} طاهر البكري شاعر تونسي يكتب بالفرنسية والعربية ويدرّس في جامعة نانتير الفرنسية. نشر دواوينه في باريس وكندا وتونس... له بالعربية "قصائد الى سلمى" و"مذكرات الثلج والنار"، وبالفرنسية "حارث الشمس" و"نشيد الملك الضليل" و"القلب يرتاد البحار"... و"نسغ الأيام". طاهر البكري من الجيل الذي بدأ من شعر الالتزام، وذهب الى القصيدة المفتوحة، القصيدة الميتافيزيقية التي تقول الاضطراب الداخلي... التقينا في الحي اللاتيني ذات أمسية زرقاء وليلكيّة" حول طاولة رخامية في مقهى قريب من فندق كوجاس حيث كان يقيم غارسيا ماركيز أيام عوزه وصعلكته. بدا المكان خاوياً إذ هجرته طوائف اليسار والفوضويون وصعاليك العرب وشباب وشابات أوروبا من ذوي الأقدار الضائعة... كنا وحيدين في المقهى نتصفح ديوانه "فصول مجهولة" الصادر أخيراً عن دار لارمتان في ترجمته الانكليزية. جالسين حت نجفة برتقالية كأنّنا ممثلان يعودان الى مسرح خاو بعد انتهاء العرض، وعن هذا الديوان" كان سؤال وكان جواب وكان حديث آخر. ما هي الحداثة/ الصورة الأولى التي طبعت وعيك في الطفولة؟. فأنت تدري ان لكل منا صورة أساساً تكون في فجر الحياة، وتستمر بعد ذلك فاعلة في وجودنا؟ - الحادثة الأولى هي وفاة أمي وأنا لم أتجاوز العاشرة من العمر... انطوى الطفل الذي كنته على نفسه. وكان سؤال حول الحياة، وسؤال حول الموت. ولعل هذا السؤال وجد متنفساً في قراءة الشعر مبكراً. إذاً كان لقاء حقيقياً بما أنّ اسئلة الشعر الأساسية هي أسئلة الحياة والموت؟ - كانت الأبيات الأولى التي كتبتها، تهجؤاً شعرياً: مناجاة، وتأملات أثثت بها عزلتي. كان الشعر وكان النثر رفيقايا. وتطورت هذه العلاقة مع الشعر منذ ذلك الوقت من طريق الكتب التي قرأتها في المراهقة. مرة أخرى إذاً بدأ الشعر لديك من ينبوعه الأصيل الذي هو الحياة وليس من اللغة؟ - وربما كان الشعر لدي في تلك المرحلة ملجأ" خصوصاً ان مزاج الأدب ومراسه كان صعباً... وكان من العسير التواصل معه. وهكذا كانت الكتابة لديّ في البدء هي كتابة الصمت. ونداء الشعر؟ - جاءني كما ذكرت من التساؤل الأول حول الحياة، والموت، وكتابة الصمت. بدءاً من الحالة الفردية وانتهاء بالشمولية فضاء. وزمناً. أقول نداء الشعر في داخلي اصبح وبالتدريج بحثاً عن تركيب لغوي، عن عملية الكتابة شكلاً، ومضموناً. وأصبح أيضاً وبالتوازي تخلياً عن كل الإرث الأدبي. وذلك لايجاد دربي الخاص. وبطبيعة الحال فإن ممارسة الكتابة المنسجمة مع عالمي الداخلي" والتي ابتغيها كانت هي الممارسة المتحدرة من الخيال الشعري. أيضاً للشاعر ينابيعه القصية، وقد يتأثر بأشياء هي من خارج الشعر، مثلاً ألاحظ احتفاءك بشعرية الأماكن والجغرافيات في ديوانك مذكرات الثلج والنار؟ - أولاً انا من مواليد مدينة قابس في الجنوب التونسي. وهي واحة على البحر. فكانت ينابيعي الشعرية الأولى مستمدة من الواحة، ومن البحر. ولكن وعلى رغم هذا الابتعاد عن نصوص الآخرين حتى لا تقع في اسرهم. فلا بد انه لديك قراءات شكلت لديك صورة دينامية كانت من أسس الكتابة. لأن القراءة الحقيقية هي، وبشكل ما كتابة. فهي اعادة خلق للنص؟ - قراءاتي ان شئت التعبير الابداعية كانت أشعار أبي القاسم الشابي: وكل الشعراء الذين كتبوا عن البحر. بداية من امرئ القيس الى رامبو، وسان جون بيرس، ويانيس ريتسوس. ومن استمر من بين هؤلاء فاعلاً في الذاكرة وفي النص؟ - ظل سان جون بيرس حاضراً فيّ، خصوصاً تحديده للجمال بأنه عنف، عنف داخلي. والحياة ايضاً في جمالها هي عنيفة. العنف الجمالي البيرسي هذا ما أخذني، وهو الذي استمر في كتابتي. استمر صامتاً داخل النصوص. مررت كأغلب مجايليك في مرحلة كان الالتزام النضالي هو الطاغي على نصّك. كيف تمّ التحول لديك من ضيق وسحر الايديولوجيا، الى رحابة الشعر؟ - كان الخروج من الشعر السياسي/ الإيديولوجي وهو الشعر الذي كتبته في السبعينات من طريق الوعي بأن الايديولوجيا فقّرت الشعر. إذ صار الشعر معها خطاباً تلقينياً، لا يختلف عن الوعظ والإرشاد الديني. في حين ان الشعر يظل سؤالاً أبدياً قلقاً. وكل اجابة على هذا السؤال هي قتل للروح الشعري... لقد عملت الايديولوجيات على توظيف الشعر لأهدافها السياسية الآنية. وأنا لا احب الشاعر عندما يصير بوقاً فهو في هذه الحال يكفّ عن ان يكون أي شيء. كيف ومتى بدأ هذا التحول من الشعر السياسي الى الشعر الانطولوجي، الميتافيزيقي؟ - بعد وصولي الى فرنسا سنة 1976. جعلني المحيط الثقافي الباريسي انعطف على قراءة مفتوحة. صرت أحضر الندوات. وصارت المقارنة، والمجابهة بين ما أكتب" وبين ما أقرأ ضرورة فرضت نفسها عليّ. وولدت لديّ رغبة جديدة، رغبة ملحة لمغادرة الخطاب الشعري السياسي، والخطابي. ذاك الخطاب الذي كان سائداً في تلك الحقبة. تحولت الى فضاء شعر الحداثة الفسيح. خصوصاً بعد اسفاري الى بلاد كثيرة من الشمال الاسكندناوي، حتى جزر الآنتيل، والسواحل الأفريقية الشرقية. لقد امتزج السفر لديّ بالتيه، وبالهيام بالأماكن، وبخصب الذكريات، وبالتفاعل مع الكائنات والأحداث: واقعاً وخيالاً. فالإحساس بما أحاطني من عوالم جديدة ولّد لديّ مشاعر جديدة هي امتداد للتساؤلات الأولى. ولماذا صببت تجاربك في اللغة الفرنسية؟ - كنت اعتبر ان الكتابة الفرنسية أسهل شكلاً. أو ربما لأنك أجنبي على اللغة، فهي ليست لغة الأم وبالتالي فهي لا تمارس عليك أي ضغط؟ - لا، لا، لقد بدأت الكتابة أول الأمر باللغة العربية. كانت قصائدي الأولى عربية. ولكن أوّل انتاج عرضت من خلاله نفسي على العالم كان باللغة الفرنسية. والسبب هو الحرية التي تسمح بها اللغة الفرنسية. أو قل الحرية التي تمنحها اللغة الفرنسية لكتّابها... لقد ظل الشكل الشعري العربي يشكو من الحسر" حتى بعد كل الذي كتبه هذا الجيل من الشعراء العرب. جيل السياب ونازك الملائكة، وصلاح عبدالصبور. هذا الجيل الذي حرر القصيدة العربية. وعلى رغم ذلك ظلت هذه القصيدة خاضعة لقيود شكلية لم يقع تجاوزها الا مع ظهور اجيال لاحقة. في حين ان القصيد النثري الذي بدأ في الأدب الفرنسي مع شارل بودلير" كان قد مضى عليه أكثر من قرن، بيد انه ظل مهمّشاً، أو قل غائباً في نتاج جيل الرواد باستثناء بعض الأصوات اللبنانية الرائعة. مما يؤخذ عليك، ان اشعارك المنشورة بالعربية لها سمة النص المترجم، النص المنقول الى العربية. يعني ان شعرك العربي يبدو في تقدير هؤلاء وكأنه مكتوب في الأصل باللغة الفرنسية؟ - لدي مجموعتان شعريتان باللغة العربية: قصائد الى سلمى، ومذكرات الثلج والنار... وحتى أجيب على سؤالك أقول ان كان هناك تشابه في الصيغة، وفي الأداء بين نصوصي الفرنسية ونصوصي العربية، فهو تشابه لا شعوري، ولم أتقصده أبداً. لقد نشرت دواوين عدة... بعد كل هذه التجربة في الكتابة ومعاناة القصيدة" هل ترى مبرراً للشعر اليوم؟ - الشعر ضرورة حياتية، كالماء وكالهواء. انه تعبير استثنائي عن النفس. وفي الآن نفسه محاولة لإيجاد بعض الإنارات، وبعض الضوء للخروج من الظلمة الدائمة" وهي التراجيديا الباعثة للألم الإنساني منذ البدء. ولكن الشاعر يعيش في المجتمع، في التاريخ. كيف تتم المزاوجة لديك بين المطلق وبين اليومي؟ - ان التعمق في المطلق لا يمنع من الالتصاق بالتاريخ... والتاريخ هو أيضاً ذاكرة وحاضر. ولا يمكن للشاعر ان يتخلى، أو يتناسى كيان الإنسان الوجودي داخل التاريخ" التاريخ الفردي والتاريخ الجماعي. فكل مواضيع وثيمات الشعر لها قيمة إذا كان لهذا الشعر قيمة أدبية. والسؤال الأصعب، ان المسألة تتجلى في كيفية تقويم الشعر" وهنا يأتي دور القراءة، والتأويل والنقد والشرح. بعد غياب الشكل المسبق من أوزان وقافية. صارت القصيدة شبيهة بالقدر الإنساني، إذ عليها ان تكون كالبشريّ: لها شكلها الخاص، وهويتها الأصيلة المفردة، واعتباطية وجودها؟ - ان غياب وحدانية الأشكال الشعرية ترك المجال حراً لكتابة مفتوحة. ولكن هذا لا يعني تحوّل الكتابة الى لعبة سهلة، ومجانية. بل على العكس من ذلك. فقد صار الشاعر مطالب بإيجاد شكله الخاص الجديد: لغته وتعابيره. والاقلاع عن المبتذل والمتكرر من الكلام الشعري. بعد غياب الأصوات الكبيرة في الشعر الفرنكوفوني: جورج شحادة، كاتب ياسين، جون سيناك كيف يتحدد لديك مشهد الشعر الفرنكوفوني اليوم؟ - هناك اليوم اشعار فرنكوفونية، أو قل بعض القصائد هي تحقق، وتجسيم للحداثة الشعرية... ولكن هذا لا يعني ان ما سمي بالحداثة، والطليعية لم يسقط هو بدوره في الكتابة العفوية. لقد تحولت كثير من القصائد التي تكتب اليوم الى مجرد تمرينات لغوية داخل اللغة" الى نوع من البلاغة الشكلية. ولكن، ومن حسن الحظ ان هناك من شعراء الفرنكوفونية من قدم تجارب حقيقية كجورج شحادة وكاتب ياسين ومحمد ديب الذين ذكرتهم. أعود الى السؤال، وفي صيغة مغايرة: ما هي أهم الأسماء في الشعر الفرنكوفوني اليوم؟ - أهم الأسماء في رأيي اليوم هي: محمد ديب، وصلاح ستيتية. بعد تقدم حركة التعريب في شمال افريقيا ازدادت غربة الأدب الفرنكوفوني. فهو كما يبدو لي أدب بلا قراء... الفرنسي لا يقرؤه لأنه لا يعبر عن مشاغله. ولا يقرؤه العربي لأنه ببساطة لم يعد يتقن اللسان الفرنسي؟ - الشعر العربي المكتوب بالفرنسية" والذي يحلو لك ان تسميه بالشعر الفرنكوفوني، من البديهي ان يقرأ من طرف أولئك الذين يتقنون اللغة الفرنسية... بيد ان لهذا الشعر حضوره. وهناك شعراء كثيرون اصدروا مجاميع شعرية تركت صدى مهماً لدى القراء. وكثير من هذا الشعر ترجم الى عديد اللغات... أنا على سبيل المثال نقل شعري الى اللغات الإيطالية، والتركية، والكاتالونية، والانكليزية. ولديّ نصوص كثيرة ظهرت في اللغات الالمانية، والبرتغالية، والدنماركية، وحتى في اللغة المقدونية. إذاً لهذا الشعر قراؤه. وهو معروف ومنتشر. بيد ان النقص، والتقصير هو لدى العرب الذين يهملونه. ولا بد من العمل على ترجمة هذا الشعر الى اللغة العربية، الى العالم الثقافي الذي صدر عنه.