هاتف ذكي يتوهج في الظلام    شكرًا لجمعيات حفظ النعم    خريف حائل    الدفاع المدني يحذر من المجازفة بعبور الأودية أثناء هطول الأمطار    الدبلة وخاتم بروميثيوس    صيغة تواصل    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    نجد فهد: أول سعودية تتألق في بطولات «فيفا» العالمية    توطين قطاع الطاقة السعودي    أولويات تنموية    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    الأنساق التاريخية والثقافية    نورا سليمان.. أيقونة سعودية في عالم الموضة العالمية    محمد البيطار.. العالم المُربي    من المقاهي إلى الأجهزة الذكية    «إسرائيل» تغتال ال«الأونروا»    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    رحلة في عقل الناخب الأميركي    لوران بلان: مباراتنا أمام الأهلي هي الأفضل ولم نخاطر ببنزيما    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المواطن شريك في صناعة التنمية    الرديء يطرد الجيد... دوماً    مرحباً ألف «بريكس»..!    وبس والله هذا اللي صار.. !    لماذا مشاركة النساء لم تجعل العالم أفضل ؟    الأعمال الإنسانية.. حوكمة وأرقام    عسكرة الدبلوماسية الإسرائيلية    عن فخ نجومية المثقف    الذكاء الاصطناعي طريقة سريعة ومضمونة لحل التحديات    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    أندية الدوري الإسباني تساعد في جمع الأموال لصالح ضحايا الفيضانات    يايسله يُفسر خسارة الأهلي أمام الإتحاد    رسالة رونالدو..    النصر يلاحق العضو «المسيء» قانونياً    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة أمام الاتحاد    وزير الإعلام يعلن إقامة ملتقى صناع التأثير «ImpaQ» ديسمبر القادم    وزير الداخلية السعودي ونظيره البحريني يقومان بزيارة تفقدية لجسر الملك فهد    «الاستثمارات العامة» وسلطة النقد في هونغ كونغ يوقعان مذكرة تفاهم استثمارية    أمانة القصيم تكثف جهودها الميدانية في إطار استعداداتها لموسم الأمطار    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    المرشدي يقوم بزيارات تفقدية لعدد من المراكز بالسليل    أمانة القصيم تنظم حملة التبرع بالدم بالتعاون مع جمعية دمي    أعمال الاجتماع الأول للتحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين تواصل أعمالها اليوم بالرياض    الأرصاد: استمرار الحالة المطرية على مناطق المملكة    خدمات صحية وثقافية ومساعدون شخصيون للمسنين    جوّي وجوّك!    لا تكذب ولا تتجمّل!    «الاحتراق الوظيفي».. تحديات جديدة وحلول متخصصة..!    برعاية الملك.. تكريم الفائزين بجائزة سلطان بن عبدالعزيز العالمية للمياه    معرض إبداع    مهرجان البحر الأحمر يكشف عن قائمة أفلام الدورة الرابعة    أحمد الغامدي يشكر محمد جلال    إعلاميون يطمئنون على كلكتاوي    الإمارات تستحوذ على 17% من الاستثمارات الأجنبية بالمملكة    جددت دعمها وتضامنها مع الوكالة.. المملكة تدين بشدة حظر الكنيست الإسرائيلي لأنشطة (الأونروا)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نكبات العقل ."نكص" الشارع عن وعد برفاهية في الحياة ليستسلم لوعد برفاهية في الموت 2من 2
نشر في الحياة يوم 16 - 06 - 2003

الحضور الحيويّ للأكراد بعد انهيار نظام صدام حسين، بات يؤرق غالبية الكلام السياسي العربي السائد. وهذا المقال "الأدبي السياسي" يتلمس حساسية المسألة. نشرنا أمس حلقة أولى وهنا حلقة ثانية أخيرة.
