تتعرض رواية "فوق الحياة قليلاً" من زاوية غير مباشرة لهذه التغيرات الجذرية التي تشهدها الثقافة المصرية اليوم، من خلال انهيار الكثير من الانجازات السابقة، التي تكونت في مرحلة الحداثة، بكل ما قدمته من قيم، وما أنجزته من أدوار مهمة في الحياة. تتبع الرواية زيف حياة شاعر وحياة قصاص حضرا الى الحياة الثقافية في العاصمة، إنهما في حال انهيار أصلاً، ثم جاءا لكي يتعرضا لمزيد من الصدمات والانهيار. ثم تنضم اليهما شخصية الراوي القاص الذي هو أقرب الى المؤلف ذاته، الشاعر من القاهرة والقاص من الصعيد، والراوي من الوجه البحري: أي أن المؤلف يريد أن يوجه إدانة الى الأدباء جميعاً! وانقسام معنى البطل الى ثلاثة أشخاص ينسجم مع منطق الكتابة الجديدة التي تشير الى هذه الانقسامات التي تتعرض لها الظواهر كافة اليوم، وهناك الكثير من التقنيات التي تشير ايضاً الى هذه الحساسية الجديدة منها: تقاطع الرواية مع روايات أخرى، أو أعمال أخرى: وهناك مقطع كامل له طبيعة حسية تتفرج فيه هدى احدى شخصيات الرواية على مشهد بائع الشاورما وهو يقبض على السكين قبضة محترف، ويجز نسائر اللحم، فتتساقط حول الكتلة المخروطية التي تدور أمام النار، والمشهد منقول بقصدية من رواية "وردية ليل" لإبراهيم اصلان لشدة ملاءمته المعنى الحسي الخالص في هذا الموضع من الرواية، وهناك تقاطعات مع شخصية ادريس بطل "اولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، ويقلد القاص شخصية مصطفى السعيد بطل "موسم الهجرة الى الشمال" عندما يسافر الى اوروبا في نهاية الرواية، بل وهناك تقاطع مع عمل المؤلف نفسه "أيام هند" الذي صدر في فترة سابقة. وهناك قصة قصيرة كاملة للمؤلف، وضعت باعتبارها هامشاً في آخر الكتاب، ولأن الهامش يفسر المتن، فكأن كتابة المؤلف لا تفسرها سوى كتابة المؤلف! وتنطوي الرواية، الصادرة أخيراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، على ملامح كثيرة تدل على التوجه الجديد ذي الطابع ما بعد الحداثي، منها إمكان مناقشة قضايا فكرية وفلسفية وجمالية في اثناء السرد الروائي: "صرخ بارت معلناً عن موت المؤلف، ويعني هذا أن ما تقرأه الآن فقط هو الموجود، ولا وجود لشيء خارج النص". ويمكننا ان نفاجأ بقضايا تمت مناقشتها في شكل نظري بجرأة منقطعة النظير في الفلسفة والتاريخ وعلم النفس. ومن ضمن هذه الملامح ايضاً ما يلاحظه القارئ من أن إحدى شخصيات الكاتب تتحرر منه لقد تحررت هدى كمال من كاتبها، وامتلكت مصيرها، وواجهته على نحو لم يكن قادراً على احتوائه. تخلو الرواية من التطور التقليدي المطرد للأحداث، ولا يوجد الزمان بمعناه الكرونولوجي، فالعمل يتكون من مجموعة من المشاهد التي تتقاطع مع بعضها بعضاً في مرة، ومع ذات المؤلف في مرة أخرى، إنها رواية ما بعد حداثية. والمواضيع التي تعالجها تتصف بأنها جميعاً تكاد تكون جانبية وصغيرة وجزئية، النص الجديد اليوم لا يعالج مضموناً أحادياً كلياً ممتداً، ولكنه يتكون من مواضيع صغيرة متجاورة، والبطولة في