تنفرد الشبكة الاخبارية الالبانية "الباسول" هذه الأيام بنشر "سيرة الملك زوغو" ملك ألبانيا السابق أحمد زوغو، الغنية بالمعلومات والوثائق التي تنشر للمرة الأولى والتي قام بحفظها وعرضها المرافق الخاص للملك حسين سلماني الذي كان لا يفارق الملك إلا في ساعات نومه. وقيمة هذه المذكرات لا تقتصر على ألبانيا بل تتجاوزها إلى دول البلقان وشرق المتوسط وحتى إلى العلاقات بين الشرق والغرب. فقد وصل أحمد زوغو إلى السلطة في ألبانيا من الشرق، من اسطنبول التي تعلم فيها، وأراد بسرعة جعل ألبانيا جزءاً من الغرب، حيث دخل في ذلك في تنافس مع مصطفى كمال أتاتورك في تحديث/ تغريب دولة ذات غالبية مسلمة وتقاليد شرقية قوية. ومع وصوله إلى السلطة 1922 رئيس حكومة ثم في 1925 رئيس جمهورية وأخيراً في 1928 "ملك الألبان" تقرب في البداية من يوغوسلافيا ثم انقلب عليها لمصلحة إيطاليا الفاشية، التي كانت تطمع في التوسع في البلقان، وكان أول ضحاياها حين احتلت إيطاليا بلاده في نيسان ابريل 1939 وسط صمت/تجاهل عصبة الأمم كأن شيئاً لم يحدث. ومع تمكنه من الفرار عشية الاحتلال جال الملك زوغو في دول البلقان يوغوسلافيا واليونان وتركيا وقام باتصالات واسعة مع الدول الكبرى وخصوصاً بريطانياوالولاياتالمتحدة لأجل تحرير بلاده واستقلالها. وتبرز المذكرات، الغنية بالمراسلات مع قادة الدول والمسؤولين فيها، خيبة الملك زوغو وهو يرى بلاده تضيع ضمن التحالف الجديد بين الشرق والغرب الاتحاد السوفياتي وبريطانياوالولاياتالمتحدة، حيث ان دعم الغرب لقوات الحزب الشيوعي في ألبانيا خلال 1943-1944 رجح كفة الحرب في مقابل القوى الديموقراطية التي كانت تنتظر الفرج من الغرب. وهكذا، بعد الخيبة الأولى في 1939، التي بقي بعدها ملكاً شرعياً، جاءت الخيبة الثانية في نهاية 1944 لتجعل منه ملكاً في المنفى يحاول أن يستفيد من ظروف الحرب الباردة لكي يعيش على الأمل في عودته ثانية إلى ألبانيا. وفي السنوات الأولى 1944-1948 كان الملك منشغلاً بجمع ما تفرق من آلاف الألبان الذين غادروا بلدهم إثر نهاية الحرب الأهلية بين اليمين واليسار التي وقف فيها الغرب إلى جانب اليسار على عكس اليونان المجاورة، وكان من بينهم ساسة وكتاب وخبراء وضباط الخ. وبعبارة أخرى كان ما يشغل الملك آنذاك تنظيم وصولهم إلى إيطاليا المجاورة، حيث كانوا يقيمون في معسكرات موقتة، ثم البحث عن ملاذات آمنة لهم في البلدان التي يعرفها أو التي كانت له صداقات مع حكامها. ومن هذه البلدان التي اختارها لتوطين آلاف الألبان الفارين: مصر وسورية والأردن على وجه الخصوص، إذ أتيحت للملك زوغو أن يقيم علاقات وثيقة مع الحكام والساسة العرب، وفي طليعة هؤلاء الملك فاروق، الذي قدم له تسهيلات كبيرة للإقامة والحركة والاتصالات، ثم الملك الأردني عبدالله والرئيس السوري شكري القوتلي والوزير اللبناني كميل شمعون ومفتي القدس أمين الحسيني وغيرهم. ويبدو الفصل المتعلق بالمنطقة العربية في المذكرات من