إبان المواجهة الكبرى التي عشنا ولا نزال نعيش، لاحظ غير مراقب ومعلق ذاك الفارق بين رد الفعل العراقي ورد الفعل العربي. فالأول، بأكثريته، رحب بالحرب الأميركية بصفتها مدخلاً الى الخلاص من حكم مستبد، فيما رفض الثاني بأكثريته تلك الحرب بصفتها حرباً على العرب والمسلمين. وكان للاعلام، وهو "عربي"، ان عمم الموقف الثاني وظهّره حتى كادت المشافهة تغدو الشكل الوحيد لنقل الموقف الأول. والراهن ان الحرب الأخيرة اكتسبت، لأسباب معروفة، أهمية تفوق التي اكتسبتها الحروب السابقة مما شهده العالم العربي. فالى موقع العراق ودوره هناك التورط الاميركي المباشر، والى صلة الحرب المذكورة بالمنعطف الدولي على الأصعدة كلها هناك التماسّ مع النفط، والى الانعكاس على الموضوع الفلسطيني هناك تأثيرات قد تتعدى أنظمة المنطقة الى نسيج مجتمعاتها. لكن فارق الأهمية لا يلغي، والحال هذه، وجود قاسم مشترك، ومتكرر، بين هذه الحروب جميعاً. ومهما بدت الحقائق جارحة ومؤلمة بالقياس الى وعي قومي سعيد ومطمئن، لا بد من ايراد بعضها تمهيداً لاستخلاص قد يكون أكثر جرحاً وإيلاماً. فحين حصلت الحرب بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1970، كانت الغالبية الساحقة من الشرق أردنيين في مواجهة الغالبية الساحقة من العرب. وحين حصلت الحرب بين لبنان والمنظمة، وبعدها سورية، كانت الغالبية الساحقة من المسيحيين اللبنانيين في مواجهة الغالبية الساحقة من العرب، لكن ما ابتدأ في السبعينات نزاعاً بين العروبيين وبين القواعد العصبية المؤسسة للكيانات، تحول لاحقاً نزاعاً بين العروبيين أولئك وبين الكيانات نفسها. فإبان الحرب اليمنية - اليمنية كانت الأكثرية العربية في مواجهة اكثرية اليمنيين الجنوبيين، تماماً كما غدت الأكثرية الأولى في مواجهة الكويتيين كلهم لدى تعرضهم للغزو. وها نحن نصطدم مجدداً بذاك الاصطفاف الذي يضع أكثرية العرب في مقابل اكثرية العراقيين. وهذا التكرار، على اختلاف في التفاصيل، يدل الى الصراع الضاري الذي لا يزال على الدولة - الأمة في العالم العربي ان تخوضه كيما تنشأ. وهو صراع متعرّج قد لا يتعادل معه الوعي به، وقد ينسدّ طريقه فيرتد كلياً الى احتراب أهلي ودعوات تناحُر. الا أنه في الحالات جميعاً يبقى أن مشكلة بناء الدولة - الأمة، أو تفكيكها، لا صلة تجمعها بالترسيمة الايديولوجية، القومية العربية أو الأصولية، للصراع. كذلك يدل الصراع نفسه الى حقائق عدة يتصدرها ما يتعلق بالموضوع الفلسطيني. ذاك ان الإعاقة التي أحاقت بولادة الدولة الفلسطينية وهي ما تعاظم في السنوات الأخيرة بفعل التقاء الراديكاليتين القصوييين للشارونية والبوشية لا تزال العامل الأهم في تغذية الغضب "العربي" حيال استقرار الدول القائمة، كما حيال الإقرار بالنتائج المترتبة على إرادة أبنائها. ففي الأردنولبنان ينبغي ان لا تقوى الدولة - الأمة كيما يبقى البلدان ممرين سهلي العبور الى أزمة الشرق الأوسط. ولأجل الغرض الذي عبّر عنه شعار "هانوي العرب" الشهير، أريد ان لا تنجح تجربة اندماج أردني - فلسطيني كانت، حتى 