إطلاق كائنات فطرية بمتنزه الأحساء    تدشين التجمع الغذائي بجدة الأحد المقبل    المجلس الدولي للتمور ينظم جلسة حوارية بمشاركة خبراء ومختصين عالميين .. الخميس المقبل    انطلاق النسخة الثامنة من منتدى مسك العالمي 2024 بمدينة محمد بن سلمان غير الربحية    نزع ملكيات في لطائف    التشهير بمواطن ومقيم ارتكبا التستر في نشاط العطور والأقمشة    الرئيس البرازيلي يفتتح قمة مجموعة العشرين    وزير الخارجية يترأس وفد السعودية في افتتاح قمة العشرين    نائب وزير الخارجية يستقبل نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية    الشورى يطالب باستراتيجية شاملة لسلامة النقل    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تعزز السياحة الثقافية بمشروع وطني طموح    الفيتو الروسي يحبط وقف إطلاق النار في السودان    " طويق " تدعم شموع الأمل ببرامج تدريبية لمقدمي الخدمات لذوي الإعاقة    أمير تبوك يدشن مشروعات تنموية واستثماريه بالمنطقة    «عكاظ» تكشف تفاصيل 16 سؤالاً أجابت عليها وزارة التعليم عن الرخصة المهنية    محافظ محايل يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    أمير حائل يطلع على مشروع التحول في منظومة حوكمة إدارات ومكاتب التعليم    علوان رئيساً تنفيذيّاً ل«المسرح والفنون الأدائية».. والواصل رئيساً تنفيذيّاً ل«الأدب والنشر والترجمة»    وزارة الثقافة تحتفي بالأوركسترا اليمنية في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض    وزير الدفاع يلتقي حاكم ولاية إنديانا الأمريكية    أصول الصناديق الاستثمارية الوقفية ترتفع إلى مليار ريال    مستشفى الحرجة يُفعّل التطعيم ضد الحصبة و الأسبوع الخليجي للسكري    «الإحصاء»: السمنة بين سكان المملكة 15 سنة فأكثر 23.1%    رينارد يتحدث عن مانشيني ونقاط ضعف المنتخب السعودي    مستشفيات دله تحصد جائزة تقديم خدمات الرعاية الصحية المتكاملة في السعودية 2024    قسطرة قلبية نادرة تنقذ طفلًا يمنيًا بمركز الأمير سلطان بالقصيم    9300 مستفيد من صندوق النفقة خلال 2024    الكتابة على الجدران.. ظاهرة سلبية يدعو المختصون للبحث عن أسبابها وعلاجها    مهرجان وادي السلف يختتم فعالياته بأكثر من 150 ألف زائر    الملتقى البحري السعودي الدولي الثالث ينطلق غدًا    النسخة الصينية من موسوعة "سعوديبيديا" في بكين    سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    الإجازة ونهايتها بالنسبة للطلاب    أمير الرياض يفتتح اليوم منتدى الرياض الاقتصادي    الأخضر يكثف تحضيراته للقاء إندونيسيا في تصفيات المونديال    وزير الإعلام اختتم زيارته لبكين.. السعودية والصين.. شراكة راسخة وتعاون مثمر    المملكة تدين استمرار استهداف" الأونروا"    كل الحب    البوابة السحرية لتكنولوجيا المستقبل    استقبال 127 مشاركة من 41 دولة.. إغلاق التسجيل في ملتقى" الفيديو آرت" الدولي    حسابات ال «ثريد»    صبي في ال 14 متهم بإحراق غابات نيوجيرسي    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    موافقة خادم الحرمين على استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    محافظ جدة يستقبل قنصل كازاخستان    مع انطلاقة الفصل الثاني.. «التعليم» تشدّد على انضباط المدارس    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكميات من «الشبو»    قلق في بريطانيا: إرهاق.. صداع.. وإسهال.. أعراض فايروس جديد    أوربارينا يجهز «سكري القصيم» «محلياً وقارياً»    مكالمة السيتي    أعاصير تضرب المركب الألماني    الله عليه أخضر عنيد    المكتشفات الحديثة ما بين التصريح الإعلامي والبحث العلمي    «القمة غير العادية».. المسار الوضيء    وزير الدفاع يلتقي سفير جمهورية الصين الشعبية لدى المملكة    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"نفحة إيمان" مذكرات الملكة نور الحسين عن الأردن في 20 عاماً . ودعت الحسين في اللحظة الاخيرة وارتضينا ما يريده الله لنا في هذه المعركة الاخيرة
نشر في الحياة يوم 08 - 05 - 2003

ختام حياة حافلة للملك الحسين تسرد الملكة نور وقائعها من الأيام الأولى لاكتشاف اصابته بمرض السرطان وخضوعه للعلاج في الولايات المتحدة وثم عودته إلى الأردن، لينكب على وصيته في نقل الولاية إلى نجله عبدالله.
