بعد أن تناولت الحلقة الحادية عشرة الحرب العراقية-الايرانية، هنا التتمة: لم يفهم المراقبون ما الذي قصده وزير الخارجية العراقي في 16 تموز يوليو 1990. فقد وجه طارق عزيز، يوم الاحتفال بالذكرى الحادية عشرة لتسلم صدام رئاسة الجمهورية، رسالة غير متوقعة الى الجامعة العربية، هي مضبطة اتهام لدولة الكويت. فالأخيرة، بحسب عزيز، سرقت نفطاً قيمته 4،2 بليون دولار من حقول الرميلة في بدايات الحرب مع إيران، كما سعت الى خفض مداخيل العراق النفطية عبر زيادة انتاجها، مُقيمةً منشآت عسكرية على أرضه. وعرّج عزيز على دولة الامارات متذمّراً من أنها، هي الأخرى، ترفع الحصة المقررة لها من الانتاج النفطي، وتشارك الكويت رفضها اعتبار ديونهما على بلده هالكة. لم يكن سراً أن علاقات العراق بجيرانه ليست على ما يرام. فقبل شهرين فقط كانت انعقدت قمة عربية في بغداد سرّبت الصحف عنها أن صدام تصرف، في إحدى لحظاتها، كثور هائج. بل قيل إنه خاطب زعماء عرباً بلغة لا يقولها مُضيف لضيف. مع هذا مرت القمة على خير وتحدث البعض عن سحابة صيف، مذكّرين ب"طباع صدام". وكائناً ما كان الحال أعلن هو نفسه في كلمة ختامية أن القمة كانت ناجحة جداً. وقد بدا، في ظاهر الأمور، أن المؤتمرين انشغلوا بدعم الانتفاضة الفلسطينية والتنديد بالاستيطان الروسي اليهودي ومباركة مبادرات السلام العراقية حيال إيران أكثر مما بخلافات بغداد مع جيرانها العرب. كذلك لم يقاطع أي من هؤلاء القمة التي اقتصرت مقاطعتها على سورية، وبالتالي لبنان. هكذا بدت الحرارة التي في رسالة عزيز أعلى بكثير من مناخ المؤتمر البغدادي. وهذا ما تأكد بعد يوم واحد، وكانت تحلّ ذكرى الانقلاب البعثي عام 1968. فقد هاجم صدام سياسة الانتاج الكويتية والاماراتية، وأتبع هجومه بالفذلكة المعهودة في الرطانة القومية العربية، وهي ان النفوذ الاميركي يسند الدولتين بهدف تدمير مصالح العرب. لكن الأهم ان صدام هدد، أيضاً، باستخدام القوة لحمل منتجي النفط على التزام حصصهم. إذاً هي أزمة ذات احتياط متفجّر، جاءت أحداث ملتبسة تزيدها تفجيراً. فما أن انقضى أسبوع على كلام صدام حتى كان لقاؤه بسفيرة الولاياتالمتحدة في بغداد إبريل غلاسبي. فحين تذمر الرئيس العراقي من جارته الصغرى، أجابته بأن علاقاتهما الثنائية مما لا يخص بلدها. وقد فهم صدام من إجابتها ان واشنطن لا تمانع في غزو الكويت. ولم يكن أحد يقدّر حينذاك حجم المادة الخصبة التي ستوفّرها عبارة غلاسبي للتحليلات، المعقول منها والتآمري. لكنْ ما أصل هذه الأزمة المفاجئة التي ولدت في شهر سابع؟ لا شك ان الكويت والامارات أنتجتا أكثر من حصتهما، غير أن تفسير سياستهما يبقى أعقد من الاتهام العراقي. فقد عرفت بلدان الخليج ذروة ازدهارها عام 1980، بسبب سياسة التسعير المرتفع لمنظمة "أوبيك". وهذا، أصلاً، ما أتاح لتلك البلدان، خصوصاً منها الكويت، تمويل حرب صدام على ايران. بيد أن الأمور شرعت تتغير اواسط الثمانينات لأسباب تتصل بالسوق نفسها. ذاك ان ارتفاع الأسعار السابق أدى الى هبوط الطلب، فشهد عام 1985 انخفاضا في انتاج بلدان الخليج، ما عدا العراق، الى أقل من 5،5 مليون برميل يومياً، بعدما كان الرقم 7،13 مليوناً عام 1980. وفي 1986 