المملكة رئيساً للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة «الأرابوساي»    "التجارة" تكشف مستودعًا يزور بلد المنشأ للبطانيات ويغش في أوزانها وتضبط 33 ألف قطعة مغشوشة    وفد عراقي في دمشق.. وعملية عسكرية في طرطوس لملاحقة فلول الأسد    مجلس التعاون الخليجي يدعو لاحترام سيادة سوريا واستقرار لبنان    الجمعية العمومية لاتحاد كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية لخليجي27    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استشهاد خمسة صحفيين في غارة إسرائيلية وسط قطاع غزة    السعودية وكأس العالم    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    المملكة ترحب بالعالم    رينارد: مواجهة اليمن صعبة وغريبة    وطن الأفراح    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صدّام رئيس للعراق مرّة أخرى.. ولكن بثياب إسلامية

يلاحظ المتأمّل فيما يحدث في الشرق الأوسط حالياً بدون عناء ما يأتي:
٭٭ المشهد الأول:
محاكمة صدام حسين ورفاقه في قضية الدجيل بطيئة جداً وليّنة إلى درجة لافتة، تأجيل الجلسة يمتد أحياناً إلى أكثر من شهر، رئيس المحكمة يسمح لصدام ولأخيه برزان ولمن يشاء من زملائهما بالكلام فيما يريدون وعلى الوجه الذي يرغبون فيتحدثون بإسهاب عن الأمور السياسية أكثر من حديثهم عن وقائع القضية، ويدافعون عن حزبهم وحكمهم وتاريخهم بحرارة وبطلاقة وبثقة وبدون تلجلج أو تردّد، كل ذلك ونحوه يعني أن قضية الدجيل الصغيرة والفرعية ستستغرق محاكمة المتهمين بها إذا سارت على هذا المنوال شهوراً طويلة جداً، سوف تتيح الأحداث المتقلبة المتوقعة في العراق خلالها لصدام وأركان حكمه الإفلات من العقوبة التي يستحقونها.
ليست قضية الدجيل الأولى والأجدر ببدء المحاكمة التاريخية بها، واختيارها بالذات ينمّ عن هدف معيّن ضيّق ومحصور في الحيلولة دون تسمية الأشياء بأسمائها الصريحة في القضايا الرئيسة الأخرى، هذا إذا استمرت المحاكمة لتشمل هذه القضايا، ولمنع تشعّب الكلام فيها.
ليشمل القوى الإقليمية والدولية المتعددة التي حرّضت صدام ابتداءً على إعلان الحرب على إيران، ثم أمدّه بعضها طوال الحرب الممتدة بالمساعدات المالية الخيالية وأمدّه بعضها الآخر بالغازات السامة وبسائر أسلحة الدمار الشامل ليقاتل بها الإيرانيين وليقتل بها الأكراد في حلبجة وليقمع بها انتفاضة الشيعة في الجنوب بعد انتهاء حرب الكويت.
رئيس محكمة الجنايات العليا واثق كما يبدو على الشاشة بوضوح بأنه يحاكم رئيساً قادماً محتملاً وليس رئيساً سابقاً مخلوعاً لن يعود أبداً إلى السلطة، فهو يقدّم له كلّ الاحترام، وينفّذ فوراً جميع طلباته مهما كانت تافهة، ويغضّ الطرف عن تطاوله على من يريد من الشهود، فضلاً عن التطاول على هيئة المحكمة نفسها وعلى الادعاء العام، ويجيز لصدام ورفاقه توكيل محامين من كل أنحاء الدنيا، ويمكّن هؤلاء المحامين من حضور الجلسات بطريقة استعراضية وباعتداد واضح بالنّفس، ولا يمنعهم ولا يمنع المتهمين من تلقيب صدام بالسيد الرئيس بدلاً من (المتهم)، ولا ينبّههم ولا ينبّه المتهمين إلى عدم جواز الوقوف له احتراماً وتقديراً لأنه الآن متّهم بين متهمين وليس رئيساً لمرؤوسين، ولم يبق له ولزمرته الحاكمة السابقة وهم في القفص صفة رسمية أو شبه رسمية كانت لهم سابقاً.