ترسم الملكة نور صورة للحزن الذي لف العائلة الهاشمية والأردن بوفاة الملك الحسين وتكتب عن لوعتها بفقدان الزوج والأب الذي بكته سماء الأردن.
غادرنا بريطانيا الى الأردن في الساعة 7.55 من صباح 19 كانون الثاني يناير 1999 على متن طائرة أردنية من طراز "غالف ستريم 4". ورافقتنا فورا مقاتلات بريطانية من السرب السادس. ثم التقتنا عندما غادرنا أجواء بريطانيا مقاتلات فرنسية، ثم ايطالية عندما عبرنا الى سماء ايطاليا، واسرائيلية في أجواء اسرائيل، قبل الوصول الى اجواء الوطن حيث رافقتنا المقاتلات الأردنية. وبرغم انهاكه البالغ قاد الحسين طائرتنا طوال تلك الرحلة، عدا فترة غداء قصيرة. وشكّلت هذه المواكب الجوية التحية الأسمى لزوجي الطيار. ووجد الأطفال اثارة كبيرة عندما كانت المقاتلات تقترب من طائرتنا، احيانا الى درجة استطاعتنا قراءة اسم الطيار على بطاقة الهوية المثبتة على بزته العسكرية.
عندما اقتربنا من عمان كانت السماء تمطر بغزارة وسط أجواء قارسة البرد. ويعتبر المطر في بلدنا البركة الأسمى، خصوصا وانها لم تمطر ذلك الشتاء حتى تلك اللحظة. وعزا كثيرون ذلك الى رضا الله عن زوجي. وقام الحسين بجولة في سماء عمان، تعبيرا عن سعادته بالعودة الى الوطن بعد طول الغياب، قبل الهبوط في مطارها لنواجه استقبالا صاخبا. وتجمعنا حول الملك في الطائرة، وساعدته بناتنا وهاشم على ترتيب لفحته وكوفيته. ونزل الحسين من الطائرة بنفسه، بمشية مهيبة بالرغم من ضعفه. وعندما وطأ تربة الأردن ركع مصليا. ووقفت جنبه وشاركته الصلاة، وقرأت الفاتحة شكرا لله على سلامة عودته الى الوطن. ثم تبادلنا التحية مع كل أفراد الأسرة ومسؤولي البلاط وكبار الشخصيات العربية، وكلهم كانوا في انتظارنا على المدرج، ثم انتقلنا الى المكان المخصص للطائرات التقينا فيه المسؤولين الحكوميين والصحافيين والضيوف الذين تلقوا دعوة خاصة للحضور.
وحاولت مثلما هي عادتي البقاء في الخلفية عندما يكون الحسين محط الأنظار، لكنه هذه المرة جعلني قربه. وعندما تكلم الى الصحافيين فوجئت واحرجت عندما عبّر لهم عن مشاعره الشخصية الكريمة تجاهي. وكان ذلك شيئا استثنائيا لأننا في العادة كنا نتجنب الكلام العلني عن بعضنا بعضا.
رحلتنا الى سكننا كانت مرهقة لكن رائعة. وطلب الحسين فتح سقف السيارة بالرغم من المطر وشدة البرد والرياح، ووقف ليحيي الجموع المحتشدة على طول الطريق. حاولت ان اثنيه عن ذلك لكنه اصر على الوقوف معرضاً نفسه للطقس القاسي معظم الطريق إلى قصر باب السلام. فاذا كان الشعب يرضى بالوقوف في الشوارع تحت المطر والبرد القارس لتحيته فهو سيقوم بالمثل. وأمسكت بساقيه لمساعدته على الاستمرار، وتساءلت في سري: أي قائد آخر في العالم له هذه العلاقة الحميمة مع شعبه؟ وأي شعب آخر يكنّ هذا المقدار من الحب لقائده؟ واستمر الاستقبال الحافل الى أن وصلنا باب السلام، وترجلنا هناك مرهقين لكن مليئين بالغبطة، حيث اصطف للقائنا على المدخل كل العاملين في القصر.
