شاهد العالم الحرب الاميركية على العراق مباشرة عبر الهواء لتحتل صورها وأحداثها مساحات في عيون المشاهدين وعقولهم. ويعود الفضل في ذلك الى وفرة الاقنية الاخبارية الفضائىة التي ترسل بثها بكل اللغات عبر عشرات الاقمار الاصطناعية بسهولة وسرعة عبر استخدام اجهزة صغيرة نقالة لا تستدعي فرق عمل كبيرة في طليعتها الفيديوفون، أو الهاتف المرئي اللاسلكي الذي يعمل من اي مكان في العالم عبر الاقمار الاصطناعية، وكان قد اختبر في حرب افغانستان وأعطى نتائج جيدة، على رغم عدم نقاوة الصورة وعدم تزامن الصوت مع حركتها، اذ انه كان الوسيلة الوحيدة والشاهد الاول على تحرك قوات التحالف داخل العراق، خصوصاً ان المراسلين الاجانب تمتعوا وحدهم بالتسهيلات لمرافقة الجيوش الغازية. وكان هؤلاء المراسلون يتصرفون بالصورة والصوت كما يشاؤون. فكنا نرى المراسل يرتدي الخوذة داخل ناقلة جند من دون ان ندري ان كان يتكلم معنا مباشرة من ذلك الموقع او من مكان آخر. واذا ارادوا لنا ان نرى حقيقة تقدم الجيوش، كان المشهد يقتصر على القافلة نفسها تتقدم على طريق صحراوي يقال لنا انه الطريق الى بغداد، وفي الليل كانوا يستخدمون العدسات ذات اللون الاخضر الذي يصبغ الشاشة فيتحول مشهد القصف الى صورة من جهنم "الخضراء". وفي الجهة المقابلة كان التصوير محصوراً في فندق واحد يستعمل سطحه ليلاً لتصوير القصف والغارات من بعيد وقاعاته نهاراً للمؤتمرات الصحافية حيث "يتمترس" الصحاف خلف غابة من الميكروفونات تحمل حشداً من الشعارات المتسابقة على البروز. وربما كان من مفارقات اعلام هذه الحرب ان دور الميكروفون كان اهم من دور الكاميرا ما حول الشاشة الى اذاعة تنقل الكلام من المؤتمرات الصحافية وعلى ألسنة المحللين الكثر. وهكذا كان المشاهد يعيش نهاراً "اعلامياً" نمطياً. الصحاف من بغداد، الجنرال الاميركي من قطر ظهراً، وزارة الدفاع البريطانية في لندن ووزارة الدفاع الاميركية في واشنطن. نعم كانت كثرة الكلام مؤشراً واضحاً الى عدم وجود شيء للتصوير. وكانت الصور بغالبيتها بؤس الضحايا والأسرى في ظل غياب الصور الفعلية عن الحرب، والتي اقتصر ما شاهدناه منها على صور بعيدة للغارات على بغداد وعلى دبابات تعبر الطرق على ابراجها جنود لا يرى من وجوههم شيء، وعلى وجوه المراسلين الحربيين، وهذا ما يفسر ربما، سقوط صحافيين شهداء عندما اقتحمت القوات المهاجمة بغداد. لم يكن مرغوباً به ان تنقل وقائع الحرب حية بهذا الشكل، فراعي البقر داخل الدبابة لا يفرق بين المدفع والكاميرا وبين العدو والصديق وبين الصحافي والجندي. ففي حرب المدن، كل متحرك امامه هو هدف عسكري مشروع اطلاق النار عليه. تنافست المحطات الفضائية العربية في نقل الحرب، وتميزت كل واحدة في ميدان، كما تميزت في المواقف. اما في الجانب الآخر فسبقت "فوكس نيوز" الاميركية منافساتها وأسقطت اسطورة "سي ان ان" التي لمعت خلال حرب الخليج الثانية عام 1991. كانت شاشة "فوكس نيوز" اشبه بسينما هوليوود، تصور الجندي الاميركي يقاتل وينقذ ويحرر، وكأن الجنود الاميركيين يحاربون الرمال والظلال، وكأن صواريخهم وقذائفهم لا تصيب احداً. والحقيقة اننا لم نرَ هؤلاء الذين اصابتهم القذائف والصواريخ على هذه الشاشة التي رافقت كاميراتها الدبابات الاميركية. ويمكن بسهولة تمييز "بي بي سي" الانكليزية عن "فوكس نيوز"، فالمحطة البريطانية حاولت ألا تقحم نفسها، كما زميلتها الاميركية في المعركة، ونجحت في الاقتراب من الواقعية. * مخرج ومصور تلفزيوني.