قد يقول قائل: إنّ تصرفات رئيس المحكمة قُصد منها أن يرى العالم ديموقراطية العهد الجديد وحرصه على العدالة، وعلى اعتبار المتهم مهما كبرت جرائمه وظهرت للعيان بريئاً حتى تثبت إدانته، وليتأكد المشاهدون في كل مكان من أن القضاء في عهد صدام هو شكلاً وموضوعاً غير القضاء في العهد الجديد. نعم هذا غرض جيّد والسعي إلى تحقيقه مطلوب، وكما أن التفريط فيه مذموم فإنّ الإفراط فيه قد يقلب الهدف الحَسَن إلى ضدّه، فالزيادة أخت النقص كما يقال، وخير الأمور الوسط وهو الحزم المنصف، والحرص على تطبيق القانون، والإلتزام بالمجريات القضائية الصحيحة على ما هو مألوف في المحاكم العادلة، والتصرف بحكمة ورصانة وثبات بحيث يبدو القاضي ليّناً عند البعض وهو شديد، وشديداً عند آخرين وهو ليّن، اللهم إلاّ إذا كان المقصود من هذه المحاكمة تبرئة ساحة صدام المسجون في عهدة السلطات العسكرية الأمريكية وحدها، وهي التي تملك منفردة أن توجّه المحكمة إلى الوجهة التي تريدها والتي تحقق مخططها للخلاص ممّا هي فيه من ارتباك في العراق بإعادة صدام إلى حكمه مرة أخرى، فمن الواضح أنّ الحكومة العراقية لا تملك قدرة على التأثير الفعّال ولا سيما في المواقف الاستراتيجية، فهي لا تستطيع مثلاً أن تُعدِم صداماً وتبرئه في المحكمة إلا إذا شاءت أمريكا ذلك، فالسيطرة الكاملة والقرار الأخير في أمر صدام وفي غيره من الأمور الكبرى هو في يد الاحتلال، والقوات الأمريكية أفرجت فجأة عن (25) من المسؤولين البعثيين الكبار المطلوبين ومكنتهم من مغادرة البلاد بدون أن يكون للسلطات العراقية مجرد علم بذلك.
٭٭ المشهد الثاني:
يموج العراق الآن بعد ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة بصراع سياسي مرير يهدد بتأخير تشكيل الوزارة الجديدة ربما شهوراً طويلة في أزمة وزارية عويصة أشبه ما تكون بالأزمات الوزارية الإيطالية السريعة والكثيرة بعد الحرب العالمية الثانية، فالشيعة يرون أنهم أصحاب الأغلبية كما تقول صناديق الاقتراع حتى لو ادعى بعض الفرقاء أن الانتخابات مزوّرة، والشيعة يعتقدون أن من حقهم بناء على نتيجة الانتخابات حكم العراق كله إذا بقي دولة واحدة، ومن الواضح أنه إذا تحقق لهم ذلك فإن العراق كله المحكوم شيعياً سيتصل جغرافياً بإيران الشيعية شرقاً، وبسورية العلوية الشيعية في الأساس غرباً، وسيتكوّن من الجميع (الهلال الشيعي)، فإذا أضيف إلى هذه الدول حزب الله الشيعي في لبنان وحركتا حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتان تأسس حزام عسكري ضاغط على إسرائيل وعلى المصالح الأمريكية خاصة والغربية على وجه العموم، ونشأ حائل قوي جداً يحول بين الولايات المتحدة وغزو إيران برياً على الأقل، وإذا حيل بين الشيعة وبين حكم العراق الواحد فإنهم سيعمدون إلي التقسيم وإقامة دولتهم الخاصة بهم في الجنوب حيث يوجد قسم كبير من البترول العراقي وحيث توجد أيضاً الكثافة السكانية، ومن الممكن أن تكون عاصمة هذه الدولة البصرة أو النجف أو كربلاء، ومن ثمَّ ينضمون كدولة شيعية مستقلة في الجنوب فقط إلى يران في وحدة اندماجية أو فدرالية أو كونفدرالية ويعود لدولتهم الاسم القديم (العراق العجمي) وسيُسهِّلُ الأمر أنّ جزءاً لا بأس به من أهل الجنوب ينتمون إلى أصول إيرانية ويتحدث بعضهم إلى الآن اللغة الفارسية إلى جانب