في الليلة التالية علمنا أن نتيجة الفحوص التي اجراها الملك في بريطانيا عشية مغادرته كانت سلبية، ورفع ذلك من روحنا المعنوية. لكننا خلال الشهور الستة في مستشفى مايو شهدنا الكثير من التقلبات، ولذا تعلمت أن لا أسرف في التفاؤل. وكتبت في دفتر يومياتي تلك الليلة: "مثلما الحال مرارا في الآونة الأخيرة اشعر بتضارب بين مشاعر الابتهاج وضرورة الاستعداد لكل الاحتمالات".
في اليوم التالي أعطى الملك مقابلة معمقة لمراسلة "سي ان ان" كرستيان أمانبور التي طلبت تغطية عودته الى الأردن. وحذر الحسين من المخاطر على أمننا المشترك قائلا: "الارهاب هو من بين أكثر ما يثير مخاوفنا اليوم… وإمكانات صنع اسلحة الدمار الشامل لم تكن يوما بهذا الانفلات". وعندما سألته عن اللحظات التي يعتز بها في حياته، قال ان هناك الكثير منها، لكن ما يؤسفه انه لم يستطع دوما، بالرغم من كل جهوده، منع تفجر أزمات كان يراها مقبلة. وعندما سألته عن ولي العهد الأمير الحسن، أبدى تقديرا كبيرا لجهود الأمير عبر السنين. ولدى اصرارها على التساؤل حول ولاية العهد كان الجواب: "ليس عندي سوى بعض الأفكار. اضطررت دوما الى اتخاذ القرار النهائي، وبالرغم من الاعتراضات عليه احيانا كان القرار مسؤوليتي، وسوف أتوصل اليه في الوقت المناسب".
ردود الفعل كانت فورية. واجتمع الحسن تلك الليلة مع مسؤولين في الحكومة والجيش وأجهزة المخابرات. وجاءت الأميرة بسمة الى باب السلام في اليوم التالي وهي تشعر بأشد القلق من السرعة التي احتلت فيها هذه القضية مركز الأحداث. ولم يستطع زوجي رؤيتها. ولم أكن قد بحثت القضية معه قبل ذلك لكن حاولت طمأنتها الى أن أخاها سيسعى الى حل للوضع يتسم باقصى ما يمكن من التعاطف والكرامة وروح الأخوة.
والتقى الحسين مع اخيه الحسن في 21 كانون الثاني يناير، بعد يومين على عودتنا. وكان اللقاء خاصا ولم يعرف ما دار فيه سواهما. وشعرت بتعاطف كبير مع الحسن لأن قضية وراثة العرش تحولت في عمان الى ما يشبه المسرحية المثيرة. واذا كان الحسين أشار مرارا عبر السنين الى عدد من الخيارات المتاحة، فقد قرر الآن تعيين عبد الله وليا للعهد. ولا غرابة في ان يقع الخيار على الجيل الجديد من العائلة. وكان عبد الله في السابعة والثلاثين من العمر، وقد درس في معهد الخدمة الخارجية في جامعة جورجتاون وأيضا في جامعة أكسفورد. كما انه خريج كلية ساندهرست العسكرية البريطانية مثل والده، ووصل الى رتبة لواء في القوات الخاصة في الجيش الاردني، أي وحدات النخبة في الجيش. وضمن له ذلك دعم القوات المسلحة، وهو اعتبار حاسم الأهمية.
وقال لي زوجي: "أريد لحمزة أن يبلغ ما لم أبلغه من حيث التعليم. وليكن شريكا ناصحا وناقدا لعبد الله". وقد أيدت قراره بقوة. والواقع انني - على العكس من التقارير الاعلامية المزعجة للملك التي ادعت انني كنت أضغط على زوجي لتعيين حمزة وليا للعهد - كنت أقول دوما بضرورة اعطاء حمزة فرصة الدراسة في الجامعة وتطوير اهتماماته ومواهبه.
