في وقت بدأت شعارات التمايز عن الأميركيين والمطالبة بالتحرر والاستقلال وإنهاء الاحتلال الأميركي لأرض الرافدين ترتفع في غالبية المدن العراقية، لم تشر الأيام الأولى للأكراد في ظل هذا الاحتلال إلى أن هذه الجماعة العراقية ستقرأ مستقبلها على ضوء إعلان واشنطن استراتيجيتها الواضحة لإعادة رسم خريطة المنطقة وتغيير الواقع الجغرافي - السياسي القائم فيها، لا سيما أن التداعيات العراقية أثارت مخاوف وهواجس كل من سورية وإيران وتركيا، التي ستلجأ في المستقبل إلى ولوج سبل وقائية من خلال زيادة التنسيق والتعاون في ما بينها لمواجهة ما يمكن أن يجرى على الساحة الإقليمية. وإذا كانت المسألة الكردية ضاعفت من التحديات التي ستواجه هذه الدول، فإن المأزق الذي يعانيه الأكراد يمتد منذ بداية العشرينات من القرن الماضي وحتى الآن، ويمكن تحديده بأربع نقاط: أولاً: تشير مذكرة عصبة الأمم عام 1930 إلى أن الفكرة القائلة بوجوب جعل القوى الكبرى تفي بوعودها كانت "مفهوماً وهمياً تقريباً"، وبدا أن الأكراد وعدوا بدولة خاصة بهم في معاهدة "سيفر" بعد الحرب العالمية الأولى، بيد أنه كان هناك شرك دولي للأكراد. ففي ثنايا النشرة المطبوعة الصغيرة كان هناك شرط مدفون ينص على وجوب إقناع العصبة بأن الأكراد "قادرون" على الاستقلال! ثانياً: إن الدول الإقليمية، العراق وتركيا وإيران وسورية، لا تستسيغ قيام دولة كردية في شمال العراق لما يشكله ذلك من مخاطر مستقبلية خصوصاً أن الأكراد ينتشرون في هذه الدول، وأن العراق وتركيا لم تتورعا عن استخدام البطش وتدمير القرى واستخدام الغازات السامة لمحاربة التوجهات الكردية. ثالثاً: إن الطرح الفيديرالي الذي قدمه الحزبان الكرديان، الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، في وقت سابق من العام الماضي، انتهى عملياً بعد زيارة الجنرال جاي غارنر إلى شمال العراق في 22 نيسان أبريل وإلقائه كلمة أمام البرلمان الكردي، لم يشر فيها إلى الفيديرالية، بل تحدث بالعموميات عن الديموقراطية والحرية واستعادة العراقيين لحياتهم الطبيعية، الأمر الذي أثار انتباه المراقبين وأسئلتهم عن مستقبل الأكراد. رابعاً: تضمن تقرير الخارجية الأميركية المرسل إلى إدارة جورج بوش، تصوراً متكاملاً لعراق ما بعد صدام حسين، وإذ يشير في شكل واضح وصريح إلى مخاطر قيام دولة فيديرالية، فإنه ينصح بحكم ذاتي موسع للأكراد وبحكومة مركزية في بغداد. وإذا صح مضمون التقرير، وإذا أخذت الإدارة الأميركية بالتوصيات التي وردت فيه، فهذا يعني أن واشنطن تخلت عن أهدافها التي كانت أعلنتها بإقامة كيان فيديرالي في العراق، وهو ما كان رفضه حتى مؤتمر لندن للمعارضة العراقية الذي عقد في كانون الأول ديسمبر 2002، كما أكد ذلك الباحث العراقي عبدالأمير الركابي في مجلة الأهرام العربي 11 كانون الثاني/يناير 2003 بالقول: "إن مؤتمر لندن أسقط صيغة الفيديرالية التي طالب بها الأكراد وقدم لهم صيغة إدارية هي أقل من