خلال الشهور الستة الماضية. ويبقى الاستثمار في السندات التي تصدرها الدول العربية في الأسواق العالمية عملية مربحة على الأقل حتى نهاية هذه السنة. * الرئيس التنفيذي جوردانفست.