انهارت الأسعار فابتدأت الكويت والامارات تزيدان انتاجهما، لا للحصول على عائدات أكبر إنما للحاق بتراجع الأسعار ومحاولة تعويضه. أما العراق، الذي كان قد بلغ في انتاجه أقصاه، فأعوزته القدرة على التعويض عن خسائر انخفاض السعر. وهذا يبقى مزعجاً لبغداد من دون أن يكون الموضوع الأم. وفي الحالات كافة فهو ليس مما يفضي، بالضرورة، الى حرب. لكن أزمة الاقتصاد العراقي الناجمة عن حرب السنوات الثماني هي التي أنتجت ضعف المناعة في جسد باتت نسمةٌ تطرحه أرضاً. فالبلد الذي هاجم بلداً آخر سكانه ثلاثة أضعاف سكانه ومساحته قرابة أربعة أضعاف مساحته، لم تخطط قيادته لاقتصاد حرب ينطوي على شيء من تقشف. فخلال 1980-1982، مثلاً، وكان الاستهلاك الكمالي لبلدان النفط في أوجه، استورد العراق سلعاً غير عسكرية ب42 بليون دولار، اي بمعدل 14 بليوناً سنوياً، وهو اربعة اضعاف الاستيراد العراقي غير العسكري لعام 1975، و75 في المئة من واردات البلد النفطية لتلك السنوات. وقد أدى النزاع المسلح الى انخفاض دخله الاجمالي، والقاعدة أسعار 1980، من 54 بليون دولار عامذاك الى 27 بليونا عام 1988. أما الديون التي تراكمت عليه فمثّلت ثلاثة أرباع دخله القومي لعام 1988، سنة انتهاء الحرب، فضلاً عن جيش أمسى تضخمه يهدد، تحت وطأة التراجع الاقتصادي، بالعودة الى سيرة الانقلابات الأولى. لقد حبلت إيران، إذاً، بالكويت. وفعلاً احتشد في 13 تموز 30 الف جندي عراقي على حدودها، فلم ينقض شهر إلا أصبح العدد 100 الف. لكن تنفيذ فكرة الحرب، التي قيل إن صدام لم يناقشها بدايةً إلا مع علي حسن المجيد وصهره حسين كامل، اعتراه بعض الايحاءات المضللة. ففي 25 تموز، صدر بيان مصري-أردني-عراقي يقول إن بغداد وافقت على تسوية الخلافات مع الكويت والامارات. وتفاءل بالخبر كثيرون: ذاك أن القاهرة وعمّان وصنعاء كانت أسست مع العاصمة العراقية، في شباط فبراير 1989، "مجلس التعاون العربي" الذي ضم الى الوظائف الاقتصادية والتنموية التي لم يُقيّض لأي منها الاقلاع، أغراضاً سياسية وصفتها الصحافة "بتعزيز كتلة الاعتدال العربي". وبدا يومها أن الاعتدال المذكور مدعوّ الى تسهيل اندراج النظام البعثي في العادية والوضع الطبيعي بعد سنوات حربه مع إيران. غير أن المتفائلين خانهم التفاؤل بقدر ما غلب طبعُ صدام تطبّعه. ففي اليوم الأخير من تموز التقى فعلاً مندوبو العراق والكويت في مدينة جدّة بالسعودية، لكن المفاوضات انهارت في اليوم التالي. هكذا صار العرب والعالم، ما بين مصدّق ومكذّب، يتهيأون ليوم الويل والثبور الذي يهدد به صدام. والحال أن غنى الكويت، فضلاً عن الأزمة المقيمة في النسيج الوطني العراقي، رسما علاقة البلدين الجارين بلون من الارتياب دائم. فإبان العهد الملكي داعبت نوري السعيد فكرة ضم الامارة الصغيرة، فيما كاد عبد الكريم قاسم ينفّذها لولا اجماع عالمي وعربي، وحّد القاهرة الناصرية بلندن وواشنطن، حائلاً دون ذلك. وبدورهم استشعر الخليجيون دوماً أن جيرانهم في الشمال يتشاوفون عليهم وعلى حداثة عهدهم بالثراء، فضلاً عن أصولهم وتراكيبهم البدوية. بل غالباً ما اندفع التشاوف عنصرياً في بعض البيئات القومية، العسكرية والحداثية، التي تتماهى بالتقدم