الفصول القيِّمة لأنه يتناول أيضاً الصراع العربي - اليهودي، حيث ان الملك زوغو كان يجتهد في تقديم بعض الأفكار والنصائح إلى أصدقائه العرب، في ضوء تجربته الطويلة والمريرة في التعامل مع الغرب، وهو ما يستحق التوقف عنده بعد مرور 55 سنة على حدوثه. يبدأ هذا الفصل المعنون "الحرب العربية - الإسرائيلية والألبان" باهتمام الملك لتوطين أكبر عدد من النخبة السياسية والعسكرية والثقافية، التي تركت ألبانيا إثر تسلم الحزب الشيوعي الحكم في تشرين الثاني نوفمبر 1944، في مصر وسورية والأردن. ولأجل ذلك رتب الملك زيارة إلى المنطقة ل"لجنة اللاجئين الألبانيين" التي كانت تتألف من نخبة من الساسة والكتاب الألبان كمدحت فوشراي وأرنست كوليتشي وصالح مفتي وعلي كلسيرا وكمال يوسفي ورغب فراشري. كان الوضع في أيلول سبتمبر 1947 يدعو إلى التفاؤل، فقد وصل حتى ذلك الحين 300 ألباني إلى سورية، حيث اهتمت بهم السلطات هناك، وكان من المتوقع قدوم وتوطينهم ستة آلاف ألباني آخر في سورية والأردن. ولكن، يبدو أن انشغال المنطقة بما كان يحدث في فلسطين أثّر في شكل ما في الاهتمام بالألبان الوافدين، ولذلك كتب الملك زوغو إلى الملك فاروق والملك عبدالله والرئيس شكري القوتلي يسألهم: "هل نجلب اللاجئين الألبانيين بحسب الشروط التي قدمتها لنا أم نوقف قدومهم؟". وجاء الجواب بسرعة بأنهم أوعزوا الى السلطات المختصة في بلادهم أن تتخذ كل الإجراءات لاستقبال هؤلاء اللاجئين. وفي ما يتعلق بالوضع في فلسطين ورد في رسائل هؤلاء الحكام أنه "لن يؤثر أبداً في الاتفاق حول اللاجئين فيما لو جاؤوا". إلا أن الملك زوغو بخبرته وبصيرته لم يكن مرتاحاً لتطور الموقف في فلسطين وحولها، لذلك رأى أنه من الأفضل أن يوجه من بقي من اللاجئين الألبانيين في معسكرات إيطاليا إلى الولاياتالمتحدةوبريطانيا وفرنسا وكندا واستراليا. ودعا لهذا الأمر إلى مقر إقامته في الإسكندرية السيد بيتر سون مسؤول مفوضية اللاجئين في أوروبا، وذكر له مخاوفه من الآثار المحتملة لحرب عربية - يهودية تغرق المنطقة بلاجئين جدد. ورد عليه السيد بيرسون: "يبدو أنكم قد فهمتم جيداً الحال بين العرب واليهود. وبالفعل فإن الوضع الآن لا يناسب قدوم لاجئين إلى هذه المنطقة، لأنه قد يأتي قريباً اليوم الذي لن تستطيع المنطقة أن توفر الطعام للاجئين فيها فكيف باللاجئين إليها!". في غضون ذلك كانت "لجنة اللاجئين الألبانيين" المذكورة، وصلت في جولتها في المنطقة إلى سورية في تشرين الثاني 1947، واستقبلها حينئذ الرئيس شكري القوتلي الذي أكد أنه أعطى تعليماته للسلطات المختصة بتقديم كل المساعدات لتسهيل قدوم اللاجئين الألبانيين وتوطينهم. وبعد اللقاء زار أعضاء اللجنة اللاجئين الذين كانوا وصلوا حتى ذلك الحين حوالى 300، منهم أربعون ضابطاً وعشرة أطباء وأساتذة الخ. وعلى رغم ترحيب الرئيس القوتلي، إلا أن الملك زوغو في تلك الأيام أخذ يتشاءم من مستقبل المنطقة، لما كان يتوقعه من اندلاع حرب قريبة