لم يأت الغرب إلى العراق محمولاً على إيمان مواثيق الحرية للشعوب. سنؤيد الفضائيات والأرضيات العربية في ذلك، وسنقسِمُ على صحته من أفواه المذيعات الباكيات على العهد الذهبي للملا عمر، بشفاه نفختها عمليات التجميل اقتداءً بالجمال المنكوب تحت براقع نساء طالبان في الزرائب، ومن أفواه مذيعين ذوي ربطات عنق غربية نسوا ارتداء عماماتهم. حرية الشعوب كانت، أبداً، في السطر الممحو من مواثيق اقتصاد التبعية للغرب. وهو سطر يُعاد تدوينه، عادةً، وفق الجَبْذ والنبذ في العلاقات، بحسب تعبير قانون التوازن الفلكي المعتلِّ، والمختلِّ عقلاً وطبيعة. طالبان النظام الذي لا يقع عليه لفظ نظام ترتيب لونيٌّ على ورقٍ رسم عليه الغرب صورة الشرق في "واجب حدوثه" بالقوة، كما يقول عقلُ الضرورات. وصدَّام حسين طيفٌ في موشور الخليج أبقى عليه الغرب، في برهة كانت الإطاحة به فيها، بالتحالف بين المذاهب والأعراق، أمراً كالنفخ على هشيم. لكن دعاوى انحلال العراق أمصاراً وأقاليمَ، جعل "التسامح في القصاص" المنافق حمَّال سياسة رأت بالصريح المبتذل أن عراقاً مهلهلاً بقيادة نمر من ورقٍ هو أوفى المعابر إلى حركة قواعده العسكرية والمدنية والسياسية والاقتصادية واللغوية. وكان حظ الغرب مذهلاً في تحريض صدام على بقاء الغرب، عبر تهديد متواصل بالانتقام من الجيران. فما الذي تغير اليوم؟
استُنْفِدَتِ اللعبةُ: حمل أسامة بن لادن إلى أميركا هبوباً من بساط الريح في "ألف ليلة وليلة" إلى معاصر الاقتصاد المُدارة بالطواحين. صُعِقَ من صُعق، وتزلزل من تزلزل، وتخبط من تخبط، وانزمَعَ من أخذتْه الزَّمعةُ. خيال بن لادن الجامح خيال شهر أيلول سبتمبر طحنَ المعقولات الوقائية في نص أميركا الواقعي، المبني على مذاهب الصراعات "الواضحة" وقوانين آلاتها. هكذا لم يعد في وسع الأميركي الاكتفاء بحصار النمور الورقية، بل بوجوب حصار العظام المواد التي لا قانون يضبط تداول أفيونها الكيماوي والعضوي في الأمم المنشلَّة والمنحلَّة تقريباً. لقد ذهب بعضُ أخلاق الصراع بأخلاق الصراع كله، في لعبة تنقلب على الجميع، من تشجيع "الأصولية"، برئيس "مؤمن" هنا، ورئيس "مناهض" لكفر الاشتراكيات بالإنسان هناك" ومن الخلط المروِّع لجماعات الدين بين الغاية والوسيلة: آلاف المسلمين سقطوا أشلاء في الطريق إلى قتل شخص "أوروبي" واحد. لقد نصبت إحدى فضائيات العرب عنواناً صارخاً تحت خبرها الوارد "عاجلاً": "تعرُّضُ مصالح غربية لهجومٍ انتحاريّ". وماذا كانت "المصالح" الغربية تلك؟: فندق مغربي في الدار البيضاء، ونادٍ يهودي !!!!. والقتلى؟: عشرات المغاربة.
الكردي مصلحة غربية، في الإشارة إلى "تقصيره" في حماية قصور صدام" اليهودي الذي دربناه في ديارنا على الهجرة متسللاً عبر الحدود، بمنع أية وثيقة سفر عنه، وعرض الخيار عليه، في الدراسة الإعدادية والثانوية، بين حضور حصة الدين الإسلامي، أو المسيحي، اليهودي مصلحة غربية. الأشوري، والكلداني، والسرياني، والأرمني، مصالح غربية ربما. لم يُقَل ذلك بعد، لكن ربما. أهي جماعات الدين وحدها، بلسان الفضائيات والأرضيات، حصانة الأمم العربية اللامتحدة في وحدة طهرانيتها؟ صور بن لادن، وصدام حسين تتصدر مهرجاناتها. صدام جاء بأوسلو كبعير عريق إلى شارع الفلسطينيين، ثمرةً لا ندري لماذا لا تحتملها جماعاتُ الدين. ثم جاء ببعير "خريطة الطريق"، أيضاً، فأنكروه.
