بين أزمتين طاحنتين، شرقية في العراق وغربية في فلسطين، وجد الأردن خياره الصعب في اجراء الانتخابات التشريعية الأولى في عهد الملك عبدالله الثاني ، وقرر أن "الظروف الاقليمية" التي حالت دون اجراء هذا الاستحقاق الدستوري منذ تشرين الثاني نوفمبر 2001 لا يمكن أن تظل تبريراً مرفوعاً في وجه القوى السياسية المحلية والدول المانحة ومساعداتها المشروطة بالاصلاح والديموقراطية، ولم يعد أمامه سوى دعوة مواطنيه للاقتراع الثلثاء المقبل، والتنازل عن مخاوفه من أن تدفع أزمات الجوار مواطنيه الى انتخاب قوى راديكالية "مزعجة" في البرلمان. وفي حزيران يونيو 2001 حلّ الملك مجلس النواب تمهيداً لاجراء انتخابات بعد أربعة اشهر، غير أن استمرار التوتر في المنطقة أرجأ موعدها الى حزيران 2003، وعاشت البلاد خلال عامين فراغاً تشريعياً تكفلت الحكومة بملئه بأكثر من 150 قانوناً موقتاً، غير آبهة بسخط المعارضة التي رأت في ذلك "عودة عن الديموقراطية" فواجهتها السلطة التنفيذية بالاستثناء الدستوري الذي يمنحها الحق في اصدار القوانين اذا كان البرلمان منحلاً. والأهم أن الحكومة نجحت بعد شهر من حلّ البرلمان في تمرير قانون الانتخابات بصفة موقتة، لتترك لمجلس النواب المقبل أن يرده أو يقره أو يجري عليه ما شاء من تعديلات... ولكن بعد أن تجرى الانتخابات بموجبه، لا سيما أنه يعزز نفوذ عشائر المدن والريف وقبائل البدو في البرلمان بسبب نظام "صوت واحد لمرشح واحد" الذي اقرّ في انتخابات 1993 بديلاً من نظام "اللوائح المتعددة الأصوات"، واستهدف خصوصاً الاسلاميين. ورفع القانون الذي اعتبرته المعارضة "تشريعاً يتيح التعيين وليس الانتخاب" عدد مقاعد المجلس النيابي من 80 الى 110، وتضمن حصصاً ثابتة كوتات للبدو والمسيحيين والشركس والشيشان والنساء يصل مجموعها الى 27 مقعداً، وأعاد توزيع الدوائر الانتخابية وجعلها 45، من دون أن يراعي الكثافة السكانية. وبدا أن أنظمته ولوائحه اتجهت عمداً الى تقوية البنى الاجتماعية التقليدية على حساب الأحزاب وسائر مؤسسات المجتمع المدني. ووفقاً للقانون الذي قبلته المعارضة "على مضض" أملاً بتغييره تحت قبة البرلمان، يفترض أن يتوجه الثلثاء نحو 2.3 مليون أردني الى صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء مجلس النواب الرابع منذ عودة الحياة النيابية الى المملكة عام 1989، الا أن الفتور العام الذي يعتري الأردنيين حيال هذه المناسبة يقلل الآمال الرسمية بنسبة اقتراع مرتفعة. ويعيد محللون أسباب ذلك الى "الاحباط الشعبي من تداعيات الأوضاع في العراقوفلسطين وتفاقم الأزمة الاقتصادية"، ومعهما اليقين ب"قلة حيلة البرلمانات في احداث التغيير المنشود في دولة تنتمي الى العالم العربي الأكثر نزوعاً الى هيمنة الحكومات على الحياة السياسية". وتركز الأحزاب على ان "المهم ليس اجراء الانتخابات لمجرد اضفاء شكل ديموقراطي، فالمطلوب أن تبدي الحكومة الجدية الكافية في مواجهة هذا الحدث الوطني، وتقدم ضمانات كافية للقوى الحزبية والاجتماعية لمشاركة واسعة فيها، على نحو يبدد الاحباط العام في الشارع جراء الوضع السياسي المتردي في المنطقة". ويقول الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني منير حمارنة ل"الحياة" أن "هذه الانتخابات ستكون الأولى التي لا توفر للأحزاب الحماسة والدوافع القوية للمشاركة الفاعلة وليس الرمزية فيها"، ويرجح أن "تسجل نسبة اقتراع متدنية للغاية". ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للقوى الاجتماعية التقليدية، فالانتخابات لم تعد مناسبة للتنافس العشائري الذي يعتمد عادة على برامج خدمية لاجتذاب الناخبين، اذ أن تخلي الدولة عن الكثير من مؤسسات القطاع العام والاستمرار في برامج الخصخصة ساهما في تخلي المرشحين عن وعودهم في "ايجاد وظائف للعاطلين من العمل وشق الطرق وبناء المدارس والمستشفيات". ويعبّر عن ذلك نائب سابق يتحدر من عشيرة أردنية كبيرة، بالقول ان "الوضع الاقتصادي صعب جداً، والناخبون لن يثقوا بأي برامج، كما أن أحداً لا يستطيع أن يبيعهم شعارات سياسية عن تحرير فلسطين بعد الكارثة التي حدثت في العراق". وتقرّ الحكومة بانعكاسات الأزمة العراقية على مزاج الأردنيين، وتدعوهم في الوقت نفسه الى الالتفات الى همومهم الداخلية. وتبنت في سبيل ذلك استراتيجية وطنية لترجمة شعار "الأردن أولاً" الذي رفعه الملك عبدالله الثاني قبل شهور من اندلاع الحرب على العراق، وهي تريد من الانتخابات أن تعيد الأردنيين الى الاهتمام ب"وطنهم". ويقول الناطق الرسمي للانتخابات النيابية فيصل الشبول أن الدولة "هيأت كل الظروف المناسبة لمشاركة واسعة تحقق تالياً نسبة اقتراع عالية، وفي مقدم ذلك تعهد ملكي بنزاهتها وشفافيتها لتكون أول انتخابات نموذجية في المنطقة"، كما ان "الحكومة وضعت اجراءات ميسرة للناخبين، فهم يستطيعون استخدام بطاقاتهم الشخصية والاقتراع في أي مركز قريب في دوائرهم". وعلى رغم أن الحكومة تسعى الى نسبة اقتراع تفوق انتخابات 1997، حيث سجلت 54 في المئة، الا أنها قلقة في الوقت نفسه من أن تتمكن المعارضة، خصوصاً الاسلامية من تحقيق نتائج مفاجئة، والسيطرة على أكثر من ثلث مقاعد مجلس النواب، مع علمها الأكيد أنها لن تستطيع بلوغ حاجز الغالبية البرلمانية، في ظل النجاحات الكبيرة التي تصيبها العشائر تاريخياً في انتخابات المجالس النيابية والمحلية". فجبهة "العمل الاسلامي" وهي الواجهة السياسية لجماعة "الاخوان المسلمين" في الأردن تخوض الانتخابات بقائمة من 30 مرشحاً من مجموع 789 في دوائر المملكة، وأكدت "حرصها على عدم اغلاق الدوائر الانتخابية، مكتفية برقم متواضع قياساً الى سعة قاعدة الجبهة الشعبية، لافساح المجال أمام القوى الوطنية كافة للمساهمة في الحياة السياسية". وطرحت "الجبهة" مرشحين في 23 دائرة انتخابية في عمان وتسع محافظات ابرزهم النائبان السابقان محمد أبو فارس وبدر الرياطي، ونقيب المهندسين السابق عزام الهنيدي، واستاذ الشريعة الاسلامية علي العتوم، الى رئيس لجنة مقاومة التطبيع في النقابات المهنية علي ابو السكر، وعضو مجلس الشورى في "الاخوان المسلمين" سالم الفلاحات، وعضو "الجبهة" الدكتورة حياة المسيمي وهي ناشطة سياسية معروفة ترشحت في دائرة ذات ثقل سكاني في محافظة الزرقاء وسط ثاني أكبر مدن الأردن. ولوحظ أن الاسلاميين دفعوا بمرشحين من القياديين الجدد في صفوفهم، واختاروا آخرين ممن ينتمون الى عشائر