بين العرب واليهود، ما جعله يقلع عن حماسته لاستقدام المزيد من اللاجئين الألبانيين. وفي هذا الفصل يُفسح في المجال للتعبير عن رأي الملك زوغو بما كان يحدث بين العرب واليهود. فالملك "كان يتمنى باستمرار على الملك فاروق والملك عبدالله والرئيس شكري القوتلي ومفتي القدس الحسيني ورئيس الحكومة السورية جميل مردم بك ألا يتورطوا في نزاع عسكري مع اليهود". وبعبارة أخرى فقد كان الملك "يطلب منهم السعي مع الإنكليز والأميركيين إلى حل سلمي يضمن شروطاً للفريقين في دولتين: فلسطين وإسرائيل". ولكن العرب حلّقوا في الخيال ولم يبصروا أن إسرائيل كانت مدعومة من كل أوروبا، وأن الدول الأوروبية حين أرسلت اليهود إلى هناك أعطتهم كل الضمانات للدفاع عنهم. إلا أن العرب لم يريدوا أن يسمعوا ذلك". ويكشف هذا الفصل عن أن الملك زوغو كان منشغلاً بواقع الصراع العربي - الإسرائيلي ومستقبله، بسبب علاقاته الوثيقة مع الحكام العرب، ولذلك قرر الملك في إحدى الليالي دعوة أصدقائه إلى عشاء في مقر إقامته ليقول لهم آخر ما عنده. وشارك في هذا اللقاء الملك فاروق والملك عبدالله والرئيس السوري شكري القوتلي ورئيس الحكومة السورية جميل مردم بك ومفتي القدس أمين الحسيني والوزير اللبناني كميل شمعون. وفي هذه المناسبة قال لهم الملك: "عليكم أن تدرسوا كيف تصلون إلى حل أفضل. لا تلجأوا إلى العنف لأنه بالقوة لا يمكن أن تفعلوا شيئاً، بل سيؤدي بكم ذلك إلى مزيد من الخسارة. لا تنسوا أن الإنكليز والأميركيين هم الذين جاؤوا باليهود إلى هنا، ولن يسمحوا لكم بأن تتخلصوا منهم. لقد ضمنوا لهم المساعدة السياسية والمالية ولا يمكن أحداً أن يمسهم. عليكم أن تعرفوا شيئاً أكثر من هذا: اليوم يلعب اليهود دوراً مهماً في العالم، إذ يسيطرون على عالم المال. ولذلك فإنني أرى كصديق لكم أن هذا التوجه لاستخدام القوة سيضر بكم. لن تقدروا على شيء بل ستخرجون من الحرب بخسائر كبيرة". أما عن الحل الذي كان يتصوره الملك فهو السعي مع الإنكليز والأميركيين لأجل حل سلمي يقوم على دولتين متجاورتين: "حين كان يتاح لي كنت أقول هذا للإنكليز والأميركيين ان يقوموا بجهدهم لأجل حل تصالحي: عليكم أن تمدوا أيديكم إلى العرب لكي يتم تشكيل دولتين في فلسطين للشعبين العربي واليهودي، وتقديم ضمانات إنكليزية - أميركية ومساعدات اقتصادية وسياسية لهاتين الدولتين. هذا هو السبيل الوحيد للخروج من الوضع الخطير". لكن المشكلة في أن أصدقاءه من الحكام العرب كانوا يرون أنفسهم أقوياء بما يكفي للانتصار على اليهود والتخلص منهم، وهو ما كان يدفع الملك زوغو إلى أن يقول لهم بحرارة: "أنا معكم بكل قلبي، لكن هذا الطريق الحرب لن يؤدي إلى أي حل بأي شكل وإن كانت معكم روسيا السوفياتية! فهؤلاء اليهود وراءهم الولاياتالمتحدةوبريطانيا وفرنسا. إن تفكيركم خاطئ تماماً، وسيؤدي فقط إلى أن تتحملوا وزر مليون فلسطيني ستطردهم إسرائيل!". نعم، كان كل هذا الكلام في 1947. * كاتب كوسوفي - سوري.