"الهداية" في صوت بن لادن بإشاعة الموت، والترويع الذي تجتذب مقدماتُهُ الفلسفية الدمويةُ نتائجَها من الغرب إلى الشرق، و"الهداية" في الجهاد الذي أبلى أبو عدي في ساحات بغداد، هما وفاق عقل الكهف بتدبير الغزوات، في الأزمنة السحيقة، لكنه طاهرٌ هذه المرة، غير همجي، بالتكفير الموجب لإعداد الجيوش إلى "الأنفال" ضد.. مسلمين، أكراد.
ربما يقع الكرد، في السياق المنطقي لمقولات المعلِّميْنِ الأرسوزي وعفلق، في المعترك عثرةً إلى الوحدة العربية، على هَدْي البعث، وعثرة في المعترك إلى الوحدة الإسلامية على مذهب المدافعة عن قُصي بابا، سليل علي بابا، الهارب بقافلة من مال العراق. والكرد، على الأرجح، ليسوا "ضحايا بريئة" كما يحاولون التظاهر بذلك منتفخين، من كيماويات مزعومة، أمام عدسات التصوير. اجتماع الحلف الغامض، الثلاثي، التركي، والسوري، والايراني، على تخصيص النظر إلى قَدَره "المرفَّه"، "المُعافى"، لا يجعل منه "ضحية بريئة". لكن إذا عنَّ لمعتوه، في نوبة حُمى مملوءة بنداءات الحوريات العذراوات، أن يأتي إلى "حدائقه" العربية بالثور الأميركي، فحطَّم ما حطم، توجب على الإعلام العربي توصيفه ب"الضحية البريئة". ليكن. إذا كانت مراكز تلقين الفكرة الهمجية ضد كل من لا ينتمي إلى أهل الفكرة، المتحصّنة بحقوق الأقاليم الديموقراطية، تستدرج بالقتل العشواء إلى القتل نصف العشواء، فالأكيد أن من يُقتل لاحقاً هو بريء بالضرورة" بريء بحصانة دمه الطاهر، وفكره الطاهر، ورغبته التي لا تُقاوم في امتلاك الفردوس الطاهر. ذلك ما يقوله منطق الإشارة الفضائية المرئية، والأرضية المكتوبة. ليكن. الموتى باستدراج الغرب إلى قتلهم بريئون، فلماذا لا يكون الكردي، الذي لم يستدرج أحداً إلى القتل "غير بريء"؟. ربما علينا ألا نختبىء خلف سؤال نصف برىء، لأن الكردي في الأرجح المحكوم بتوزيع الله، جل جلاله، خلقَهُ الآدميين على أعراقٍ شتى يجد من المتعذر على خِصِّيْصَة عِرْقه التمثُّل ببيان مُلْحِفٍ في شهوة التفوق "الخالد": أمة عربية واحدة، ذاتُ رسالة خالدة. هو، إذاً، عثرةٌ ما، وعليه التأسي كتأسي جماعات الدين على جهاد صدام أن الوحدة العربية تتعثر به، من اليوم الذي نهض فيه عبدالناصر إلى اليمن بالحديد فأخفقت وحدة الحديد" واليوم الذي جمع مصر، وليبيا، وسورية في وحدة نسينا تسمياتها، فشُرِّد العمالُ المصريون من ليبيا بلا أجور حتى" واليوم الذي جمع سورية ومصر في وحدة عرف منها السوريون، للمرة الأولى، كيف عليهم أن يخرسوا داخل الجدران من رقابة المخبر الموزَّع نسلاً هائلاً بين البيوت، فانهدمت الوحدة" واليوم الذي عرف فيه اليمنان الوحدة بعنوة الحب الفاتك، والحبل "الوحدوي" على غارب بعير المؤامرات. بالطبع، ليس للكردي يدٌ قط، في انتساب كل جماعة من الأقاليم الناطقة بالعربية إلى ما ابتكرتْهُ من خصائص تحفظُها كياناتٍ متمايزةً بالأسماء التي تنتسب إليها، وبالصفات المُجْتَلَبةِ من ماضٍ ما عريقٍ. كل إقليم خصّيصةُ خيالٍ من مصونه الجغرافيِّ، ومصونه الَّلهجي، ومصونه المتحقق عمارةً، ورسوماً، وزيّاً. هي خصائص أورثت الشخصية في الحدود الجغرافية المشمولة بحفظ القانون لكيانها وحدةً بذاتها، ذات نشيد، وعَلَم، ومتحف عصبيةً للعرق لا تُخفى إلاّ على المؤمنين بأساطير الوحدة وخرافاتها.