الرواية ليست لذات بعينها أو موضوع بعينه، ولكن البطولة منقسمة بين الشاعر والقاص والراوي، وهذا يشعرنا بانقسام الذات، أو تعدد الذوات، سيان، في الروايات التقليدية هناك ذات واحدة تدور كل الذوات الاخرى حولها، وتدور كل المواضيع حولها، أي أن هذه الذات الكبرى الواحدة المتوحدة تمثال بؤرة لكل شيء حولها، ولكن هذه الذات تتعرض اليوم الى الانشطار، لقد انشطرت هذه الذات الى ذوات متعددة، تماماً مثل انقسام الاتحاد السوفياتي الى دويلات، وانقسام كل حزب سياسي اليوم الى تيارات داخلية، ومثل انقسام علم الاجتماع الى علم الاجتماع العام، وعلم النفس الاجتماعي، والسوسيولوجي، الانثروبولوجي، إن ما حدث في الرواية هو صورة لما يحدث في العالم وفي الحياة اليوم. توحي لنا الرواية، وبأسى كبير، كيف انهارت قيم كنا نعتبرها لوقت قريب ميثاقنا في الحياة، ولعل السخرية الكبيرة المؤلمة تطرحها الرواية من خلال حادثة مؤسفة هي اغتصاب الطفلة الصغيرة، التلميذة، من الفراش فوق سطح مدرسة "رقي المعارف". والتناقض هنا بين اسم المدرسة من ناحية، وفعل الاغتصاب من ناحية اخرى يعطينا الاحساس بهذه الإدانة لكثير مما يدور على أرض الواقع. كما أن هذه المقارنة التي اجراها الروائي بين الكاتبين: ابراهيم فهمي ونجيب محفوظ تدل على رغبته في نقل إحساسه القوي بالتغير الشديد في حياتنا، وفي النص جملة دالة تعبر عن الاختلاف الجوهري بين كتابة نجيب محفوظ وكتابة ابراهيم فهمي. "فنجيب ظل قابعاً وراء ثقب باربوس يرقب الحياة فقط، فيما كان ابراهيم ينفقها على المقهى"، وتطرح الرواية خبرة الكاتب الانسانية العالية، وهو قادر على اصطياد لحظات حيوية عميقة الدلالة، تعبر عن خلاصة ممارسات واقعية ناضجة تقدم ببساطة شديدة: "يحدث احياناً ان نجد انفسنا أمام شيء غامض، نفسره بأحاسيس غامضة، ثم نستسلم تماماً لها وكأننا قد فهمنا، وبهذه الطريقة تظل اشياء كثيرة غامضة وسيكون فعل الحياة هو في الحقيقة محاولة غير جادة لحل أحجية قديمة"، "حقاً لكل منا سره الخاص، هذه الأسرار الصغيرة المخجلة التي ندسها في بئر القمامة، وننظر لمن ينبشون فيه بكراهية". وفي الصفة نفسها "في الحقيقة.. هذه الأفعال المخجلة التي مارسناها يوماً، لا تسبب ضرراً للآخرين، قد لا تعنيهم على الاطلاق، وتبدو لهم مجرد حدث طريف وقع لشخص هناك، ربما لا يذكرونه إلا في جلسات الدعابة والتفكه، إنها لن تؤلمهم ابداً، هي في الحقيقة لن تؤلم إلا أصحابها، حيث يمكنهم ببساطة دسها في بئر قمامتهم والشعور بالراحة، ولكن.. بمجرد أن يبدأ الآخرون النبش، حتى تعاودهم الآلام، إننا في الحقيقة لا نخجل من أسرارنا، فقط نخجل من معرفة الآخرين بها". ولمزيد من تتبع الحس الجديد في هذه الرواية يمكن القارئ ان يلاحظ تدخل الكاتب لمناقشة حدث في الرواية أو التعليق على موقف أو إبراز وجهة نظر ما حول أية قضية أو ممارسة داخل النص، بحيث يصبح هذا جزءاً من الدراما الروائية نفسها: وعلى سبيل المثال ففي اثناء الحديث عن الشاعر يعلن المؤلف وجهة نظره: "لا بد أن