1970، معقولة نسبياً، وان تتهدم تجربة برلمانية وتحديثية متقدمة بمقاييس الشرق الأوسط العربي. اما في الكويت واليمن الجنوبي فيُحبَّذ دعم مشاريع الضم والقضم لأن ما هو أكبر أنفع وأفيد في "المعارك القومية" القائم منها والمتخيّل. وغني عن القول ان حجة كهذه تعجز عن تأسيس نفسها على الشرعية الشعبية والديموقراطية. صحيح أن دعوتها، وهي "الجماهيرية"، تحظى بالأكثرية من حيث المبدأ إلا أن هذه الأكثرية لا تُمتَحن على أي قياس واقعي لبلد بعينه: فالدعوة تلك ليست موقفاً من توزيع الثروة والسياسة والتعليم والتطبيب، بل هي موقف من... "المصير". والمصير لا ترجمة له ملموسة، لا دستورياً ولا مؤسسياً. وهذا ما يجعل تلك الحجة افتراضية، لا بل هوائية، عند تجريبها على أي واقع وطني بعينه. لا بل هذا ما يجعلها تتجسد مادياً بقوى رثة يستحيل التوفيق بينها وبين أية حداثة في الوعي والتنظيم. فهناك دائماً كثير من الضجيج الذي توجزه شعارات وهتافات وأصوات احمد سعيد، محمد سعيد الصحاف...، وهناك بالقدر نفسه افتقار الى المعنى والاستجابة المحددين يكاد يكون كاملاً. وهذا هو سر الاعتماد على الوعظ الذي يتخذ طلب التوفيق الدائم والمستحيل بين "القومي" و"القطري" وبين "القومي" و"الديموقراطي" وبين "القومي" و"الحديث" أو "العقلاني" على ما وفّقنا قبلاً ومراراً بين القومي والاشتراكي، والعروبة والاسلام، والاسلام والاشتراكية الخ. ويتأدى عن المسافة بين الواقع الفعلي، وهو واقع دول ومجتمعات، وبين الخطاب العروبي، ان يكف الأخير بتاتاً عن مناشدة المصالح والتوجه اليها. فهو لا يخاطب، والحال هذه، فئات اجتماعية بعينها، بل يُصدر مناشدات عامة واخلاقية يغلب عليها التوحيد الايديولوجي والوهمي للمصالح أمة، شرف، كرامة، مقاومة. أما الذين يؤثرون التوقف عند المصالح، وهم الأشد تأثراً ببقايا وعي ماركسي، فيأخذوننا عبر طريق بالغ الطول والتعرج يُفتَرض خلاله أن نحارب العدو الصهيوني - الأميركي لنعود بعد ذلك، وقد أنجزنا مصالح "الأمة" الافتراضية، الى التفكير بالمصالح العيانية لأبناء المجتمعات العيانية. وفضلاً عن التعسف الايديولوجي الذي تتسم به ترسيمات كهذه، وفضلاً عن أن الفاصل الزمني قد يبيد عدداً من الكيانات القائمة أصلا، أو يوهنها كثيراً على ما تشير تجارب لا تحصى، يبقى الأخطر ماثلاً في تركيب الحركات التي ترفع الدعوة العروبية. فحتى لو نحّينا جانباً البعث العراقي، وهو حالة قصوى تمنع الأخلاق استخدامها في السجال، فإن انفتاح هذه الدعوات على الرثاثة الاجتماعية والانتاجية التي نراها في مظاهرات "الشارع العربي" برهان ساطع. وأسطع منه اضافة "الاسلام" الى "العروبة" لدى القوميين، و"العروبة" الى "الاسلام" لدى الاسلاميين، ما بين رفة عين وانتباهتها، بحيث غدونا نتحدث عن "الأمة العربية والاسلامية" من دون أن يُعنى أحد بفرز شيء عن شيء ومستوى عن آخر. ولا نأتي بجديد اذ نقول ان الفاشية، في أحد تعريفاتها، انما هي مخاطبة المواطنين بصفة غير صفتهم المهنية، والسعي الى تجميعهم وتوحيدهم بعيداً عن تلبية أية مصلحة