ربما مال المائلون إلى ركائز لزعم "وجوب" الوحدة بالتراضي المعدوم، مقامُها الدينُ، واللغةُ، والجغرافيا، هذا العنصر النجيب في فُتيا القومية. لكن الجليَّ، المتداول حالاً بعد حال في التاريخ الدموي الحديث حرب اليمنين، حرب ليبيا ومصر في عهد السادات. حرب العراق والكويت. حرب مصر والسودان في فاصل بينهما. الدسائس بين الجزائر والمغرب على مقام الصحراء الغربية.. الدسائس المنتهية بإعدامات بالجملة بعد تقارب غير مفهوم، مرة، بين البعثيين على ضفتي دجلة..." نزعم أن الجليَّ المتداول هو أن الاحتكام إلى سند الدين مثْلُهُ مثْلُ مجراه بين باكستان والسودان، والاحتكام إلى اللغة هو كمجراه بين فرنسا وبلجيكا. أما الجغرافيا فحدِّثْ بما فيه حَرَجُ الريح، والجبال، والشمس: لماذا لا تكون أمم العرب شمالاً امتداداً لتركيا؟ ولا أمم العرب شرقاً امتداداً لايران؟ ولا أمم الجنوب امتداداً لمساكب دول أفريقيا؟ لم يكن لأحد كيان بذاته خارج حدود الإمبراطوريات" والاستقلالات "المشوَّهة" الحديثة تفريعٌ سياسيٌّ لمشكل الوجود ذاته كأمَّة واحدة "بالقوة" الفلسفية. أم أن الهواء مفصَّل على قواعد الإعراب بلغة الضاد؟
لا. الكردي لم يعرف من أوجه الأمة الواحدة، كشعوب الأمة الواحدة ذاتها، غير جيوش من حصالة القبليِّ في الولاء، أو العائليِّ. جيوش تروِّع الجمادَ بضراوتها داخل سياجات المزرعة، والزريبة، تسقط في أيام أمام محتلٍّ أميركي، فيما تعيش عقوداً بعد عقود منتصرةً في "أم المعارك"، و"معركة الحواسم"، التي اتخذتها إحدى فضائيات القرون الوسطى شعاراً في هرب أبي المعارك، و"الأنفال"" وفي تنضيد المقابر الجماعية شطوراً تحت شطورٍ كمُعلَّقة شِعر" وفي صون "قصور الشعب" براهين حفاوة الأب الطيب بأبناء شوارعه، فيما لا يتجرأ أحد على الاقتراب أربعة فراسخ من أسوار "السر الخالد" للحاكم الخالد، مُنْتَخَباً مدى الحياة، أو مورِّثاً التركةَ بنقل زريبة الجمهورية من حديقة الأب إلى ابنه، وأحفاد أحفاده.