بعد ذلك التقى الملك الأمير عبد الله، الذي طلب لقائي بعد ذلك. وقال لي أنه فوجيء تماما بمجرى الأحداث. فقد كان الحسن ولياً للعهد منذ 1965، وقال لي عبدالله إنه اعتقد ان الخيار الثاني للملك بعد الحسن لا بد أن يكون حمزة، وكان مستعداً لدعم ذلك الخيار. وقلت لعبدالله إن ما يهمني أن يعرف انني ادعم خيار الملك في شكل كامل وانه، عبدالله، حائز على كامل ثقتي مساندتي. وأكدت سأبذل جهدي لأوفر له كل ما أمكن من الوقت للعمل مع والده. واحتضنته مودعة بكثير من التأثر، وغادر الى مسكنه ليبلغ زوجته رانيا. وكتبت في يومياتي تلك الليلة: "اصلي من أجل عبدالله، وآمل ان لا تمنعه الاحداث من أن يكون مع والده".
وسط هذا الوضع العائلي المؤلم أصيب زوجي بنكسة جديدة مؤلمة، تمثلت بنوبات متوالية من الفواق، وتفاقمت النوبات لتصبح شبه دائمة. وحاول فريقنا الطبي جهده لوقف النوبات، واضطروا في النهاية الى تخديره ليلا كي يستطيع النوم.
خلال ذلك كانت ممرضتنا الأردنية المخلصة سحر توالي الدخول علىه أثناء النوم لتطئمن الى وضعه. واحتاج الحسين وقتها الى نقل الدم والمصل يوميا تقريبا، لكن وضعه لم يتحسن. وقرر اطباؤنا اجراء فحص اشعاعي جديد له، وكذلك استخلاص جديد لنخاع العظم - وأمسكت بيده أثناء المحاولة الأخيرة متألمة من هذه الصدمات الجديدة التي يتعرض لها جسمه. ودعاني الدكتور فرّاج الى الحديث خارج الغرفة، حيث اخبرني أن الفحص الاشعاعي كشف عن تغيرات مقلقة. وعدت لأمسك يد زوجي حتى انتهاء تلك المحاولة، لكن الدموع سالت على وجهي تحت القناع الطبي، واضطررت الى الخروج من الغرفة مجددا للسيطرة على عواطفي. لقد حاولت طيلة سنوات زواجنا اشاعة التفاؤل والأمل، كما علّمني زوجي، وشعرت هذه المرة أن الأهم أن لا يبدو عليّ الخوف أو اليأس، خصوصا في تلك اللحظة أمام الممرضات والتقنيين.
وقابلنا، زوجي وأنا، فريقنا الأردني من المختصين وفريق مستشفى مايو الأميركي، الذين أكدوا لنا أسوأ المخاوف. فقد بدا ان السرطان قد عاد. وعرضوا علينا ثلاثة خيارات: الأول بقاء زوجي في عمّان وتوفير كل ما أمكن من الراحة له، لكن دون أي علاج. الثاني، البقاء في عمان مع استعمال العلاج الكيماوي، ولو انه لن يقود الى الشفاء. الثالث، العودة الى مستشفى مايو واجراء عملية زرع جديدة. وكان هذا هو الخيار الأخطر، لكنه الوحيد الذي يقدم فرصة الشفاء. ولم نتردد لحظة واحدة في الاختيار، وقال زوجي للأطباء: "سوف نعود".
جلس الحسين الى منضدة الطعام في غرفة الاستقبال الخاصة بنا ليعمل على التفاصيل الأخيرة على تغيير ولاية العهد واعداد رسالة مفتوحة الى الحسن لشكره على دعمه الثمين عبر السنين التي كان فيها وليا للعهد. واستغرقته الكتابة تماما، ولم يتناول اثناء ذلك سوى الشاي. وكان مساعدوه يأتون بين وقت وآخر للاطمئنان عليه لكنه لم يتوقف. وقضى زوجي بقية تلك الأمسية وهو يكافح، بكل ما تبقى له من قوة، لاكمال الرسالة الموجهة الى الحسن. وكان قلبي يتفطر وأنا أرى ما يتحمله من الألم، اذا لم يستطع الكتابة دون وقفات طويلة بسبب الانهاك. وعرفت من الأطباء أن علينا مغادرة البلاد إلى مايو فورا قبل فوات الأوان. لكن الحسين كان مصمما على القيام بواجبه في ضمان مستقبل واعد لشعبه. وفي النهاية أكمل الرسالة عند منتصف الليل. وفيما كانت الصفحة الأخيرة من الرسالة قيد الطباعة قابل الملك أخاه الأمير الحسن وولده ولي العهد الجديد الأمير عبدالله. بعد ذلك مباشرة أعلن الحسين قراره الى كبار أفراد العائلة ورئيس الوزراء والشخصيات البرلمانية الرئيسية والعسكريين ومسؤولي الاستخبارات. وبعد ان انتهى من هذا الجهد الكبير، استطاع ان يرتاح لبضعة ساعات قبل مغادرتنا الى مايو.