اجتماعية ملموسة. وهذا لا يعني، بالضرورة، وصف التيارات العريضة لأفكارنا واحزابنا بالفاشية، لكنه يعني اننا نكاد نمثّل حالاً غوبلزية من دون هتلر، بحيث يتبقّى لنا الصوت المرتفع والهواء اللفظي الساخن بمعزل عن القوة التي تسندهما. وهي، في الواقع، لفظية لا تنمو بمعزل عن القوة وحدها، اذ تنمو ايضاً بمعزل عن الضعف وامتحانه والقياس عليه. فهي تستمر بذاتها، مقدسة مثل الخرافات التي تستحيل البرهنة على صحتها تماماً كما تستحيل البرهنة على خطئها. فلا الحقائق التي تستجد ولا الهزائم التي تنزل تحملنا على اعادة نظر بالأساسيات التي تبقى "صحيحة" على رغم كل شيء بلغة أكثر بعثية: على رغم أنف العدى. والحال ان استعدادنا الخصب للخرافة يجد ما يغذيه في اننا لم ننتج، في الغالب، أصلاً الدول - الأمم التي نعيش فيها لكننا، فوق هذا، اندرجنا في سياساتها وتحولاتها السياسية من دون التعرض لاصلاح ديني سابق عليها. وعلى هذا النحو تعاظمت طاقتنا على تديين السياسة وتحجيرها فيما كان في وسع الاصلاح، لو تحقق، ان يربطنا ب"مساجد وطنية" بالمعنى الذي يقال فيه ان مارتن لوثر ربط بروتستانتيته ب"كنيسة ألمانية". ولكن ما مرد استعدادنا للخرافة ذاك؟ ولماذا تبقى الإيديولوجيا "العروبية" على هذا القدر من التمكّن، على رغم عناصر هشاشتها تلك، وبعضها جوهري، بل على رغم سمتها التلفيقية الغالبة ومن أن واقع الحال لا يني يدحضها؟ إذ ما لا شك فيه أن الإيديولوجيا المذكورة تكاد تنفرد عندنا بالحضور وبالفعل، أقله ذلك المتمثل في تجييش المشاعر وتهييج "الجماهير". فلا يقوى على منافستها أو مواجهتها أي تيار آخر على ما يدل، مثلاً لا حصراً، حال الليبراليين وسواهم من "التحديثيين" بيننا، وهم قلة ضئيلة عدداً وشأناً، بعضها لا يتردد في استعارة أساليب الخصم فيحول "أفكاره" التحديثية أقانيم مبتسرة يدعو إليها بأساليب التبشير... الإيديولوجي بدوره. حتى "الكيانية"، وهي التي كثيرا ما تصادمت مع "القومية"، لم تستو يوماً، أو لم تستو إلا نادراً، تياراً بديلاً أو ينزع إلى أن يكون بديلاً، مع أن العوامل الموضوعية تبدو ملائمة لها، ويفترض فيها أن تكون سائرة في ركابها. ومن هنا تلك المفارقة المقيمة، والتي قدمت العقود القليلة الماضية أكثر من مثال في شأنها، حول "كيانيين" خاضوا مواجهات "كيانية" في أوطانهم وضعتهم في حال تناقض دموي مع القضايا "القومية". ثم لم يلبثوا أن برهنوا على نزوع قومي جارف ما إن تعلق الأمر بالقضايا الوطنية لسواهم من "الأشقاء". وهكذا باتت قوى حاربت الفلسطينيين في لبنان مثلاً، الأشرس في رفع لواء القضايا القومية، في فلسطين أو في العراق، على رغم أبناء الشعبين في بعض الحالات. وكذلك الحال بالنسبة إلى الأردنيين، وليس ذوو الأصول الفلسطينية منهم فقط. وقد يصح ذلك على العراقيين في مستقبل الأيام. ذلك أن الوطن، ذلك الكياني، عارض و"الوطن العربي" أو الأمة، العربية أو الإسلامية، جوهر. ولا يبدو مهمّاً أن يكون ذلك العارض هو ما يشكل أوجه حياتنا المادية ومجال عيشنا وإطار ذلك العيش وناظمه، وأن يكون بالتالي حيز