ربما لم يسقط هذا الجيش العتيُّ، الغيور، الأبيّ في هجوم الغزاة على بغداد. "نظرية الصفقة"، المسطَّرة بركاكة أين منها أغاني بدوية الصحراء سميرة توفيق، تتقدَّم، بخَبَبٍ سحريٍّ، خلف جِمال الفضائية العربية وأختها، إلى المشهد. الطاغية، مولى الفكر الفاتن لجماليات البطش، سلَّم البلد إلى احتلال المتحالفين في صفقة لا يبدو فيها من الوضوح شيء سوى نجاة الطاغية، واختفاء عائلته بخزائن المصرف المركزي عنوان رسوِّ الدولة على قدرات المقايضة بين الأمم. فضائيات الاحتفاء بالهمجية في صورتي بن لادن، وصدام، ستصرُّ، حتى آخر رمق في انهيار البعث، أن الابتذال الساحق في فرار أبي المعارك هو "بسالة" أمِّ الحواسم في الإبقاء على عراق "غير مطحون": إنها نباهة البصيرة الإعلامية في تشخيص "عافية الانهيار".
الجيوش العربية، المتخصصة في تلقي الإهانة من الحاكم عبر تدبير الرتب، وتوزيع المناصب والمكاسب، وعهد الإمارات إلى العائلة، وتفضيل دم النسل الواحد على الكفايات، ما نوازعُ قيامها باستلهام المعنى من "الوطن التجريدي" في الشعار؟ القطعاتُ العسكرية، الأكثر تدريباً، والأكثر ولاء للطاغية، والأشد رفاهة، تُعفى من أن تُمتَحنَ في معارك خارج أمن القصور. إنها ملزمة بقانون "القائد الدولة"، وليس أبعد من ذلك إلاَّ التراب النافل: ثلاثة أرباع موازنات أقاليم "الرسائل الخالدة" تذهب إلى "الجيش"، فيما الجندي العادي يتسول الخبز، ويتسول الموتَ مكشوفاً في حروب ليست حروبَ وطنه قط. لكن "المحللين" المتقاعدين من هزائم لا تنتهي، يحضرون برتبهم العسكرية الآفلة إلى منصات الإعلام، لتشخيص المشهد، لا بتوصيف الخراب الذي تآكَلَه، بل باستلهام الإنشاء الابتدائي في "تأمل" المعاني من طلقات متفرقة ضد تحالف الغرب الخفيض، ليجعلوها سنداً في ولادة دحرٍ بلا نهاية. بعضهم لجأ إلى تأويلٍ كتأويل المتصوِّفة للمتصوِّفة، فرأى في الحجب الأميركي المطبق لمعركة مطار بغداد الدولي لم تُسْمَح حتى لجرادة بعبور الحزام المدرَّع إخفاءً لخسائر "لا توصف"، وصفها على نحوٍ تفصيلي !!! على مقام الإثارة في بلاغة الصحاف أبي الإعلام العربي بلا تشكيك في "كيلوس" الوراثة: "صُودر التبغُ من الجنود الأميركيين، وأوصدت عليهم أبواب دباباتهم إذلالاً"! "محللون" من رتبة الصوفيِّ، لهم "عيونٌ" أرضية و"فضائية"" عيونٌ إشراقاتٌ سُعِدتْ بها شعوبها تُخمةً من "انتصارات" فدائيي صدام، والانتحاريين، الذين تبثُّ فضائيات "الجهاد" العربي أخبارَ جثثهم من شوارع إسرائيل، بتراخيص "عادية" في تجوّلٍ وإقامةٍ لا يملكها الكرديُّ المشكوك في انتمائه إلى "الرسالة الخالدة"، والمطعون في دفاعه عن خلوِّ يديه من أية مواثيق ل"إقامة وتجوُّل" في إسرائيل.