الغربي في أكثر صوره أداتيةً. ففكرة الدولة القوية والكبيرة ذات المجتمع العسكري لا تطابق ما رمزت اليه الكويت وباقي بلدان الخليج الصغرى. أما ثراؤها فبقي، في نظر هؤلاء المشارقة، "حقاً" ل"الأمة العربية" بأكملها. وقد وجدت تصورات كهذه ما يغذّيها في المرحلة الناصرية وأدبياتها الهجائية ل"الرجعية" و"عملاء الاستعمار"، لا سيما ما أُنتج منها إبان حرب اليمن في الستينات. وجاءت، بعد ذاك، الأفكار الاشتراكية واليسارية تعزز المقدمات الناصرية وتحشوها معاني ودلالات. ولم يُعدم الكويتيون والخليجيون الحجج فتساءلوا، مثلاً، متوجّسين: لماذا لم يفكّر بنا المشارقة القوميون، قبل اكتشاف نفطنا، حين كانوا أفضل حالاً بكثير منا؟ أما أن تكون بلداننا مصطنعة، فالأكثرية الساحقة من الدول الأعضاء في الأممالمتحدة بلدان، مثلنا، مصطنعة. لكن المساجلات التاريخية والنظرية التي راحت تصير شتائم، لم تخفف حدّة السؤال الواقعي الحائر والمحيّر: هل يفعلها صدام مع الكويت التي ذهبت بعيداً في إمداده بالمال إبان حربه مع إيران، كما لم يبق شاعر كويتي إلا كتب له قصيدة ولم يبق مُغنٍ إلا غنى له؟ وهل يتجرأ، دفعة واحدة، على المصالح النفطية العالمية ومبادىء حق تقرير المصير والقانون الدولي وفكرة الدولة-الأمة وخريطة المنطقة، فضلاً عن منظمتي الأممالمتحدة والجامعة العربية؟ والأدعى للدهشة أن منعطف الثمانينات-التسعينات كان يسجّل تداعي الكتلة السوفياتية، ما يعني أن الاقدام على عمل كهذا تنطّحٌ لدور هيولي. فهل يطرح زعيم العراق نفسه بديلاً عن موسكو الشيوعية، وهل يكفي العُظام الذي يملكه، على وفرته، للوفاء بالعُظام الذي تتطلّبه مهمة كهذه؟ ثم أن النظام البعثي يشبه التراكيب السلطوية التي أطاحتها الحرب الباردة، فهل يعقل فيه، هو الذي يُفتَرض أنه انتقل الى موقع دفاعي، أن يرشّح نفسه للبدالة عن أقوياء ترنّحوا؟ كان المشروع يبدو جنوناً صرفاً. بيد أن صدام فعلها ظاناً أنه يدوس بقدم فيلٍ جثة نملة. وبذريعة دعم "قوميين" و"ثوريين" يعارضون أسرة الصباح، عبر جيش العراق الحدود فاحتل، في الثاني من آب أغسطس، الكويت وحقول نفطها. الا ان هذه الحجة التي استلهمت تدخل مصر في اليمن دعماً لانقلاب عبد الله السلال، عام 1962، جعلت الكهرباء تسري في أوصال العالم. فإذا بنا لا أمام فيل ونملة، بل حيال ذبابة أدخلها تيس في أنفه. فقد سارع مجلس الأمن الى تمرير ما عُرف بالقرار 660 الذي يدين الغزو، معلناً انه ما لم ينسحب العراق فوراً، وبلا شروط، فسوف تُستخدم ضده القوة والعقوبات. وبعد يوم التقى في القاهرة 21 وزير خارجية عربي فدان 12 منهم الغزو محذرين من التدخلات الاجنبية في الشؤون العربية. وبدا الانقسام واضحاً: فإذ امتنع الأردن وموريتانيا والسودان واليمن ومنظمة التحرير الفلسطينية عن التصويت، وغادرت ليبيا الاجتماع، رفضت دول "مجلس التعاون الخليجي" تحفّظ الجامعة عن التدخل الاجنبي. فهذا، في نظرها، لا ينطبق على ما تقرره الأممالمتحدة التي تنتمي اليها دول الجامعة. وارتسمت حدودٌ جغرافية واقتصادية للخلاف العربي: فهناك إقليم غني بالنفط يحس بأن الأقاليم الأخرى، في عالم "الأخوّة" العربية، تستهدفه. وتلاحقت قرارات وتطورات بارزة، فصدر في 