وجودنا السياسي، في حين أن الجوهر، مجرد عالم افتراضي أو عالم موهوم أو منشود، كلما ازداد تعذراً ازددنا به تعلقاً، أو وسّعناه إلى ما هو أبعد منه منالاً، على ما يشهد انتقال الكثيرين منا، وربما الأغلبية غير الواعية بالضرورة بانتقالها ذاك، من الحلم بأمة عربية من المحيط إلى الخليج، إلى "الفناء" بالمعنى الصوفي في أمة إسلامية من أندونيسيا إلى المغرب. وذلك ما قد يفسر أن النظرة الإيديولوجية تلك لا تبدو، أقله حتى اللحظة، معنية بالفشل. فهي، وعلى العكس من كل نظرة أو ترسيمة أيديولوجية معاصرة أخرى حتى لا نقول "حديثة" وتلك صفة قد تكون في شأنها حرجة، لا ينال منها أي إخفاق يواجهها ما دامت قادرة على الرد عليه دوماً بالإمعان في المزيد من الإطلاقية، "الجغرافية" و"الفكرية". وإذا كان صحيحاً أن كل إيديولوجيا، خصوصاً أكثر صيغها تماسكاً، تمثل مجافاة للواقع ولمكوناته ولعناصر تعدده وبَرَماً بهذه العناصر، واذا صح أن الإيديولوجيا العروبية، أو ربيبتها أو بديلتها الإسلاموية، لا تشذ في هذا الصدد عن تلك القاعدة، إلا أنه يتضح، لدى التأمل وإمعان النظر، أن وجه المماثلة هذا يبقى سطحياً وظاهرياً. فهناك فوارق جوهرية وأساسية بين الإيديولوجيات التي شهدها العصر الحديث، من الشيوعية إلى الفاشية، وبين تلك المنتشرة بيننا ضرباً من توتاليتارية رخوة في الغالب على رغم تطبيقاتها العينية القصوى في حالة مثل عراق صدام حسين، علماً بأن رخاوتها تلك لا تزيدها إلا قدرة على الفتك طالما أنها تجعلها مبثوثة في ثنايا مجتمعاتنا، لا تنهض بها أجهزة الدولة التوتاليتارية حصراً كما هي الحال في الأنظمة التي تحمل تلك الصفة، بل تنتشر لدى "الشارع" وتحدد ردود فعله، كما في أجهزة الإعلام ولدى جمهور "النخبة"، من كتبة ومعلقي صحف ومحللي فضائيات وخطباء مساجد وكل ذي قول في الشأن العام تقريباً. ولعل في ذلك ما يفسر أن العديد من بلداننا عبارة عن مجتمعات ذات نزوع توتاليتاري واضح وفاعل، وإن من دون دول توتاليتارية ضرورة ولزاماً. مجافاة الواقع القائم، وهي من السمات الملازمة للإيديولوجيات، تنطوي أيضاً على فارق أساسي في ما يتعلق بتجلياتها في الإيديولوجيات الحديثة المشار إليها قياساً إلى تلك السارية عندنا. فتلك الأولى تقوم على التجرؤ على الواقع، على تعنيف مكوّناته بفعل إرادي قصد تغييره، ما يعني الإقرار به منطلقاً. في حين أن هذه الأخيرة التي عندنا، تنكره جملة وتفصيلاً وتغض الطرف عنه بإصرار. فتكتفي، عوض تغييره، بنزع كل شرعية عنه، وتحصر كل سطوتها في صلاحية نزع الشرعية تلك، وهو ما يمثل سلطة بالغة النفاذ لا يستهان بها. وهكذا، فإن إيديولوجياتنا القومية والإسلاموية والإسلاموية - القومية وسواها من الصيغ والتوليفات، لم تكن يوماً ناجعة في إنجاز تغيير أو تحرير. فمثل فعل التغيير أو التحرير ذاك، عندما تحقق وحيثما تحقق، نهضت به قوى وطنية بالمعنى "الكياني" أو "القطري" إن أردنا استعارة المفردات القومية والبعثية، سواء تعلق الأمر بمكافحة الاستعمار ونيل الاستقلال، تلك التي تمثل الثورة الوطنية الجزائرية