العربية، وسيشجع الشيعة العراقيين على الاستقلال ابتداء أن دولة الأكراد البترولية في الشمال وفيها كركوك الغنية بالنفط شبه مستقلة، فمن أشبه زميله إذن فما ظلم، وسيبقى في نهاية المطاف الوسط وأكثره صحراوي شبه قاحل، وليس فيه سوى القليل أو أقل من القليل من الموارد الطبيعية ويخلو من الكثافة السكانية ليقيم عليه العراقيون أهل السنّة دولتهم الفقيرة المحاطة بالخصوم الأقوياء من أكثر من جانب، أمّا بغداد العاصمة القديمة التي يسكنها خليط ينتمي إلى جميع أطياف العراق السياسية وأعراقه الأثنية فإن الترتيبات المعدة لها تقضي بأن تصبح منطقة نزاع دائم وبؤرة توتر مستمرة إلى ما شاء الله تماماً مثل كشمير بين الهند وباكستان.
٭٭ المشهد الثالث:
تورطت الولايات المتحدة فعلاً في الأزمة العراقية، والشعب الأمريكي لن يصبر طويلاً على قوافل القتلى العائدة من ميدان القتال في العراق والتي بلغت قرابة ثلاثة آلاف جندي حتى الآن، والخزينة الأمريكية بدأت تنوء بالتكاليف الباهظة والمروّعة لحرب العراق، بالإضافة إلى الخسائر البشرية والمالية في حرب أفغانستان المستمرة، وقد أثّر كل هذا على الميزانيات الأمريكية الفرعية الأخرى المخصصة للخدمات في داخل البلاد، ومنظمة القاعدة مازالت موجودة في العراق وفي غير العراق، وهي فعّالة جداً ويتزايد نشاطها يوماً بعد يوم على امتداد الكرة الأرضية بما فيها الدول الكبرى بالذات، وابن لادن والظواهري والزرقاوي طلقاء لم تتمكن القوات الأمريكية وحلفاؤها على الرغم من إمكانياتهم المالية والاستخبارية الهائلة من القبض عليهم، بل لم تتمكن من تحديد أماكن وجودهم على وجه دقيق، وحلفاء الولايات المتحدة من الدول الغربية المعنيّة كفرنسا وألمانيا وإيطاليا واسبانيا يشاكسونها أحياناً ويختلفون معها في الرأي في بعض الأحيان، والقوات المتعددة الجنسية تتفكّك عراها يوماً بعد يوم وينسحب أفرادها من العراق على الرغم من أعدادهم الرمزية عائدين إلى بلدانهم، والرئيس بوش سيلملم أوراقه لمغادرة البيت الأبيض نهائياً بعد انتهاء ولايته الثانية والأخيرة التي لا يسمح الدستور الأمريكي له ولا لغيره من الرؤساء بالتجديد لمرة ثالثة مهما كانت الظروف، ولا يقلّل من قيمة هذه القاعدة ويطعن في التزام الأمريكيين الدقيق بها التجديد الوحيد في التاريخ السياسي الأمريكي المعاصر للرئيس فرانكلين روزفلت لمرّة ثالثة في أثناء الحرب العالمية الثانية وبسببها، والولايات المتحدة تقف الآن في مواجهة إيران الدولة النووية القوية جداً عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً، وتتردد في غزوها براً خوفاً من الغوص في أوحال جديدة ستكون في هذه المرّة أكثر مرارة وكلفة واستعصاء على الاحتمال، ولا سيّما أن حكّام إيران الجدد بعد محمد خاتمي المعتدل هم من غلاة المتطرفين الذين يتصرُفون وكأن الثورة قامت بالأمس، وكأنّ الخميني شخصياً ما يزال يقودها وفقاً لمبدأ تصدير الثورة للجيران، كما أعلن ذلك وكرّره صراحة الرئيس الإيراني الجديد والعديد من المسئولين في إيران في هذه الأيام، والعداء لأمريكا مستحكم ومنتشر بين أفراد الشعب وقادة البلاد هناك، والوضع الداخلي الإيراني متين على الرغم مما يقال بين فينة وأخرى عن اهتزازات فيه تؤذن بسقوطه ولو بعد حين، وهو احتمال شديد الضآلة لا يمكن أخذه جدّياً في الاعتبار.