وقد أثارت الرسالة خلافات شديدة بعد قرائتها على التلفزيون الأردني اليوم التالي وتوزيعها على الاعلام الدولي. أعطاني نسخة منها اثناء رحلة العودة الى مايو، لكني لم أقرأها إلا بعد أشهر، وكان ما فاجأني وهزّ مشاعري الطريقة التي ذكرني فيها: "لقد جلبت السعادة واعتنت بي خلال مرضي بأسمى الحب والحنان. انها الاردنية التي تنتمي الى هذا البلد بكل ذرة من وجودها وترفع رأسها عاليا مدافعة وخادمة لمصالح البلد. انها الأم التي كرست كل جهودها لعائلتها. لقد نضجنا سوية روحياً وعقلياً، وتحملت الكثير لكن تضمن لي الخدمة المطلوبة. وهي مثلي صمدت أمام الكثير من المخاوف والصدمات، لكنها اعتمدت دوما على ثقتها بالله وغلفت دموعها بالبسمات. وهي أيضاً لم تسلم من سهام الانتقاد. ولم لا؟ لأن هناك متسلقين يريدون الوصول الى القمة، واعتقدوا ان الفرصة سنحت لهم عندما تصاعدت الحمى".
صباح اليوم التالي أخذتني إحدى الممرضات برديت جانباً لتقول ان نتائج فحص الدم ذلك اليوم تثير قلقاً عميقاً. والمحت الى ان علينا لقاء حمزة لكي يصاحبنا الى مايو. وقد كنت اعرف ان برديت تقدّر القواعد الصارمة التي تضعها ساندهرست لطلبتها، ولذا فإن اقتراحها كان يشير الى مدى حراجة الوضع. وشعرت وكأن قلبي ينفطر عندما فهمت مقصدها. وتركتها لأعود الى غرفتي، حيث ارتميت باكية على الأرض. وكتبت في يومياتي: "أنا لست مهيئة لفقدان نور حياتي. عليّ التمسك بالايمان، عليّ ان أكون ايجابية. وسأصلي وأصلي وأصلي من أجل صحته وسعادته وطمأنينته.
وانطلقنا صباح اليوم التالي، 26 كانون الثاني يناير بطائرة التراي ستار، بعد مجرد اسبوع على عودتنا الى عمّان. ذهبنا بالسيارة الى المطار، وكان عبدالله يقودها ووالده الى جانبه، فيما جلسنا أنا ورانيا زوجة عبدالله في الخلف. وجدنا في المطار كثيرين من الشخصيات الرسمية ومسؤولي البلاط الملكي وأفراد العائلة في حشد يلفه الوجوم جاء لتوديع العاهل الحبيب. كان الحسين على قدر كبير من الانهاك والضعف، لكنه صافحهم واحدا واحدا وخص كلا منهم بكلمة وداع. لم اصدق انه كان قادرا على ذلك، لكنه قام به فعلا.
الرحلة الجوية بدت وكأنها بلا نهاية. وكنّا رتّبنا لريتشارد فيرال أن ينقل من لندن شحنة الدم التي يحتاجها زوجي ورقائق الدم التي تساعد على التخثر ويأتي بها مع حمزة وراية الى مطار شانون الارلندي، حيث كان علينا التزود بالوقود. وأصر زوجي على ايقاظه قبل الوصول الى شانون لكي يلبس البذلة ورباط العنق ليلاقي ولديه باللباس المناسب. وتطلب ذلك جهدا هائلا منه، لكنه لاقاهم بالاحضان والبسمات وكلمات التشجيع.
كما أصر الحسين على الأمر نفسه عندما وصلنا اخيرا الى روتشستر، فقد تمالك نفسه بشجاعة ونزل من الطائرة دون مساعدة من أحد. واحتفظ بروحه المعنوية حتى عندما عدنا الى الغرفة نفسها التي كان قد قضى فيها غالبية الأشهر الستة الأخيرة. واكتفى بالقول للأطباء: "حسنا، لنبدأ!".
