ليست المقابر الجماعية في العراق تفصيلاً. وليس نظام صدام حسين تفصيلاً. الذين يقولون: انتهى صدام فلننسَ مقابره، مخيفون. مخيفون خصوصاً لأن صدام، في ظل هذا النسيان، قد يتكرر. المقابر، كذلك، قد تتكرر. قد تتكرر في العراق أو في غير العراق من العالم الذي تهيمن عليه هذه الثقافة: ثقافة فلننسَ المقابر. فلننسَ صدام. المقابر لا تُنسى. في 1940. في غابة كاتِن البولندية أعدم السوفيات، بأمر من ستالين، 4000 ضابط بولندي كانوا مساجين لديهم. مقبرة كاتِن الجماعية تقع الآن في متن الثقافة الوطنية البولندية. في عناصر العلاقات البولندية-السوفياتية ومن بعدها البولندية-الروسية. صدام ملأ المقابر الجماعية بأبناء بلده. صعوبة النسيان، إذاً، أكبر. وهي ينبغي أن لا تُنسى ليس لأنها مقابر فقط. أيضاً: لأنها جماعية. الناس يُعاقَبون فيها بالموت بصفتهم كُتَلاً. بصفتهم كمّاً. تؤخذ كثرتهم بجريرة ما نُسب الى أفراد منهم. وفي آخر المطاف: الأرقام في العراق ليست بسيطة. من قتلهم صدام، بمقابر أو من دونها، يتراوحون بين مليون ومليون ونصف المليون. نتساءل أمام هذه الأرقام: ما الذي يمكن أن يكون أهم؟ أية سياسة؟ أية استراتيجيا؟ إننا، مجدداً، أمام انشقاق في الثقافة العربية وفي طريقة النظر الى السياسة: بين من يعطي الأولوية للاعتبارات العقائدية ولترجمتها في وقائع سلطوية وجيوبوليتيكية. ومن يعطي الأولوية للبشر حياةً وموتاً. ومن ثم يبني سياسته على هذا الواقع. الذين يريدون أن ينسوا يريدون أن يقاوموا أميركا. يريدون الجهد كله منصبّاً في الوجهة هذه. لكن حتى لو وُفّقوا، عبر تعميم النسيان، وحتى لو وُفّقوا في مقاومتهم، ستفضي طريقهم الى اجتراح صدام جديد ومقابر جماعية جديدة. هؤلاء الذين يضعون صدام ومقابره الجماعية بين هلالين أسوأ من أي احتلال أميركي. هذا لا يعني أن الاحتلال الأميركي جيد. يعني أن من يصرخ ضد المقابر الجماعية لحاكم العراق المختفي، هو وحده الذي تُحترم مطالبته بإنهاء الوجود الأميركي في العراق. إذ كيف يمكن أن يكون المرء راغباً الى هذا الحد في تحرير العراق وعازفاً الى هذا الحد عن الاكتراث بموت العراقيين... وجماعياً؟ من يجعل من المقابر الجماعية نُصباً. من يكرّس المقابر الجماعية درساً للمستقبل. من يهتم باكتشاف الأفراد المقتولين فرداً فرداً، والكشف عن سِيَرهم سيرةً سيرةً. من يعيد بعض الاعتبار للأفراد الضحايا بتحريرهم من كونهم كتلاً. من كونهم جثثاً. من يستخلص الفرد فيهم من اللاإسم... هو وحده الذي تحظى دعوته لإنهاء الاحتلال الأميركي بالثقة. ومرةً أخرى، وللأسف، عجزت المقابر الجماعية عن تحريك مشاعرنا. عجزت عن دفعنا الى خلاصات بها وبمثلها نطوي صفحة المقابر الجماعية. هناك عراقيون وأميركان استنتجوا ضرورة "استئصال" البعث و"اجتثاثه". هذه لغة تحمل مقبرة في داخلها. مقبرة أخرى. مقبرة مضادة للمقابر... لكنها مقبرة. وآن للعراق أن يعيش. هنا اقتراح موجّه للمثقفين العراقيين: التنادي الى لقاء موضوعه المقابر الجماعية. هاجسه عدم تكرار ما حصل ثانية. لقاء يرفع شعار Never Again. لكي لا تتكرر المقابر لا بد من مناقشة أسبابها بعيداً عن "الاستئصال" و"الاجتثاث": مناشقة أسبابها في استيلاء الطغاة على حياة البشر متوسّلين بعقائد استبدادية ودعوات ضخمة. أسبابها في وضع القانون جانباً لمصلحة ما يظنه البعض حقائق مقدسة. أسبابها في لغة جامعة تقول، حتى وهي تدين صدام حسين، إنه يمثّل انحرافاً عن حركة التحرر العربية. هذا أكل هوا، كي لا نقول إنه أكل شيء آخر. صدام انتكاسة ضخمة عن العهد الملكي. عن نوري السعيد. عن "الرجعية". لا فيصل الأول ولا نوري "باشا" أقاما مقابر جماعية. أسباب المقابر الجماعية في اللغة السائرة وفي كتابة التاريخ مما ينبغي مناقشته الآن قبل الغد.