الحكم الذاتي الممنوح لهم من صدام حسين". وإقليمياً حذِّر الأكراد من مغبة الانسياق وراء الفيديرالية العرقية، لأنها عامل تمزيق وتفجير في العراق والدول المحيطة وستقضي على فكرة قيام دولة كل العراقيين، خصوصاً أن إعادة بناء العراق ستحتاج إلى سنوات عدة، والولايات المتحدة التي تقود دفة التغيير في العراق بعد احتلاله، لم تستقر على شكل نهائي أو تصور لوضع الأكراد الذين اجتمعت قياداتهم أخيراً في بغداد في دلالة خاصة مرتبطة بمركزية السلطة التي يسعى الأميركيون إلى جمع كل أطياف المعارضة العراقية تحت لوائها في المستقبل. فهل يصغي ممثلو النخب الكردية إلى هذا المستقبل الأميركي في العراق؟ لعل الرأي الذي طرحه هوشنك فاروق المحاضر المساعد في جامعة السليمانية تجيب عن هذا السؤال، إذ يقول: "يريد الأكراد أن يكونوا واقعيين أكثر من الماضي، تخلينا عن فكرة الاستقلال والانفصال لأنها غير عملية حالياً...". لكن هذا الانفصال يمكن له المرور من خلال الفيديرالية التي ستشكل باباً خلفياً لإثارة النزاعات داخل المجتمع العراقي وشعاراً جديداً لتوزيع العراق مقدمة لتقسيمه في الوقت المناسب. والهدف المرحلي من ذلك هو إثبات صعوبة تعايش الجماعات المذهبية والإثنية العراقية. أما الهدف النهائي فهو إذا كانت وحدة العراقيين صعبة فإن من الأحرى النظر إلى صعوبة تعايش الفلسطينيين واليهود، ومن ثم فتح الباب أمام تنفيذ "الترانسفير" الخاص بتوطين الفلسطينيين "السنّة" و"المسيحيين" في مناطق شمال العراق! فهل ينتبه الأكراد للمشاريع التي تهيأ على حسابهم وحساب المستقبل العراقي؟ إن صيغة الفيديرالية يمكن أن تكون مقبولة وتحقق وحدة أراضي العراق عندما تكون الصيغة مبنية على فيديرالية المناطق بتكويناتها المتعددة وليس بالصيغة المقدمة من الأكراد والتي تعترف بوجود كيانات داخل المجتمع العراقي وحقوق لكل كيان يتم فرضها على خلفية احترام حقوق الإنسان والجماعات... أي توزيع السكان بين عرب وأكراد وبعد ذلك بين سنّة وشيعة وأكراد وأشوريين وتركمان، ما يستدعي تلقائياً إعادة توزيع السكان تحت شعار الوحدة المذهبية والإثنية، ويفتح الباب واسعاً أمام تحقيق مشروع التوطين في شمال العراق. وهنا يبرز دور سورية وإيران لمنع تفكيك العراق بعد فشل هذا المخطط في لبنان 1975-1991، وضرورة منع إضفاء الشرعية على الاحتلال الأميركي-البريطاني ومخططاته لفرض مفاهيم وأشكال معينة للحكم في العراق، لأن ليس من الطبيعي أن يتخلص من النظام السابق لتفرض سلطة معينة على الشعب العراقي، وشكلاً معيناً من الحكم عليه تحت سيطرة الاحتلال. لعل "عقدة" الأكراد التاريخية، أنهم ما زالوا يرفضون قيام تسوية بينهم وبين الدول المحيطة بالعراق، وأنهم ما زالوا يرفضون الاعتراف بأن العوامل الإقليمية لن تسمح لهم بإقامة كيان مستقل يتجاوز الحكم الذاتي، وأن أكثر من هذا الحكم يعني دخول الأكراد معركة خاسرة، وما أكثر المعارك الخاسرة والفادحة التي خاضوها. * كاتب سوري.