العلاج الكيماوي الذي استعمل هذه المرة كان جديدا على زوجي. وتمثل خطر هذا العلاج في أن تدميره السريع للخلايا السرطانية يؤدي الى مضاعفات قد تكون قاتلة. ولهذا السبب وضعوا زوجي في وحدة العناية الفائقة ليستطيعوا مراقبة وضعه على مدار الساعة. وكان هذا مصدر احباط بالغ لفريقنا الأمني، الذي كان الكثير من أفراده في رفقتنا يوميا طيلة الشهور الستة الماضية، ورفضوا أخذ الاجازات أو الذهاب الى الاردن ليروا أسرهم. كانوا مستعدين لبذل حياتهم من أجل الحسين. لكنهم لم يعرفوا سبيلا لحمايته من السرطان، واخافتهم وحدة العناية الفائقة. وكرروا ان من يدخلها لا يخرج منها حيّا، فيما حاولنا تطمينهم وازالة مخاوفهم.
تقبل زوجي العلاج الجديد في شكل جيّد، وتحسن وضعه بما يكفي لاعادته الى غرفته الأصلية. لكن فكره بدأ يضطرب في شكل متزايد، وتناقص كلامه، وبدأ كأنه يتلمس الأجوبة عن طريق نظراته وتعابير وجهه. وكان معنا كل من هيا وعلي وهاشم وايمان وراية، فيما لم يترك حمزة جانب والده إلا نادراً. وكتبت في يومياتي: "أطفالي الشجعان يعملون على اراحة والدهم وتطمينه، وهم يواصلون الدعاء له بالسلامة ويغمرونه بكل الحب في شكل فاق كل تصوراتي". وقررت في واحدة من الأمسيات أخذ البنات وبرديت لعشاء سريع خارج المستشفى، لكن هيا دعتني للعودة بسرعة، فقد أخافها وضع والدها، إذ تزايد صمته أكثر فأكثر وبدا وكأنه ينسحب الى داخل ذاته. بعد ذلك أخذ يجد صعوبة في التنفس.
التغير المفاجئ الآخر لاحظه حمزة مبكراً في الصباح، عندما كان جالسا بجانب والده قارئا على مسمعه تلك الآيات التي طالما جلبت لنفسه الهدوء. ونادى حمزة برديت، الذي استدعت الأطباء. وقال لي هؤلاء انهم يريدون الاستعانة بجهاز التنفس الاصطناعي، وشرحوا مزايا ومخاطر الجهاز. وجلست معهم للحظة ثم سألتهم: "هل يمكننا اخذه الى الوطن؟"، فأجابوا: "بالطبع". وكان سؤالي التالي: "ما هو الوقت الأقرب المناسب؟". ذلك انني فكرت اننا اذا كنا سنخسر هذه المعركة فلن نخسرها في روتشستر في ولاية منيسوتا، لأن المكان الصحيح له هو أن يكون في وطنه ومع عائلته الأردنية.
بعد ساعتين كنا في الطائرة. فقد بادر الفريق الطبي كله اضافة الى المسؤولين الاداريين والمساعدين المنزليين والصيادلة وخبراء العلاج وفريق الطيران الى بذل أقصى الجهد لتهيئتنا للرحلة. ووصلنا الى المطار بحقائبنا ومعنا عشرة أطباء وخبير في علاج عسر التنفس وكل ما يمكن ان نحتاجه من المعدات والأدوية. وبدأت الرحلة وسط تضرعاتنا وصلواتنا من أجل معجزة، أو الأمل على الأقل بوصول الحسين الى وطنه بأمان. هذه المرة أيضا رافقتنا المقاتلات، لكن لم يكن هناك من يهتم بها هذه المرة.
ثم توقفنا في شانون حيث التقينا ريتشار فيرال الذي جاء من لندن حاملا الاكسجين والدم ورقائق التخثر. كان ذلك في الثانية أو الثالثة صباحاً. وقال ريتشارد انه لن ينسى تلك اللحظة حين كان يقف لوحده على المدرج الخالي وبرزت أمامه فجأة من الظلام طائرة التراي ستار بأضوائها الباهرة التي انعكست على شعار التاج الملكي على الذيل. وطلبت من حمزة أن يدخل ريتشارد الى الطائرة لكي يودع الملك، ودعوت كل من كان على الطائرة ان يقوم بالمثل. لقد بقينا سوية معا زمناً طويلاً وتحملنا الكثير ولذا كان من اللائق ان يؤدي الجميع مراسيم الوداع. لكن صعب على الكل أن يروا زوجي، الذي كان دوماً مليئاً بالحيوية والنشاط، وهو يرقد بسكون.