جيوش فرَّغت "الداخلَ" العربي من القانون. جيوشٌ استخبارات، وجيوش شرطة لتحصين "الداخلَ" العربي بحراسة قوانين الطوارئ الأبدية. كل تذمُّر، أو شكوى، أو اعتراض، هو إخلال "بثوابت الداخل" المتماسكة كخلود الرسالة. لم يبق ما يدعى "داخلاً عربياً". فتَّتت الأنظمةُ اعتراض المختلفين على أدائها بالقتل، وبالاغتصاب، وبالسجن، وبالإخفاء، وبالملاحقة بالأسلحة المكتومة الصوت حتى أبواب بحر الظلمات، وبالخطف إذا اقتضى الأمر، من داخل عواصم عربية "تحفظ" ذِمَمَ الملتجئيْن.
لم يبق في الداخل العربي إلاَّ النظام وحَرَسُه، فكيف انبثقت دعاوى وجوب "التغيير من الداخل"، بقوة ألف حصانٍ طرواديٍّ، في احتلال العراق؟ الأنظمة، التي وحَّدها ميثاقُ هذا الشعار المذهل في النفاق المتبادل، هي من دحرج مصكوكَ "التغيير من الداخل"، البريء، إلى خطاب الرعاع، والدهماء، والغوغاء، بعد اطمئنان ذهبيٍّ إلى أن الداخل مُلْكُ شرطتها، ومخبريها، والمرفهين من احتكار مصادر الدولة ومواردها، إثر عقود من "تنقية" هواء الأمة من أنفاس الحالمين بحياةٍ أقلَّ رثاثة. أتى الأميركي ليأخذ ربعَ النفط العراقي، أو نصفه في الأرجح. احتلال صريح في عرف الأعراف. أمر مؤسف. لكن، ربما انتفع العراقيون بالنصف الآخر، بعدما كان، في كامله، ملكاً لصدام، وقصي وعدي. أيوجب هذا القول أخذنا على محمل ترحيب بغزو؟ بلى، سنؤخذ بذلك نحن المهدّدين "عافية" الداخل العربي، ونعمةَ عدالته. غير أننا سنؤكد أن الاحتلال هو احتلال. وأن التغيير الآتي من الاحتلال ليس إلاَّ اقتباساً من السطور الأولى في معاهدات الإستقلال العربي المفكك جداً، والعشوائي، عن إمبراطورية بني عثمان، برعاية موزّعي الجغرافيا على القبائل، والعشائر. ولما دالت الدول أُجيزَ حكمُ السياسة ب"أيد حديد" للبعض، وبانقلابات مذابحَ لبعضٍ آخر، لا استثناء في السياق إلاّ لبنان، الذي يُنتخبُ رئيسُه، بعد الانتدابات البعيدة، وبعد "الانتدابات" القريبة.
لاداخل عربياً يمكن تغيير داخله القائم على ترتيب "خارجي" في أساس "نهضته" كمزرعة، والأنظمة، التي دحرجت مصكوكَ ذكائها إلى أيدي الرعاع، والدهماء، والغوغاء، والعوام، اجتذبت إلى المائدة مثقفي أقطارها، وأنصافهم، وأرباعهم. بايع هؤلاء وعيدَ الرعاع، وفكرَ الرعاع، في المناضلة عن "التغيير من الداخل"، بأيدي أهل الداخل المقطوعة.
كان المثقفون، قبل محنة الفكر الجديدة بين يديِّ الصحَّاف المُلْهِم، ذوي "رسالات" في استنهاض الشارع العربي، بحسب الزعم، للارتقاء به من عدم فهم "حقيقته الطبقية" و"حقيقته الاجتماعية" و"حقيقته الفكرية"، إلى "تأهيل" يتعرَّف به الشارعُ "مصالحَ إنسانيته"، وشروطَ حريته، وسياقَ بنيته كحامل لدولة العدالة، والمساواة. لكن الشارع الرعاع، والسوقة، والعوام، والدهماء، والغوغاء "نكص" عن السياق "الواجب" لسيرورة التاريخ "الحالم" بالأسباب التي تعزى إلى نهج التدمير المنتظم لمؤسسات الفكر داخل بلداننا الحديثة، وكذلك إلى الإخفاق "الرفيع" في مناهج الأحزاب، وأداء المثقفين العشائري، والقبلي، والمذهبي العاصف بالحياة المدنية المنكوبة عن يد الدولة العسكرية.
