سمعته أنه واحد من أكثر الأفلام إخفاقاً وخسراناً في تاريخ السينما العالمية. بل انه يوضع، عادة، في المكانة الأولى في أي لائحة تضم أسماء الأفلام العشرة التي كادت تودي بأصحابها الى الإفلاس أو هي أفلستهم بالفعل. وحتى اليوم لا يزال كثر من المؤرخين وأهل السينما يسألون عن سر ذلك الفشل الذريع الذي طاول، أواسط سنوات الستين من القرن الفائت، فيلماً كان كل ما هيئ له وأنفق عليه يشي بأنه سيكون فيلماً كبيراً من الناحيتين التجارية والنقدية. والأدهى أن النوع السينمائي والتاريخي الذي ينتمي اليه هذا الفيلم ندر أن شهد اخفاقاً لمنتوج أنتجه. فالفيلم، وهو "كليوباترا"، يتحدث عن حقبة من تاريخ مصر القديمة، من طريق حكاية الملكة الشهيرة وعشقها لمارك أنطونيو، في مدينة الاسكندرية. ونعرف ان الهوس الغربي عموماً، بكل ما يمس تاريخ مصر القديم، منذ الفراعنة وحتى عصر مكتبة الاسكندرية على الأقل، كان معمماً، وكان عمره، في ذلك الحين قد زاد على القرنين. إذ منذ حملة بونابرت على مصر، ومنذ كتاب "وصف مصر" ومنذ اللوحات الرومانسية، وضروب الأدب الرائع والغني الذي كتب عن مصر في شتى اللغات الأوروبية، كان الجمهور العريض يقبل على ما يقدم اليه ممهوراً بالصور والأجواء المصرية. وقد نذهب بعيداً هنا ونقول انه لولا هذا الهوس بمصر وتاريخها لما كانت مسرحية شكسبير "أنطوني وكليوباترا" حققت كل ذلك النجاح الذي حققته. وفي القرن العشرين، مع ظهور فن السينما، كان لمصر القديمة في هذا الفن حصة كبيرة، عبر أفلام تدور إما حول بناة الأهرامات أو حول المومياء أو حول كليوباترا نفسها. وتيدا بارا، إحدى ألمع نجوم السينما الصامتة في هوليوود جعلت هذا الاسم الذي اتخذته لنفسها تحريفاً لكلمة "آراب ديث" أي "موت عربي" تيمناً بمصر القديمة وكذلك بكليوباترا التي مثلت دورها وارتدت ما خيل اليها انه ثيابها. فكيف والحال كذلك، عرف "كليوباترا" الذي نتحدث عنه هنا، كل ذلك الإخفاق؟ وكيف أدى الى خسارة الشركة التي انتجته عشرات ملايين الدولارات وكاد يقضي على سمعة عدد كبير من النجوم شاركوا فيه، ومن بينهم إليزابيث تايلور وريتشارد بورتون وستيفن بويد وبيتر فينش؟ لعل السبب هو "لعنة الفراعنة"... قال قائل. أو لعل السبب هو أن مصر نفسها كانت تعيش زمن تحقيق الفيلم عهد عبدالناصر الذي لم يكن ليلقى رضى في الغرب، ما انعكس سلباً على الفيلم، أو لعل ذلك الزمن كان زمن السينما الاجتماعية الذي تضاءل فيه، عالمياً، الاهتمام بالسينما التاريخية... قال آخرون. في المقابل قال عارفون ببواطن الأمور، ان الأمر لم يكن لا هذا ولا ذاك. المسألة تكمن في الفيلم نفسه إذ "لعله من الصعب أن يأخذ المرء على محمل الجد فيلماً يتجول أبطاله الرجال طوال الوقت وهم مرتدون التنانير القصيرة"... أو يحيّون بعضهم بعضاً على الطريقة الهتلرية... الفيلم، إذاً، هو "كليوباترا"... الذي ينطلق، أصلاً، من مسرحية شكسبير التي ذكرنا ليحاول أن يروي ذلك الفصل التاريخي المشوق. ولكن، كيف يمكن القبول بفيلم عن كليوباترا، لا تظهر هذه فيه للمرة الأولى إلا بعد نصف ساعة من بدء الفيلم، وفقط لتبدأ باستعراض أثوابها فتغير ستة وأربعين ثوباً خلال ما تبقى من زمن الفيلم؟ ولنلاحظ هنا أن الجملة الأولى التي تتفوه بها تلك التي كانت فاتنة الناس في ذلك الحين هي "ثانك يو" تلقيها بإنكليزية صارمة بدت وكأنها انكليزية مدرسة صفوف ابتدائية. وبعد ذلك تتوالى المشاهد، واذا بقيصر يظهر وقد استبدت به نوبة صرع عنيفة. ثم إثر ذلك تظهر إليزابيث من جديد ولكن شبه عارية والخادمة تدلك لها جسداً هو من الترهل إذ يحتاج حقاً الى تدليك. وإثر لقطة التدليك هذه يختلط الحابل بالنابل، تحترق مكتبة الاسكندرية، ثم تضع كليوباترا التاج على رأسها فيبدو مثل قطعة حلوى مقعرة. أما مارك انطونيو فلا يظهر إلا ابتداء من أول النصف الثاني من الفيلم... وهكذا تتوالى مشاهد هذا الفيلم العجيب، في شكل لا يعود معه من المستغرب أن يفشل، بل أن توضع على الرف مشاريع "فرعونية" مشابهة. تصوير هذا الفيلم بدأ في لندن بادارة المخرج روبين صاموليان... ولم ينته إلا في روما بإدارة جوزف مانكفيتش، الذي، على رغم قوته وأفلامه الجيدة، لم يتمكن أبداً من إنقاذ هذا المشروع. ذلك أن شهور التصوير نفسها كانت كالكوابيس، بين نزوات السيدة تايلور، وطرد ستيفن بويد وبيتر فينش من تمثيل الفيلم، والغزل والخيانات الزوجية بين الثلاثي المؤلف من إليزابيث تايلور وزوجها السابق وذاك الذي سيصبح زوجها الجديد اللاحق، ريتشارد بورتون. وفي خضم هذا كله توالت الاضرابات. اضراب الحلاقين ثم رجال الكومبارس، ثم هرب المنتج الأول واستقالة المنتج الثاني... ونوم ريتشارد بورتون وشخيره ساعات وساعات في بلاتوه التصوير. وعلى هذا كله لخص مانكفيتش ما حدث بهذه العبارات المختصرة: "ان هذا الفيلم صمم بسرعة، وصور بشكل هستيريا جماعية، وانجز وسط مناخ من الرعب الشامل". والفيلم، كما سيقول عنه النقاد يقسم قسمين: الحوارات الشكسبيرية الممطوطة والمعادة 80 في المئة من زمن الفيلم والمعارك الحمقاء غير المقنعة وعددها 3 معارك... وكانت النتيجة ليس فقط واحداً من أكثر الأفلام إخفاقاً، بل أسوأها حظاً وأدناها من ناحية مستواه الفني، وقيل يومها: أكيد أن كليوباترا وشكسبير كانا يستأهلان أفضل من هذا المصير.