مثالها الأبرز، أو بإجراء إصلاحات تشريعية عميقة، كتلك التي قام بها مثلاً الحبيب بورقيبة في تونس في مجال الأحوال الشخصية ولم تزل بزوال حكمه. أي أن كل ذلك كان من عمل تلك القوى "الكيانية" التي تنكرها تلك الإيديولوجيات وتضن عليها بأدنى شرعية وجود. وعلة ذلك أن فعل التغيير والتحرير هو من قبيلٍ تاريخي، أي مندرج في التاريخ، في حين أن تلك الإيديولوجيات لا تعبأ بالتاريخ، بل هي لا تاريخية من حيث الجوهر. ومن هنا إصرارها اللافت والمقيم على "أدلجة" الأفعال، أي على الفصل بينها وبين أية غائية منشودة في الواقع أو غائية يتسع لها الواقع. فالفعل لا يهم إلا بصفته برهاناً "إيديولوجياً" خالصاً، أو بصفته امتداداً للخطابة أو ترهيناً لها، أي جعلها أمراً ماثلاً لا بديلاً منها. وهكذا، يصار إلى تمجيد "الصمود" ومن كان "صامداً"، حتى وإن لم يحرر أرضاً ولم ينجز تنمية، في حين يصار إلى تبخيس من فعل ذلك أو حاول من خارج تلك المواصفات الايديولوجية وهل أن ذلك متاح إلا خارج تلك المواصفات؟. كما يصار إلى توثين "المقاومة"، في ذاتها ولذاتها ودونما حفول بما قد ينجرّ عنها. ولا تاريخية إيديولوجياتنا تندرج أيضاً ضمن مظاهر اختلافها العميق وتباينها الحاسم عن بقية الترسيمات الإيديولوجية الحديثة. فهذه سعت إلى أن تكون فاعلة في التاريخ، وبعضها تمكن، تبعاً لذلك، من تحقيق بعض النجاحات، وإن إلى حين: الثورة الشيوعية الروسية أفلحت على الأقل في إعادة صياغة إمبراطورية القياصرة في كيان جديد ومكّنتها من قوة مستجدة استمرت سبعين سنة. وهو ما يمثل نجاحاً، أقله من وجهة نظر سينيكية معينة وبقطع النظر عن الجوانب القيمية. أما الثورة الشيوعية الصينية فتمكنت من إعادة توحيد "إمبراطورية الوسط" ومن إحلالها المكانة التي باتت لها في العالم. وذلك ما يفترض فيه أن يبقى، حتى لو انهارت الشيوعية في ذلك البلد. فالصيغ الإيديولوجية تلك، وبالنظر إلى تاريخيتها تحديداً، كانت قادرة على إرساء علاقة "انتهازية" ما بالواقعين المحلي أو الدولي، وعلى تطويعهما، أقله في بعض الحالات. ثم أنها كانت من صلب الحداثة. وهي لذلك، ومن حيث طبيعتها تلك، كانت خاضعة، بشكل من الأشكال، وفي نهاية المطاف، لمبدأ السببية بمعناه العقلاني: بين الفعل وما يترتب عليه. وهي بالتالي كانت عرضة للمحاسبة وللتقويم وفق مقاييس النجاح أو الإخفاق. ولذلك نراها وقد زالت عندما أخفقت، وإن كان من باب التعسف حصر أسباب زوالها، وهي متشعبة وبالغة التعقيد، في هذا العامل حصراً. غير أن الأمر هذا يعني أنها كانت، على رغم كل إطلاقياتها نظريّة وممارسة، تنطوي داخل نسبية ما. أما إيديولوجياتنا، وعلى العكس من ذلك، فلا تقيم أية علاقة مع الواقع، ولا تربطها به، تالياً، أية "انتهازية". وهي وإن اتسمت بتلفيق "انتهازي" واضح، فهو ليس من قبيل واقعي ولكنْ من طينة إيديولوجية: أي أنها تتغذى من كل ما يقع تحت يديها مهما بلغت درجة تنافره من الناحية الفكرية ومهما تضاربت مصادره. فلا تتردد في خلط الدين بالعروبة بالعشائرية بالاشتراكية بمناهضة العولمة بنبذ الخصوصية