٭٭ المشهد الرابع:
يعيش العراقيون منذ سقوط صدام ونظامه وبدء الاحتلال الأمريكي حالة من الرّعب بسبب فقدان الأمن حتى أصبح كثير منهم يترحّم على الأيام الخوالي حين كان صدام يحكم، ويتمنى عودته إلى السلطة وعودة جيشه المنحّل وشرطته المسرّحة بأقصى سرعة إلى الخدمة الفورية لاعتقادهم بأنّ أجهزة صدام فقط هي القادرة على إعادة الأمن والهدوء إلى البلاد، وبأن صداماً وحكومته يشكلّون وحدهم أيضاً الضمانة القوية لمنع تقسيم العراق، والضمانة الأكيدة كذلك للوقوف عسكرياً بحزم وصرامة أمام إيران وأتباع إيران في العراق وفي دول المنطقة، ولعلّ ذلك يفسّر ما نراه في هذه الأيام من ارتفاع أصوات القوميين العرب من العراقيين المقيمين خارج العراق شيئاً فشيئاً في القنوات الفضائية المختلفة بدفاع غير خجول، صريح أو شبه صريح، عن صدام وحكوماته وسياساته وحروبه وسائر سلوكياته، مما لم يكونوا يجرؤون على فعله علناً قبل أشهر قليلة.
وبما أنّ المد الإسلامي السياسي بدأ يتقدّم بصورة قانونية (على الغالب) ويحتلّ مراكز القوة في الحياة السياسية في كثير من البلدان العربية وفي مقدمتها العراق، فلا بد إذن من أن يُعاد تأهيل نظام علماني قديم بثوب جديد يتظاهر بالإسلام ليكون خصماً شديد المراس لهذا المدّ يستطيع تحجيمه، وأعتقد أن صداماً قد هيئ أمريكياً للعب هذا الدور، لذلك رأيناه يحمل القرآن بصورة مستمرة أثناء محاكمته، ويضعه في حجره مباشرة، ويتلو آياته في العديد من المواقف، ويستشهد بأحكام فقهائه عند الضرورة، ويطلب من القاضي رفع الجلسة فوراً لأداء الصلاة حتى لو كانت صلاة العشاء الفسيح وقتها والممتد حتى الفجر، وحين يتأخر القاضي في رفع الجلسة يبادر صدام إلى الصلاة أمام (الكاميرات) وهو جالس على كرسيّه في قفص الاتهام، ولا يُستبعد إذا قدّر لصدام أن يستعيد الحكم بترتيب مع الأمريكيين أن يعمد إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في العراق، وإلى إحلال النظام الإسلامي فيه، بل ربّما عمد إلى إعادة حزبه القديم باسم جديد هو (حزب البعث العربي الإسلامي السني) إرضاء للعرب وللإسلاميين السنّة منهم على حدّ سواء، وسيستطيع صدام عن طريق حزبه الإسلامي استقطاب جميع الحركات الإسلامية في العالم بما لديه من مال وفير وقوة جديدة وباعتباره يمثل الإسلام العصري المستنير، وسيكون قادراً على احتواء هذه الحركات وتوجيهها لمصلحة الولايات المتحدة وسيتمكن أخيراً من سحب البساط من تحت ابن لادن والقاعدة، ومن سلب إيران اختصاصها باسم (الجمهورية الإسلامية)، ومن الإيحاء بأن إيران الإسلامية الشيعية إذا حاربته فهي تحارب الإسلام السني، وسينوب في النتيجة عن أمريكا في مكافحة هذه الحركات وفي محاصرة إيران تحت ستار مكافحة الإرهاب، وسيكفيها مؤونة المواجهة مع الإسلاميين خاصة في العراق.