"نكص" الشارع عن وعدٍ برفاهية في الحياة، ليستسلم لوعد الدين برفاهية في الموت. ثم أعيد تنظيم الفكر على أُسسه الغامضة الأولى: الوطن التجريدي في مواجهة "الخارج" المتربص، وعصبية المُعْتَقَد بإزاء "الخارج" الصليبي. وها هي "الطليعة" الفكرية للنُّخَب العربية "العالمة" تنحو إلى النكوص ذاته، في دعوى تمثيلها الشارع، متهاويةً إلى تأييد الرعاع، والدهماء، والغوغاء، والعوام، والسوقة، في ميزان الحاكم القاهر" وفي العصبية "للداخل" المفرَّغ الأحشاء ضد "الخارج". إذاً، عاد الرعاعُ "طليعةً" في الأخذ بيد النُّخُبِ النجيبة إلى حلمها بالرفاهية في الموت الذي لا يخذل فردوسُه أحداً، بعدما تأكد بالبرهان الذهبي أن فردوسَ الحياة تخذل كلَّ أحد.
كلهم "ينحدرون" إلى الشارع الآن بإيمانٍ راسخ في دعوى "التعبير" عن الشارع: المذيع المرئي، والصحافي اللذان نسيا ارتداء عمامتيهما" والمذيعةُ المرئية شقراءَ بنعمة الصباغ، والصحافية اللتان نسيتا ارتداء برقعيهما، فيما يهرول المثقف، الباحث عن جُبَّة، إلى الخياط، بعد خلط البكاء على الشعب بشهقة اللوعة على مصير الحاكم، متَّحدين، جميعاً، للمرة الأولى في التاريخ الحديث المطهو بلا توابل، مع "جامعة الدول العربية" في "التحذير" من يقظة البركان الخامد، وخطط تقسيم البلدان.
"جامعة الدول العربية" أم جامعة الأنظمة العربية؟ منذ ابتداع هذه البيعة لمؤسسة مصكوكة القوانين على "جمع الشمل الأخوي"، أسوة بزعامة القبليين، وأمورها في حالٍ في فساد التدبير إلى حال في فساد التدبير. ليس في موجب شرائعها قسرُ أحدٍ على انتكاب الشر، أو توبيخه ولومه على احتقار سنَنِ الأخلاق. دعوات إلى ضبط النفس إذا تهارَشَ بَلَدانِ، أو تنابذا بالألقاب بوساطة الصواريخ. أما انتهاك حقوق الكائن البشري، في سجون الجغرافيا، وذبح المعترضين "مسيرةَ الرفاهية" تحت السرادق الطويل للقبور الجماعية، واغتصاب الأطفال بجرائر الآباء كي يعترفوا بما ارتكبوه وبما لم يرتكبوه، وقتل العمال العرب في بلد عربي آخر على نهج استعباد العرق الغني للعرق الفقير، وانتخاب رؤساء أبديين في انتخابات لا يخوضها إلاَّ الرئيس نفسه، وخطف الاستخبارات العربية للمعارضين الهاربين إلى بلدان أخرى، وسحق مدن بالدبابات، وبأمطار الخصب الكيماوي، واجتياح دول لدول وانتداب الجيران على الجيران، وتدمير معالم طبيعية أكثر عراقة من الرسائل الحديثة الخالدة، مثل أهوار العراق الفريد، فهذه، التي لم يستذكر خيالُنا المتعبُ غيرَها، "أمورٌ داخلية" على مرتبة "التغيير من الداخل"، لا تتداولها جامعة الأنظمة العربية خوف "شق" الصفوف المتراصَّة بالملاط، و"إغضاب" العدل الموفور للحاكم المُرهف كقلب العاشق.
