1 لما توفي والدي في دمشق عدنا الى الناصرة ونزلنا في بيت جدي لأمي - عبدالله. كان جدي يومها في الثمانين من سنه، لكنه لم يبد ذلك عليه. كان هو وستي يعيشان في الدور الاول من بيت مكون من عقد واسع وغرفة مونة كانت تستعمل مطبخاً في الشتاء، أما الطبخ في ايام السنة الاخرى فكان يتم على موقد في الخارج يرتكز الى جدار المنزل. وهناك غرفة اضافية كان جدي يحتفظ فيها بأدوات كان يستعملها في نكش الارض حول الاشجار الكثيرة في بستانه وفي نبش الارض في المساكب التي كان يزرع فيها حاجاته وحاجات ستي من الخضار. نزلنا خمسة: امي وأربعة اولاد انا الاكبر بينهم، ضيوفاً على جدي. وجاءت خالتي صوفيّا وخالي سامي لترتيب قضية مساعدة امي على تربيتنا - اذ لم يكن في وسع جدي ان يعنى بهذه الاسرة. تعهدت خالتي - وكانت تعمل ممرضة في المستشفى الانكليزي في الناصرة، وتقيم فيه، بالعناية بأخي ألفرد، وكان خالي موظفاً في سكة الحديد ومقره طولكرم نعم طولكرم ما غيرها، اختارني للاهتمام بي. لذلك بعد ايام حزمت ما كان عندي من ثياب ووضعتها في ما يشبه الشنتة، وذهب مع خالي. 2 كان خالي يقيم في جناح صغير في محطة سكة الحديد فيه غرفة نوم وغرفة جلوس وطعام معاً، ومطبخ. كان المبنى حديثاً وملحقاً بالمبنى الأفخم طبعاً الذي كان يقيم فيه شكري بك، المهندس والمسؤول عن ادارة الخط بين السيلة وطولكرم وعرابة. سررت بالمكان. المحطة فيها قطارات للركاب والشحن. وكان موسم البطيخ في اوجه تقريباً. وكان منتجو البطيخ ينقلونه الى محطة طولكرم حيث يكَوَّم تمهيداً لشحنه بالقطار خصوصاً نحو الشمال. وكنت سمعت من ابي مرة في دمشق ان هذا البطيخ الذي اكلناه جاء من طولكرم. وها انا الآن اعيش في منطقة تنتج البطيخ وتشحنه الى انحاء البلاد. وبتأثير من شكري بك أُدخلت المدرسة الحكومية الرسمية في طولكرم البلدة التي كانت تبعد نحو ربع ساعة مشياً عن المحطة. وسررت لوجودي في مدرسة، وأنا اذكر الى الآن صورة كتاب القراءة الذي استعمله صفي في المدرسة، وان كنت لا اذكر اسمه. كان مجموع قصص قصيرة، اكثرها على السنة الحيوان. وخيل الي لما تعرفت الى كتاب كليلة ودمنة ان معدَّ ذلك الكتاب اخذ قصصه من الكتاب الكلاسيكي. 3 كانت يومها الحرب العالمية الاولى ملتهبة في اوروبا، وكان جمال باشا ولي امر حكم بلاد الشام بأكملها وقيادة الجيش التركي الرابع. وجاء يوم أنبأنا فيه مدير المدرسة اننا يجب ان نلبس في اليوم التالي احسن ثيابنا وأنظفها لأن جمال باشا سيزور طولكرم، وستكون المدرسة في استقباله. وهكذا كان، اخرجنا من المدرسة وصففنا على جانبي الطريق الذي سيمر به الباشا. وبدأنا بالنشيد والهتاف. ولأنه لم يكن مر علي الا وقت قصير في المدرسة، ولم يحدث ان مر بنا يوم رسمي، فلم اكن اعرف الكلمات التي يرددها الطلاب بين الحين والآخر، مع موسيقى الجيش اشغالاً للوقت - في ما حسبت - وتمريناً لما سنقوله عندما يصل الباشا. وكنت انا صامتاً لأنني، كما قلت لم اكن اعرف الكلمات التي يرددها الطلاب، واذا بأحد المدرسين يقترب مني وقد جمع كل قوته، و"يرقعني" كفاً ممتازاً كدت اقع من قوته على الارض ويضيف يا حمار انشد مع الباقين. بكيت من الألم ولم افهم ما قال وأخذت أبكي، فإذا به يقترب مني، وعنده استعداد لتوجيه كف آخر للجهة الاخرى من وجهي، لولا ان منعه زميل له، ويقول اسكت لا تبكي هكذا لفظها. وجاء الزميل وسألني لماذا لا تنشد مع الباقين، قلت لا اعرف وأنا اشهق بالبكاء طبعاً لا اعرف ماذا يقولون، فأنا جديد في المدرسة. وعرفت ان الطلاب الصغار وكانت المدرسة ابتدائية كانوا ينشدون النشيد الرسمي للدولة العثمانية، وبعد كل جزء منه كانت ترد فيه عبارة با دِشاَهِم جوق تْشُوق ليشاهد ومعناها كما قيل لي يومها ليعش المليك بادِ شاه طويلاً. مر الباشا وكان يطرح السلام على الجماهير التي اصطفت بالأمر شبه العسكري طبعاً على جانبي الطريق. وبعد ان انهى استعراضه، وكأنه يبارك الموجودين، ركب سيارته في نهاية العرض البشري وسار كنت شاهدت سيارته في دمشق، اذ كان يجتاز بها شارع مدحت باشا. 4 في تلك الليلة جاء الحاج حسن وهو المتعهد الذي كان يعنى بالمحافظة على بناء المحطة، وبيت المهندس، ومكان اقامة خالي، والمخزن الذي توضع فيه الادوات التي قد يحتاجها موظفو القطار لاصلاح الخلل البسيط الذي يتعرض له. جاء الحاج حسن ليسهر عند خالي وموظف آخر في المحطة، على عادتهما. سأله الموظف: "يا حاج حسن حضرت انت المشهد اليوم" وكان الموظف لم يذهب لأنه كان يجب ان يظل في المحطة للمحافظة عليها. فكان جواب الحاج حسن انه حضر. وسأله الموظف: "كيف شُفْتِلنا رأيت هالباشا؟". فكان جواب الحاج حسن طريفاً وحفظته من ذلك الوقت: "حسَّبْنا الباشا باشا، أتراته فإذا به الباشا زلمة متل هالناس. 5 بعد بضعة شهور قتل خالي في العفولة اذ انفجرت قنبلة كانت الطائرات البريطانية ألقتها على المحطة ولم تنفجر رفيقاتها انفجرت وأحدثت اضراراً مادية - فانفجرت، اذ كان احد الركاب عثر عليها، وأخذ يعالجها. فقتلت 7 أو 8 اشخاص. وعدت الى الناصرة.