ولا بدّ من التذكير هنا بأن صداماً نحا سابقاً نحواً يشبه هذا النحو إلى حدّ كبير حين دهمته الأحداث وأحسّ بقرب السقوط فأطلق ما سمّاه (الحملة الإيمانية) على الرغم من أنه بعثي علماني حارب الدين والمتدينين خلال ولايته السابقة التي امتدت خمسة وثلاثين عاماً متواصلة بضراوة لا تقل عن ضراوة حربه ضد إيران.
إنّ ما شاهده الناس على الشاشة وسمعوه من صدام في جلسات محاكمته من مدح شديد لحزب البعث ومبادئه لا يعدو أن يكون من نوع الدفاع عن الماضي، ولا يحول عند اللزوم بين صدام وبين تحوّله من العلمانية إلى الدين حين يُراد له أن يكون حاكماً مسلماً جديداً ظاهر الإسلام.
٭٭ المشهد الخامس والأخير:
دول الخليج غير قادرة عسكرياً على الوقوف في وجه إيران التي يربو عدد سكانها على السبعين مليوناً، وجيوش هذه الدول صغيرة مهما كبرت أحجامها، والعراق الصدامي هو البلد الوحيد في المنطقة ذو الثلاثين مليوناً من السّكان الذي يمكنه إنتاج العدد المطلوب من الجنود بل فوق المطلوب لمحاربة إيران وشيعة العراق المتزمتين معاً، ودول الخليج غنية مالياً بما يسدّ حاجة الحرب الجديدة التي سيقوم بها صدام ضد إيران وضد دولة الشيعة المتطرفة مذهبياً القائمة في الجنوب العراقي إذا قُسّم العراق، وهو ما حدث من قبل في حرب السنوات الثماني بين إيران الخميني وعراق صدام، فالمطلوب اليوم من دول الخليج أن تسدد مرة أخرى فواتير الحرب القادمة التي سيدافع صدام فيها للمرة الثانية عن البوابة الشرقية للعالم العربي ضد الفرس المجوس في قادسية أخرى، فالجيش من صدّام والمدد المالي من هذه الدول، والولايات المتحدة لن تخسر شيئاً في حرب تُدار لصالحها ونيابة عنها تماماً كما لم تخسر شيئاً في الحرب الأولى بين صدام وإيران، بل أعتقد أن أمريكا ستطالب دول الخليج بإعفاء عراق صدام الجديد من الديون الضخمة السابقة المترتبة على حربه لإيران، وستجد هذه الدول نفسها مضطرة للإذعان لذلك، وبهذه المشاهد مجتمعة يكرّر التاريخ نفسه مرّة أخرى، ويصدق على ما نرى القول (ما أشبه الليلة بالبارحة).