6 آب، عن مجلس الأمن، القرار 661 يفرض عقوبات اقتصادية على العراق. وبعده بيوم وافقت الرياض على حلول قوات أجنبية على أرضها تدافع عنها وعن الخليج. وبالفعل أرسلت واشنطن، في ما عُرف ب"عملية درع الصحراء"، قوات لحماية السعودية. لكن العراق كان في وارد آخر. هكذا أقدم على إجراءات تجمع بين البؤس والافتعال المراهق، وحّد بينها ولاء لفظي لمنظومة إيديولوجية "وحدوية" و"اشتراكية". فقد سمي علاء حسين، الملازم الكويتي، "رئيساً للحكومة الكويتية الموقتة" بعدما استُدعي الى بغداد حيث مُنح رتبة عقيد. وأُعلن، في 8 آب، عن "وحدة" بين البلدين تُعيد "الفرع" الى "الأصل"، فيما كان الرئيس الأميركي جورج بوش يؤكد، بالصوت والصورة التلفزيونية، أن استقلال الكويت وسيادتها مصلحة حيوية لبلاده. وحيث بدأت بريطانيا وفرنسا إرسال قوات الى الخليج تحول حديث العواصم الغربية عن "الجيش الرابع في العالم" مادة متعددة الوظائف. فهناك، بالطبع، التضخيم المقصود، لكن هناك أيضاً مهمة استنهاض أعرض حلفٍ ممكن بأقل خسارة ممكنة. وفيما كانت تولد نظرية "صفر قتلى"، مع كسب الحرب الباردة بلا قتال، لاح التمايز واضحاً بين خلفيتين ثقافيتين. ففي مقابل التهويل الغربي بخطر الخصم، جعل صدام يستصغر خصومه مستأنفاً ميلاً معهوداً في الحروب العربية السابقة. وجاء يوم 9 آب فصدر، بالاجماع، قرار آخر عن مجلس الأمن يعتبر ضم الكويت لاغياً ويقضي بتشكيل لجنة خاصة للاشراف على مدى التقيّد بالعقوبات على العراق. وأيضاً لم يفهم صدام أن الحبل الذي يتم التلويح به لن يُطوى قبل استكمال شنقه. ولم يفهم عرب كثيرون: فبعد يوم واحد التقى في القاهرة 12 عضواً فقط من أصل ال21 الذين هم أعضاء الجامعة، وصوّتوا على إرسال قوات الى الخليج دفاعاً عن بلدانه. لكن اليمن ومنظمة التحرير أيّدا العراق، بينما أيّد الأردن وموريتانيا القرار بتحفظ، وامتنعت الجزائر واليمن عن التصويت، وتغيّبت تونس. وأخرج صدام من قبعته مبدأ "الربط" بين انسحابه من الكويت والانسحابين السوري من لبنان والاسرائيلي من الضفة الغربية وغزة والجولان وجنوب لبنان. وكان في هذه المبادرة ما يكفي من ردٍ على التحية السورية بأحسن منها. وإذ رفضت واشنطن "الربط" واعتبرته ينمّ عن عقلية لصوصية، علا نجم صدام في السماء العربية حتى ضاقت به السماء المذكورة. فالمثقفون بأكثريتهم الساحقة والمحبطون بالتجارب القومية أو اليسارية، المحلي منها والعالمي، بايعوه زعيماً غير مسبوق لقضية غير مسبوقة. وأهم الدعم جاء من القواعد الأصولية الأكثر راديكالية والتي كانت في ذروة صعودها في بلدان كالسودان والجزائر ومصر، تعيش لحظة صدامية مع القوى الأكثر تحفظاً واعتدالاً داخل الكتلة الاسلامية العريضة. وتتالت تظاهرات التأييد الضخمة ما بين المحيط والخليج، لا سيما في الأردن، مصحوبةً بالأعمال الوثنية التي غدت شهيرة كحرق الأعلام والدمى. وفي موازاة إضافته "الله أكبر" الى العلم العراقي، وتركيزه على "الاسلام" في خطاباته وأحاديثه، شاعت هتافات جماهيرية تهدد "بالكيماوي يا صدام/ أهجمْ أهجمْ للأمام" و"بالكيماوي يا حبيب/ دمّرْ دمّرْ تل أبيب". إذّاك، ولفترة ظهر لاحقاً أنها أشبه بنيزك يخطف السماء، تجاوز الزعيم العراقي