من يكون اليوم لمعايشة بشرية" هذا ما قرره الشاعر في شكل حاسم، ومن وجهة نظري، أن كل قراراته حاسمة، ويمكن ان يتابع المؤلف روايته فنياً، أو يقول فيها آراء مستقلة، أو يحصر بعض المعطيات فيها، وردت عبارة "مقهى المثقفين" في نص "فوق الحياة قليلاً" مرات عدة، ويمكن ناقداً إحصائياً الاستفادة من عدّها. ومن الظواهر الأساسية في هذا النص الغرق الكامل في التفاصيل الصغيرة، إلى جوار المعاني الكبيرة بالطبع: من قبيل التعرض للحياة الثقافية ومشكلاتها، والتعرض لمناقشة موقف التنويريين، وقضايا الفكر والفلسفة، وغير هذا، ولكن التفاصيل الصغيرة لها مكان كبير يغطي النص كله لكي يعبر عن شهادة جديدة في زمن بدأت تتبخر المعاني الكبيرة بالتدرج، وتفقد فاعليتها! ينطلق الكاتب من الاشياء الصغيرة، بل، والمتناهية الصغر. ويمكن القول إن النص غارق في ما يمكن ان يسمى ب"ايديولوجيا الاشياء الصغيرة" وضع الشاعر قلمه تحت المخدة، جرجرة القدمين على البلاط العاري، اعقاب السجائر، دولاب زجاجي، مشابك رافعات الصدر، وماركتها: "لافابل"، طفلة بضفيرة واحدة مشدودة الى الخلف، ومريلة من التيل الكاكي، وحذاء أسود لامع، ميدان طلعت حرب، التفاصيل الدقيقة لندوة نجيب محفوظ مع كلود سيمون في معرض الكتاب، ووقوف الراوي على أصابع قدميه لمتابعتها. السخرية بكل أنواعها ودرجاتها تغطي النص، بعدها تطرح أشكالاً من الرفض، بداية من عنوان الرواية نفسه "فوق الحياة قليلاً" وهو تعبير يتعلق بالشاعر، الذي يمتلك القوة على أن يترفع على الحياة، ويسمو فوقها، بصفته قادراً على خلق المجاز، من خلال الاستعارة الشعرية في قصيدته، ويمكنه ايضاً أن يتخلى عن هذا السمو، ويعود لطبيعته البشرية مرة أخرى، وهو يعرف جيداً كيف ومتى يستخدم الصعود والهبوط لتحقيق مصالحه الشخصية! وفي إحدى الفقرات الساخرة: "ومن عجب أنه لم يتوقف عن كتابة الشعر، على رغم اقترابه خطوة من البشرية"، وهكذا يتحول الشعراء الى كائنات نورانية محاطة بالهالات المقدسة: "البنت لما جاءت الى مقهى المثقفين وراء عشيقها، كانت تنوي أن تعود به، والمقهى مكتظ بالمثقفين. أما الشعراء فيجلسون على جانب من المقهى، حيث عثرت على صديقها المبتدئ، لم تكن قد نبتت له هذه الهالة المقدسة بعد، فقط كان يرتفع قليلاً عن الارض، وكانوا يرتفعون بمقاعدهم وهالاتهم النورانية المقدسة، وشاعرنا أكثرهم تألقاً طبعاً، لكن المسكينة ذابت في الحضور السماوي للمكان". الرواية ببنائها وأحداثها تسخر من الزيف في الحياة ومن المجاز في الفن، ومن أشكال الهرب من الواقع الحالي كافة، ومن الممارسة الفعلية، والتقوقع داخل جدران كثيفة بعيدة عن الوهج الحي للفعل الانساني، والقدرة الحقيقية على مواجهة التاريخ ودفعه باتجاه التحقق الانساني. كما تشير الرواية الى هذا التعدد والانقسام الذي يزداد في حركة توالد مستمرة، في الظواهر كافة التي تحيط بنا، حتى اصبح على الانسان أن يتعلم كيف يتعايش مع هذا الوضع الجديد الذي يعبر عن مرحلة مختلفة، بل شديدة الاختلاف عن السابق.