إذا كانت محلية والإشادة بها إذا ما تعلقت ب"الأمة"، وبكل ما اتفق عدا ذلك. همها ليس الانسجام حول فكر أو رؤية متماسكة، مدخلاً أو وسيلة للفعل في واقع لا تقره، بل حول هاجس أو سلوك، هو ذلك المتمثل في "الممانعة" أو في رفض العالم أو في صد الواقع القائم. فصيغنا الإيديولوجية تلك، وإن اتفقت مع "نظيراتها" الحديثة في برمها بالسياسة، بما هي مجال التعدد والأخذ والرد وصياغة إجماعات موقتة دوماً انطلاقاً من مصالح فئوية وقطاعية تتساوى في شرعية الوجود، إلا أنها تختلف عنها في علاقتها بالسياسة، طالما أن تلك الإيديولوجيات الحديثة قد جاءت انقلاباً على السياسة بذلك المعنى الحديث الذي سبقت الإشارة إليه. ومعلوم مدى برم الفاشيين بالحياة البرلمانية التي اعتبروها عبارة عن مجال لمساومات مزرية، كما هو معلوم مدى برم الشيوعيين ب"التعددية الشكلية البورجوازية"، في حين أن إيديولوجياتنا تعود إلى ما قبل السياسة، أي أنها تعبر عن مجتمعات أخفقت حتى اللحظة في استدخال السياسة. فهي تالياً مشبعة بالسلطة بمعناها العاري والجلف، حيث الحاكم مطلق السلطان يقابله المعترضون عليه بإطلاقية المطالب والرؤى، من دون أن يبرز ذلك الحيز السياسي الحديث الذي يمكنه أن يكون مجال المناهضة و/أو الاتفاق. وما لا شك فيه أن قصور المعارضة في البلدان العربية عائد بالدرجة الأولى إلى انعدام السياسة ذاك في مجتمعاتنا أكثر مما هو عائد إلى وطأة القمع، ذلك الذي لم يحل في ظروف وبيئات ثقافية أخرى، دون بروز معارضات مجدية وقادرة على اجتراح أنصبة جديدة، على ما تدل تجارب الانتقال إلى الديموقراطية في أكثر من بلد: من أميركا اللاتينية إلى أقصى شرق آسيا إلى وسط أوروبا وشرقها. ذلك ما قد يكون علة ما نحن فيه. وما قد تكون إيديولوجياتنا وما تتسم به من رثاثة وكيتش، أعراضاً له أكثر مما هي أسباب. ولن تقوم للأوطان، أو للدول - الامم قائمة في ربوعنا ما لم تصبح حيزاً للسياسة. وما من شك في أن الشعور العربي الواسع بالغبن والظلم، تبعاً للتجربة الفلسطينية أساساً، يزيد في مصاعب تأسيس نظرة أدق الى النفس والعالم ترتكز الى واقع الدول والمجتمعات. إلا أن مشاعر الغبن إذا ما تركت على رَسلها قد تلد ما ولّده الغبن الذي نزل بالألمان في معاهدة فرساي، أو كاريكاتوراً عنه. فإذا جاز المضي في مطالبة البلدان الغربية، لا سيما الولاياتالمتحدة، بعدل أكبر في سياساتها الخارجية، جاز ايضاً ان نطالب أنفسنا بالحضور في دول، شأننا في ذلك شأن سكان المعمورة. وقد ثبت، على الأقل، ان الطريق التي تبدأ بفلسطين لن تنتهي ببناء الدول بقدر ما تفضي الى تهديمها، الواحدة بعد الأخرى. وقد يثبت ان الطريق التي تبدأ ببناء الدول مرشحة للإفضاء الى موقع أفضل يمكن توظيفه لاحقاً في الموضوع الفلسطيني. وهذا، على أي حال، ينطوي على احتمال ان تكسب فلسطين دعم دول ومجتمعات عربية متماسكة وقابلة للحياة، فيما الوضع الراهن مفاده ان القضية تكسب على الدوام ضجيج العرب فيما تروح تخسرهم وطناً بعد وطن. * كاتب تونسي مقيم في إيطاليا. ** كاتب لبناني مقيم في بريطانيا.