زعامة عبد الناصر. وفي المقابل، شقّت النوايا المكبوتة حيال الكويتيين طريقها العريض المعبّد. وبالفعل لم تبق شتيمة الا كيلت ل"الامارة العميلة" وأميرها وأسرتها الحاكمة وشعبها. والنموذج الكويتي أبعد ما يكون عن الكمال. فرصيده في مسائل الجنسية والعمالة الوافدة سالب كسائر الرصيد العربي. أما في خصوص "البدون" فربما كانت الكويت أسوأ العرب. مع هذا شهدت تلك الامارة محاولات نسبية جداً ومبكرة في الديموقراطية برلماناً وأحزاباً ونقاباتٍ ثم صحافةً. أما العنصر الأفعل في كبحها وتعطيلها فلم يكن داخلياً بقدر ما جسّده انعكاس التوتر والتوجهات الراديكالية في الجوار عليها. وكانت السياسات النفطية والاستثمارية للكويت من أشد السياسات العربية عقلانية واهتماماً بالمستقبل، فيما قدمت دعماً مادياً متواصلاً ومرموقاً للمنظمات الفلسطينية، معطوفاً على التحويلات والتبرعات المالية للجالية الفلسطينية الكبيرة هناك. وبعد كل حساب ففي الكويت تأسست "فتح" نفسها وهناك عاش مؤسسوها بمن فيهم ياسر عرفات. وتبيّن، مرة أخرى، ان الحماسة سخّنت العقل أكثر مما يتحمل. وإذ تعزز إحساس الكويتيين بأن الشعارات القومية والدينية والفلسطينية أضحت كاسحات ألغام لغزوهم، رأوا إنقاذهم الوحيد في الرئيس الأميركي. فهو كان يأمر قواته، آنذاك، بمنع تصدير النفط العراقي، ومنع الاستيراد العراقي ما خلا المواد الغذائية. وردّ صدام على الضغوط الدولية التي تصحبها استعدادات واضحة، فأعلن، في مرسوم أصدره يوم 28 آب، أن الكويت المحافظة التاسعة عشرة في العراق، وسوف يمتد فوقها حكم عسكري معهود به الى علي حسن المجيد. وجرّب الكل وقف التدهور. فحاولت الأممالمتحدة، في 1 أيلول سبتمبر، لكن المفاوضات في عمّان بين طارق عزيز والأمين العام للأمم المتحدة بيريز دي كويّار لم تصل الى نتيجة. ولم تفتر همّة الأقطاب العالميين، فتشارك بوش وآخر الزعماء السوفيات ميخائيل غورباتشوف في عقد قمة في هلسنكي، مُصرّين على رفض كل استجابة تقلّ عن تطبيق قرارات مجلس الأمن كلها. لكنْ، في المقابل، أرسلت بريطانيا وفرنسا، اواسط ايلول، مزيدا من القوات، ثم أرسلت مصر 15 ألف جندي ليبلغ مجموع جنودها في الخليج 20 ألفاً. وأيضاً لم يفهم صدام فهدد، في 23 ايلول، باحراق النفط ومهاجمة اسرائيل. وبالطبع دوى التصفيق والهتاف العربيان لهذه المسرحية من الدرجة العاشرة التي حالت دون رؤية المسرح الفعلي. ففي 27 ايلول قررت ايران وبريطانيا استئناف العلاقات الديبلوماسية، وبعد يومين استقبلت الجمعية العامة للأمم المتحدة أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، فشبّه غزو بلاده بالغزو الاسرائيلي للضفة الغربية وجنوب لبنان. وفي موازاة الاستعداد الحربي، تواصلت الحرب السياسية والديبلوماسية من دون كلل. ففي 29 تشرين الأول اكتوبر، صدر القرار 674 متهماً العراق بانتهاك حقوق الانسان وبإنزال خسائر اقتصادية بالكويت. وبعدما زجّا الاتحاد السوفياتي والشرعية الدولية، مضى بوش ووزير خارجيته بيكر يقدمان دروساً أستاذية بحق في بناء الأحلاف. وقد انتهى بهما المطاف الى بناء تحالف للحرب عابر للقارات يشمل ثلاثين بلداً. وفي السياق هذا، زار الرئيس الأميركي دمشق في 23 تشرين الثاني