ومن أوضح المؤشرات ما أظهرته قمة الملك فهد - رحمه الله - لدول الخليج العربية من قلق عميق تجاه تسلّح إيران النووي ومطالبتها بالكفّ عن ذلك وبتوقيع اتفاقية الحدّ من انتشار الأسلحة النووية بصرف النظر عن امتلاك إسرائيل لهذه الأسلحة، ومن المؤكد أن الوضع العسكري النووي الجديد في إيران سيؤدي بالضرورة إلى معاناة دول الخليج من مخاوف داخلية إضافية تتعلق بجغرافتيها السياسية وبالتوازنات الديموغرافية القائمة فيها حالياً، وبالتطلعات الكامنة تحت السطح السياسي الهادئ، وهذا أيضاً عامل آخر يبعث على القلق في دول مجلس التعاون الخليجي مخافة أن يؤدي عدم إيقاف طهران عند حدّها وعدم تحجيمها إلى تفكك العالم العربي من شرقه إلى غربه إلى دويلات طوائف صغيرة وضعيفة تشبه مثيلاتها في الأندلس التي اقتصرت على مدينة واحدة أو عليها وعلى القليل من الأرض حولها. وهناك أيضاً مخاوف أخرى لدى دول الخليج تتعلق باحتمالات انفجار مفاعل أو أكثر من المفاعلات النووية الإيرانية بسبب عطل تقني مفاجئ كما حدث في مفاعل (تشرنوبل) في الاتحاد السوفياتي السابق الذي أدى إلى انتشار الأشعة النووية منه ووصولها إلى النرويج، أو بسبب عملية تخريبية داخلية أو هجوم أمريكي أو إسرائيلي مفاجئ، مما يعني أن الإشعاعات النووية ستصيب جميع دول الخليج بالإضافة إلى مناطق واسعة من إيران نفسها، وستدمّر البيئة وربما قضت على الحياة فيها فضلاً عن انتشار أمراض خطيرة جداً بين سكان هذه الدول وفي مقدمتها السرطان وتشوّه الأجنّة.
من أجل هذا كله التقت مصلحة أمريكا والغرب وكثير من الدول وإسرائيل كل لأسبابه الخاصة على ضرورة إعادة صدام إلى الحكم في العراق لإيقاف احتمال أي اضطراب في منطقة الخليج المهمة جداً للجميع في المستقبل، ولمنع نشوب أية معركة حقيقية جادة ضد إسرائيل، ولإشغال الناس بالأوهام وبالآمال الكاذبة في تحرير فلسطين من خلال الحروب الدعائية، ومن خلال التطرف الكاذب في إظهار العداء للأعداء.
هذه حقائق يعيها صدام جيداً وهو واثق من أن الولايات المتحدة ستلجأ إليه حين تعجز عن تهدئة الوضع في العراق ليقوم بالمهمة نيابة عنها، وقد صرّح بذلك أمام هيئة الدفاع وأمام المحكمة نفسها في إحدى الجلسات التي لم يبثها التلفزيون كاملة، وقال أيضاً في الجلسة ذاتها: (إن القوات الأمريكية أبقتني حياً لأنه من المستحيل تخطي صدام في حسابات واشنطن فهم يلوّحون بي في وجه الإيرانيين وفي وجه الحكومة العراقية الحالية)، وأضيف إلى هذا (وفي وجه دول الخليج عند اللزوم وفي وجه الحركات الإسلامية المتطرفة في العراق والعالم)، وربّما كان تصريح صدام وقوله هذين من قبيل جس النبض وعَرْض خدماته مجدداً على أمريكا بالشروط التي تراها مع تعهده هذه المرة بالإلتزام الدائم بعدم نقضها أو التمرد عليها مقابل الاحتفاظ بحياته وعودته إلى الحكم. هذا هو السيناريو المطروح - على ما أعتقد - على الساحة الآن، وهو يمثّل النتيجة التي أتصوّر أن مراكز الأبحاث الأمريكية التي تقدّم في العادة النصح لصنّاع القرار في الدولة وفي مقدّمتهم الرئيس الأمريكي قد توصّلت إليها لتساعد هؤلاء المسؤولين على اتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب في كل مشاكل الكرة الأرضية التي تهمّ الولايات المتحدة، وهذا السيناريو هو ما أتنبأ بتنفيذه في وقت ليس ببعيد، وما أقرع الأجراس من أجل التنبّه له قبل أن يحدث فنندم حينذاك ولات ساعة مندم.
ومع أنّي لست منجماً بل مستقرئاً للأحداث فإني أرجو أن يكذب المستقرئون في هذه المرّة تماماً كما يكذب المنجمون دائماً حتى لو صدقوا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.