وفي غرفته في مدينة الحسين الطبية في عمان كان الملك مستلقيا دون حراك فيما انهمر المطر البارد على النوافذ. على رغم المطر، تجمع في الخارج الوف الأردنيين. وفي اليوم الثاني من وصولنا مشيت عبر بوابة المركز مع أولادنا الثلاثة فيصل وعلي وحمزة لأطلب من الجمهور مشاركتي في الدعاء لمليكنا. وسادت مشاعر عند اليأس الشعب الأردني بأسره.
وتجمعت في المستشفى عائلة زوجي للوداع الأخير: أخويه وأخته وأبناء العمومة والخؤولة مع أولادهم وزوجتيه السابقتين، وكلهم جاءوا للدعاء والصلاة فيما كان مستلقيا غائبا عن الوعي في تلك النهاية السريعة لحياته الرائعة.
كان تردي حالته سريعا ومفاجئا، وهو ما دعاني الى الطلب من الأطباء أخذ أبنائه جانبا واطلاعهم على مجرى مرضه.، وشعرت أن عليهم أن يعرفوا الوضع على حقيقته ويشاركوا في اتخاذ القرارات الطبية الأخيرة التي لا بد منها. وبقي أولاده بجانبه طيلة الوقت وهم يرددون الصلوات والأدعية وكان بعضهم ينام على أرض الغرفة. وشعرت بما يشبه اليقين أن وجود عائلته حوله أدخل الطمأنينة على نفسه.
في الصباح الأخير مشيت عبر الأطفال النائمين لقضاء لحظة أخيرة هادئة معه. لكن الواقع انني كنت قد ودعته منذ زمن، أي منذ أن ارتضينا بهدوء ما يريده الله لنا في هذه المعركة.
توفي الحسين في السابع من شباط فبراير وقت صلاة الظهر. كانت السماء مكفهرة طيلة ذلك النهار، وفي اللحظة التي توقف فيها قلب الحسين فتحت السماء أبوابها وانهمر المطر كالشلال. وتوفي وهو مستلق نحو الكعبة في مكة المكرمة في نفس عمر الرسول صلى الله عليه وسلم عند وفاته. وكنت لحظة موت زوجي واقفة عند سريره ممسكة بيده وحولنا أطفالنا وبعض الاقرباء. واستدرت الى عبد الله واحتضنته قائلة: "مات الملك!"، ثم أضفت: "عاش الملك!".
بعد ذلك أخذنا الجثمان من المستشفى الى باب السلام، البيت الذي أحبه زوجي كثيرا لكن لم يستطع التمتع طويلا بسكناه، ووضعنا التابوت في غرفة الجلوس. ونمت على كنبة في الغرفة نفسها تلك الليلة، قرب شمعة واحدة أضاءت صورته، فيما انتشرت في الجو رائحة البخور مشيعة الهدوء. كنت في حال من الصدمة، لكن غمرني أيضا شعور بالسلام. وليس هناك من كلمات يمكنها أن تصف ذلك الصفاء الروحي والايمان الذي أمدني بالعون وقتها، وقناعتي التامة بأن ما حصل لا يتعدى ان يكون مرحلة اخرى من الرحلة الني نستمر في القيام بها. وفي منتصف الليل دخل الى الغرفة بصمت علي وهيا وحمزة وهاشم وايمان وهم يسندون بعضهم بعضا، لقضاء لحظات أخيرة معه.
وجاء أبناء الحسين في الصباح لأخذ الجثمان لغسله. ودعاني الشيخ أحمد هليل، إمام الحضرة الهاشمية، لقضاء آخر اللحظات قرب زوجي، قبل أن يشارك أبناء الملك في مراسيم غسل والدهم الراحل. ثم كفنه أبناؤه بثوب الاحرام الذي كان يستعمله في الحج.