نوفمبر، وأعلن أن الرئيس الأسد سيشارك التحالف قتاله. ومضى صدام، من ناحيته، يمعن في غباء صعب التفسير حاول كثيرون ثنيه عنه. فإذ بلغ عدد جنوده ومجنديه في الجنوب والكويت 700 الف، تلقّى طارق عزيز تحذيراً صريحاً من غورباتشوف حول ضرورة الانسحاب. وبعقلية تاجر صغير يتشاطر، افترّت شفتا وزير خارجية العراق عن بسمة واثقة. وبعد يومين عاودته البسمة اياها وهو يسمع باعادة بريطانيا علاقاتها مع سورية إثر قطيعة دامت أربع سنوات. ولم يقلق الديبلوماسي العراقي لصدور القرار 678 الذي يأذن لكل الدول الاعضاء، ما لم ينسحب العراق قبل 15 كانون الثاني يناير، "باستخدام كافة الوسائل الضرورية" لفرض القرار 660. وحيال تبديد الفرص كلها، وتطويقاً للرأي العام المناهض للحرب في بلده، ولمعارضين في الكونغرس، ولبقايا تحفظات سوفياتية، أبدى بوش استعداده أن يستقبل عزيز أو يرسل بيكر الى بغداد لمناقشة "كل أوجه أزمة الخليج"، وللذهاب "ميلا إضافياً على طريق السلام". ولم يتعب مسرح السماجة في بغداد، فنُسب الى "مجلس قيادة الثورة" قبوله "فكرة الدعوة واللقاء"، الا أن العراق أصرّ أيضاً على حضور "مندوبي البلدان والأطراف المعنية بمنازعات وقضايا لم تُحلّ"، مؤكداً ان مستقبل الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سيكون على رأس الاجندة. واستمر الولد الصغير يلهو بأمور كبيرة محاطاً بالهتاف والتصفيق. وفي 5 كانون الأول ديسمبر أدلى وليم وبستر، مدير المخابرات المركزية الأميركية، بشهادة خطيرة امام لجنة القوات المسلحة في الكونغرس. فذكر ان استمرار العقوبات العسكرية على العراق سيحرمه، في ثلاثة أشهر، قدرته على استخدام طيرانه الجوي. أما قواته البرية فستخسر، خلال تسعة اشهر، طاقتها على القتال. ولم يخفت ضجيج الاحتفال العربي الهائج. هكذا اكتمل الاستعداد، فلم يبدأ العام التالي، 1991، حتى كان عدد الجنود الأميركان في الخليج يتجاوز ال 380 الفا. وبعد ممانعة وافق عزيز، في 4 كانون الثاني، على لقاء بيكر في جنيف، من غير أن ينسى الالحاح على أهمية تناول الموضوع الفلسطيني. وفي طريقه الى أوروبا أكد وزير الخارجية الأميركي ورئيس حكومة بريطانيا جون مايجور ان ما من تمديد لمهلة الانسحاب في 15 كانون الثاني. ومن جديد واجه عزيز التحذير باللامبالاة، كما واجهه ب"إباء عربي"، وتذكير بحضارة العراق الضاربة آلاف السنوات في التاريخ، فضلاً عن رفضه نقل الرسالة الأميركية الى صدام لأن رئيسه لا يُعامل بهذه الطريقة. فما أن فشل وزيرا الخارجية في التوصل الى اتفاق حتى أحرق مايجور الورقة العراقية معلناً عن افتتاح مؤتمر لأزمة الشرق الأوسط بمجرد الانتهاء من موضوع الخليج. وفي 12 كانون الثاني خوّل الكونغرس بوش استخدام القوة، وبعد يوم واحد أعلن دي كويار، من بغداد، فشله في التوصل الى حل. لكن بحركة تقصّدت السخرية والباروديا، "صوّت" بالاجماع "برلمان" العراق، في 14 من الشهر نفسه، ب"السماح" لصدام بأن يستخدم كل السلطات المطلوبة للمواجهة. وفي اليوم ذاته تعهدت اسرائيل بأن لا تمارس ضربة وقائية للعراق مستجيبة ضغوطا أميركية متواصلة كي لا تتدخل منعا لاحراج العرب. وأصدر دي كويّار مناشدة اخيرة لوقف "نزاع لا يريده احد" في 15 كانون الثاني، موعد انتهاء مهلة الأممالمتحدة. وفي 16 بدأت "عملية عاصفة الصحراء" على الكويت وبغداد. هل كان صدام يملك خطة عسكرية تفسر تصلبه وتصلب رئيس ديبلوماسيته طارق عزيز؟ لا. والحال أن الحيرة التي خلّفها انعدام المقاومة العراقية أنست المراقبين حيرتهم الأولى بالغزو. فقد قُصفت وزارة الدفاع والمطار ومصافي النفط والقصر الجمهوري، ثم ضُرب الحرس الجمهوري على الحدود بين الكويت والسعودية. لكن صدام، على ما يبدو، كان مولعاً بالأصوات التي تهدر في الشوارع أكثر من ولعه بالانجاز العسكري. هكذا سقطت سبعة صواريخ "سكود" في اسرائيل، فيما دمّر صاروخ "باتريوت" اميركي صاروخا عراقيا موجها الى القاعدة الجوية الاميركية في الظهران. ومن دون أن تصاب اسرائيل بأضرار، حصلت على "باتريوت" بينما كانت أسعار النفط تهبط من 30 دولارا للبرميل الى 18. وفي هذه الأثناء "انتقلت" 80 طائرة حربية عراقية الى ايران، فاعلنت الأخيرة انها ستزربها عندها وتحتجز الطيارين حتى نهاية الحرب. وحتى بعدما سُدّت الأبواب لم ييأس الروس. ففي 5 شباط وصل الى بغداد مندوب غورباتشوف الخاص، يفغيني بريماكوف، للقاء صدام حيث أعلن العراق استعداده للتفاوض حول وضع الخليج. وبعد عشرة أيام، وكانت العمليات الحربية قد تقدمت، أبدى استعداده للانسحاب من الكويت، لكنه ربط موقفه بوقف نار شامل وبتعطيل قرارات مجلس الامن التي صدرت في 1990. ورفض بوش الشروط، فتوجه عزيز إلى موسكو ثم إلى طهران فإلى موسكو مجدداً، موافقاً على خطة سوفياتية للسلام رأتها واشنطن ناقصة كثيراً ومتأخرة أكثر. ولئن عدّلها الروس بقيت دون المطالب الأميركية. على أن الجيش العراقي كان، قبل ذلك بخمسة أيام، قد أقدم على أحد أبشع الممارسات الحربية وأكثرها أذى مجانياً. فأشعل 517 بئراً نفطية كويتية من أصل 950، ما أدى إلى أضرار مادية وبيئية. هكذا بدأ الهجوم الكبير في 24 شباط، فأذاع راديو بغداد في اليوم التالي ان القوات العراقية أُمرت بالانسحاب من الكويت إلى مواقعها في 1 آب بما يتلاءم مع القرار 660. ولم يمرّ غير يومين حتى سقطت مدينة الكويت ومطارها، ووجد الأميركيون أنفسهم يقاتلون "الحرس الجمهوري" على بعد 50 ميلاً غرب البصرة. لم تلق القوات المتحالفة، إذاً، مقاومة تُذكر. فالعراقيون استسلموا بالآلاف بؤساءً سيئي التدريب والقيادة، لم يتذوقوا الطعام لأيام. فالحرب كانت مونولوغاً عسكرياً بقدر ما كانت تكثيفاً لمواجهة بين مجتمع متخلف ذي قيادة مستبدة وعشوائية ومجتمع متقدم ذي قيادة ديموقراطية. وفعلاً ضاع الجنود العراقيون كلياً أمام التقدم في التقنية، فضلاً عن سلاح الجو. وقبل أن يتبيّن أن التحصينات التي اقيمت كانت ظاهرية وأقرب إلى تصاميم دعوية، سارع صدام، مع بدء القتال، إلى سحب معظم حرسه الجمهوري معيداً توزيعه حول بغداد. أما جنود الجيش الأقل حظوة فتُركوا وحدهم يلاقون هزيمتهم المرّة وحتف بعضهم التعيس. وفي 2 آذار مارس مرر مجلس الأمن القرار 686 الذي يطلب من العراق القبول بال12 قراراً سابقاً وبإطلاق المحتجزين المدنيين والموافقة على دفع تعويضات عمّا نزل بالكويت. وفي اليوم التالي أذعن ضباط صدام في خيمة صفوان، في أقصى الجنوب الشرقي للعراق، موقعين على استسلامهم