في الذي شهدناه من عالم الفضائيات الجاهلية، أن المذيع إذا أخطأ في ذِكْر شيء بغيره، لا يعتذر، بل يضيف كلمة "أو" إلى السياق، ويمضي على عاهن سُلطته في إرشاد الخليقة إلى عقلها. فإذا قال: "الجِمال" والمراد "الجَمَال" صحح الخلطَ ب"أو". وإذا قال: "ألف قتيل"، والمراد "ألف جريح"، صحح الخلط ب"أو". وإذا قال: "الصين"، والمراد "أستراليا"، صحح الخطأ بإضافة "أو". مئة بغل، "أو" مئة إنسان. "أو" حرف عطف، في اللغة العربية، على معاني الإباحة، والإبهام، والشك، الخ، لكن لم يصل إلى عِلْم فقيه موحى أن "أو" حرف عطف على معنى المطابقة والمماهاة. تقول: جاء زيد أو عمرو. نعم. لكن ذلك لا يجعل من زيد المهرج عمرواً من "وول ستريت". هذا في منطق اللغة ببينونة التعيين، وفي منطق القرائن والمتخالفات بالهوية. غير أننا نقيم في منطق "خيار الخطأ" كصواب بإضافة "أو" إلى الحياة: "نحن في جحيم"، "أو" في نعيم، داخل مزرعة الحاكم"، وعلى السامع أن يفهم المذيع الفضائي بلغة الضاد. المعلِّم الجديد لحقائق "الإشراقات" العربية بعد أسلافه الثلاثة الأرسوزي، وعفلق، وبن لادن الدكتور أيمن الظواهري المنبثق من قاعدة "أو" بين الصواب والخطأ، أضاف إلى أمم الكفر أرضَ النروج، في توريث الهمة إلى "عُمَّال الجهاد" في العالم. ربما قصد الدانمارك، أو إسبانيا، اللتين أغفلهما من سجل القتل. لكن، لا يهم. أمُّ مهازل العطف حرف "أو" لم تجد في إقصائها عن الخبر إحراجاً. ظلت النروج هي النروج. فإذا اقتدى أحد الرعاع بفُتيا الظواهري فقتل نروجياً، وانتقم نروجي لبريء من ملَّته بالاعتداء على مسلم في شوارع أوسلو، اجتمع النُّظَّار، الشُّطَّار، حول منضدة ندوة القناة الفضائية لبحث "الجذور" الصليبية للنروج، وتربصها منذ الأزل بالإسلام.
خطأ مقصود، من ذاكرة الظواهري الدموية، في استذكار الإسم المقصود، ينبغي أن يقود إلى صناعة معجم من المجازر، حتى يكتمل لآباء المهازل سياق التورية: الصليبية قائمة، شاء الواقع أم أبى، في نفس كل مسيحي. والغرب، بالضرورة، هو المعتدي على بن لادن، والملا عمر الأمير المؤمن بدنس المؤسسات الأرضية في قيام الدول، مبتكراً نهضةً لأفغانستان على تهريب الأفيون رحيق السماء، مقتدياً بشرع تصدير الوباء إلى أمم الكفر.
كلنا خطأ مقصود في اللغة على نهج استذكار الظواهري لإسمٍ غير مقصود، ينبري إليه الإعلامي العربي بشرع الإضافة: الحاكم "أو" نعني الشعب" الموت "أو" الحياة، الاستعباد "أو" الحرية" الفناء الزمني "أو" الرسائل الخالدة" صدام "أو" نعني العراق.
قال لي المُعَلِّم في الصف الإعدادي، حين ذكرتُ كرديَّتي على محملٍ بريء: إذا كنت كردياً فعُدْ إلى تركيا ؟!. لم أقل بعد لأبناء المعلم وأحفاده: ارجعوا إلى الجزيرة العربية، وسنتكفل نحن بالعودة إلى مسرح لم نخرج منه، مستعيديْنَ أسماءَ حجارتنا، التي لن يقدر الفناءُ الخالد أن يتوسَّط للرسائل الخالدة بنعمة تعريبها.
* شاعر سوري مقيم في السويد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.