وشهد الأردن جنازة مهيبة سميت بجنازة العصر، لا سابق لها بما حضرها من الشخصيات العالمية. وكان من بينها الملوك والرؤساء والأصدقاء والأعداء، ومختلف العوائل المالكة والوفود الرفيعة المستوى. وكان من بين قادة الشرق الأوسط الرئيس مبارك من مصر، وولي العهد السعودي الأمير عبدالله، والرئيس اليمني علي عبدالله الصالح، والشيخ خليفة أمير البحرين، والرئيس السوداني عمر حسن البشير، والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، والرئيس السوري حافظ الأسد، ونائب الرئيس العراق طه معروف رمضان، والأمين العام للجامعة العربية عصمت عبدالمجيد، وسمو الأمير الأغا خان. وجاء من الولايات المتحدة الرؤساء بيل كلينتون وجورج بوش وجيمي كارتر. ومن اسرائيل رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو والرئيس عيزر وايزمن، إضافة الى وفد رفيع المرتبة. كما حضر الجنازة العاهل الاسباني خوان كارلوس والملكة صوفيا، وولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز، والملكة بياتريس من هولندا، والعاهل البلجيكي البير وزوجته الملكة باولا، ثم من اليابان ولي العهد ناروهيتو وولية العهد ماساكو. وكان من القادة السياسيين الرئيس الروسي بوريس يلتسن، والمستشارالألماني غيرهارد شرودر، ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير، ورئيس النمسا توماس كليستل، ورئيسة ارلندا ماري ماكاليس، ووزير داخلية جنوب افريقيا منغوسوثو بوتيليزي، والأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان وزوجته ناني، والرئيس التشيكي فاتسلاف هافل، اضافة الى كثير من المسؤولين والأصدقاء.
وجاء والداي الى عمان بصحبة الرئيس بيل كلينتون، الذي تلطف بدعوتهما لمرافقته على الطائرة الرئاسية "اير فورس 1".
بعد الوداع الأخير لزوجي برفقة بناتنا ونساء العائلة وقفت لأشهد أبناء الحسين وهم يحملونه من باب السلام الى المركبة التي كانت ستسير في موكب بطيء حزين عبر عمّان الى قصر رغدان حيث تقوم الشخصيات الأردنية والدولية بتوديعه. بعد ذلك كانت هناك الصلاة على الجثمان في مسجد القصر، ثم اخذه الى المقبرة الملكية للدفن. وقال الناس لبعضهم البعض تحت المطر والضباب الكثيف في شوارع عمان: "حتى السماء تبكي على الحسين".
وكنت قد دعوت الأميرة بسمة للانضام اليّ في المقبرة الملكية لحضور مراسم الدفن. وأشارت تقارير صحافية وقتها ان الشريعة الاسلامية تحظر ذلك، لكن هذا لم يكن صحيحاً. وأردت بشدة أن أكون معه حتى لحظة توسيده التراب، وان ذلك لا يتعارض مطلقا مع تعاليم ديننا. أما التقاليد الاجتماعية فلم تقلقني كثيرا، لأنني كنت اعرف عن الأردنيين عطفهم وتفهمهم الذي لا يعرف حدودا، وسأبقى شاكرة لمسؤولي البروتوكول الاردنيين وإمامنا الشيخ هليل لما أبدوه من تفهم لموقفي في ذلك الوقت العصيب. ورأينا، بسمة وأنا، من موقعنا على مدخل القبة التي تضم قبري والدي الملك، أبناء الحسين وهم يحملونه مكفنا ليواروه التراب متوجها نحو القبلة، قرب قبر جده. بعد ذلك عدت الى "المأوى" للقاء ولي العهد السعودي الأمير عبد الله، الذي طلب مقابلة خاصة لتقديم التعازي. ثم توجهت الى قصر رغدان لتلقي تعازي الشخصيات الدولية. وفي الأيام التالية مكثت الأجيال الثلاثة من نساء العائلة في قصر الزهران لتلقي تعازي النساء من الاردن والدول العربية وبقية العالم. كنت بالطبع تحت وطأة الصدمة، لكن شعرت أيضا بصفاء نفسي عميق أسبغته عليّ روحه المؤمنة، وهو ما مكنني من التوجه الى الآخرين والسعي الى ادخال السلوى على قلوبهم مثلما كان يفعل.
وأدركت من تلك اللحظة انني لن أخشى الموت بعدها بل سأرى انه فرصة للقاء من جديد.
وهذه هي الحقيقة. إذ ليس هناك شيء أو شخص يمكن أن يقارب الحب والاحترام الذي شعرت به ولا أزال تجاه زوجي. ولم يكن هناك من يضاهيه في انسانيته ووفائه واستقامته في عالمنا المليء بالخداع والمنفعة الشخصية. وسأحاول ما عشت أن أضفي على كل ما أقوم به روحه المتفائلة واخلاقيته الراسخة. انه لم يستسلم أبداً، وأنا أيضاً لن استسلم. واتضرع إلى الله أن يستطيع أولادنا يوما ما التجول في مدينة القدس التي يسودها السلام - إن شاء الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.