بارزة، لضمان فوزهم في الانتخابات، اعتماداً على قواعدهم القبلية العريضة، وسعياً لتكرار نتائجهم اللافتة في انتخابات 1989 عندما احتلوا 22 من مقاعد البرلمان ال80 ، قبل أن تتراجع حصتهم الى 16 مقعداً في انتخابات عام 1993، بسبب اقرار نظام "الصوت الواحد" الذي كان سبباً مباشراً لمقاطعتهم الانتخابات التالية عام 1997. وحرص الاسلاميون على التأكيد أن "مشاركتهم تأتي استجابة لمتطلبات المرحلة، لكنها لا تعني الموافقة على قانون الانتخاب والرضى عن السياسات الرسمية التي صادرت الحريات العامة واجترأت على الدستور وأصدرت أكثر من 150 قانوناً موقتاً وغيّبت مجلس النواب". ومع ذلك فإن الأمين العام ل"الجبهة" حمزة منصور يعتبر أن "الانتخابات فرصة لحراك سياسي يسهم في معالجة بعض الآثار النفسية الناجمة عن صدمة احتلال العراق، وتكثيف الوجود الأميركي والبريطاني على الأرض العربية، واشتداد الهجمة الصهيونية على الشعب الفلسطيني". إلا أن محللين يلاحظون أن مشاركة الإسلاميين لا تخلو من براغماتية سياسية مباشرة، تدفعها حاجة "الإخوان المسلمين" للعودة الى الحياة السياسية، ورغبتهم في بناء علاقة جديدة مع القصر الملكي. فظروف المقاطعة أضرت كثيراً بموقع "الجماعة" وأقصتها عن نفوذها التقليدي في مؤسسات الدولة، كما ان الإسلاميين باتوا يعرفون جيداً أن مصلحتهم تقتضي التعاطي بإيجابية مع أول انتخابات تجرى في عهد الملك عبدالله الثاني، لكي تكون مناسبة للتأكيد على منهجهم الذي يدعو"الى الإصلاح ونبذ العنف" ولتفويت الفرصة على تيار واسع في الدولة يطالب بحلّ "الجماعة" والاقتداء بالتجربة المصرية في هذا الصدد. وتبدو حظوظ الإسلاميين أوفر من غيرهم من التيارات الأخرى، وأبرزها "الوطني الديموقراطي" الذي يضم ثمانية من أحزاب المعارضة، ويخوض الانتخابات بقائمة من 13 مرشحاً، وتجمع "الإصلاح الديموقراطي" الذي يضمّ 10 أحزاب وسطية وطرح 11 مرشحاً. وفي خضم صراع الأحزاب والعشائر، تتنافس في هوامشهما 54 مرشحة على مقاعد "الكوتا" النسائية الستة التي خصصها لهنّ قانون الانتخاب، على أن تعتبر المرشحة الحاصلة على أعلى نسبة من أصوات المقترعين في دائرتها فائزة في الانتخابات، مقارنة مع النسب في الدوائر الأخرى. وأهم ما يعنيه ذلك حكماً هو أن للنساء حصة مضمونة في البرلمان المقبل بفضل "الكوتا". لكن من المستبعد أن تتمكن أي منهنّ من الفوز خارجها، والإفادة من فرصة ثانية منحها لهنّ القانون، لا سيما بعد رفض لجنة الانتخابات المركزية الشهر الماضي ترشيح المعارضة السياسية البارزة توجان الفيصل بحجة أن ترشيحها يخالف قانون الانتخاب الذي يشترط على من يتقدم بطلب الترشيح لعضوية مجلس النواب "ألا يكون محكوماً بالسجن مدة تزيد على سنة واحدة بجريمة غير سياسية ولم يشمله عفو عام". وكانت محكمة أمن الدولة الأردنية قضت في أيار مايو العام الماضي بسجن الفيصل سنة ونصف سنة، بعدما دانتها بتهمة "نشر معلومات كاذبة من شأنها الإساءة للدولة والنيل من كرامة أفرادها" على خلفية اتهامات وجهتها ب"الفساد واستغلال المنصب العام" لرئيس الوزراء الأردني علي أبو الراغب، قبل أن يصدر الملك عبدالله الثاني في حزيران من السنة نفسها عفواً خاصاً عنها.