الذليل. لقد كانت فجيعة عبثية بكل معنى الكلمة. فالولاياتالمتحدة خسرت 79 جندياً و213 جريحاً و44 مفقوداً، فيما خسرت بريطانيا 13 وفرنسا 2 والبلدان العربية المشاركة في التحالف 13. أما الأرقام العراقية التي لم يُحصها أحد فتفاوتت بين 200 و700 ألف قتيل. وبلغت خسائر العراق 230 بليون دولار وخسائر الكويت 168 بليوناً في عدادها اطفاء واصلاح الآبار التي أشعلها العراقيون وحفر آبار جديدة للتعويض عن التالف منها. ثم أن الحرب دمرت البنية التحتية للعراق. يكفي ان الطلعات الجوية فوق بغداد وباقي المدن نافت على المئة الف طلعة، القي خلالها 88 الف طن من الذخيرة. فلشلّ قدرة العراق على القتال حطمت قوات التحالف نظام توليد الطاقة الكهربائية ومصافي النفط والوحدات الصناعية الرئيسية ونظام معالجة المياه، فضلا عن الطرق والجسور ووسائل الاتصال السلكي واللاسلكي ناهيك عن المنشآت العسكرية والسلاح الجوي. هكذا لم ينتكس العراق الى ما قبل طفرته النفطية فحسب بل، وكما لاحظ فريق من الأممالمتحدة، الى ما قبل التصنيع. وحُكمت الكويت في تلك الأثناء بالطريقة التي يُحكم فيها العراق، فنُصبت المشانق في ساحاتها العامة، فيما تعرضت للسرقة والانتهاكات. وقد اتُهم عدي صدام حسين تحديدا بالنهب بطرق شتى، منها إنشاؤه لجاناً كلّفها إحضار الذهب والسيارات الفارهة التي كانت في حوزة العائلات الثرية في الكويت. وقُدّر عدد الأسرى الكويتيين ممن اصطحبهم جيش صدام لدى انسحابه بأكثر من 600 شخص ظلت بغداد تؤكد أنهم "لم يوجدوا". لقد تصرف "الشقيق" العربي الأكبر حيال "شقيقه" الأصغر كما تصرف "المرابطون" و"الموحدون" الهاجمون من الصحراء على دول الطوائف. ومن هذا العطب الكبير أصيبت العروبة بشرخ لم تستطع معاهدة كامب ديفيد المصرية - الإسرائيلية أن تُنزله بها. وإذ انتشرت بين العرب والعرب عنصرية بشعة لم يُصرّح بها قبلاً على هذا الوضوح، فقد أكثر من مليوني مصري وفلسطيني ويمني مهاجر أعمالهم وعادوا بائسين مطرودين إلى بلدانهم. ولئن عانى مصريو العراق وفلسطينيو الكويت ويمنيو السعودية، فإن منظمة التحرير فرغت خزائنها من المال بقدر ما تحولت قضيتها التي كانت موضع إجماع عربي، ولو متفاوت الجدية، الى موضع انشقاق. اما الكويت فرفضت أن يحيمها الجنود المصريون والسوريون، وآثرت، والتجربة وراءها، حماية أميركية. وغدت الدعوات الى نظام أعدل في توزيع الثروة تلوح لأعين الكويتيين ورقاً مزركشاً تُلفّ به هدايا مسمومة هي السرقة والنهب. وإذ تكبّدت بلدان الخليج بلايين الدولارات التي استدعاها تمويل الحرب، تأسس الحضور العسكري الأجنبي هناك مقدماً، بعد سنوات، حجةً للارهاب الذي ارتبط باسم أسامة بن لادن. وأما صدام الذي قام من قبره بعدما تخلى الأميركان عن انتفاضتي الشيعة والأكراد فعيّن، في 6 آذار، علي حسن المجيد وزير داخلية لقمع الجنوب. وعلى العموم، مثلما أنجبت الحرب على إيران "قادسية صدام"، أنجبت الحرب على الكويت "أم المعارك". وقد أمست هذه الأخيرة، الموصوفة بأنها "المنازلة الكبرى"، أحد أهم الاحتفالات الوطنية السنوية للعراقيين. يتوقف، هنا، نشر هذه الحلقات التي ستصدر قريباً، عن "دار الساقي"، في كتاب يجمع إليها فصولاً أخرى لم تُنشر.