نشرت صحيفة مقالاً 19-4-2003 تحدثت فيه عن نية الادارة الأميركية الاحتفاظ مستقبلاً بأربع قواعد جويّة في العراق. وبعد ثلاثة ايام، أكد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ان لا مصلحة للولايات المتحدة في ابقاء قوات لها في العراق بعد الفترة اللازمة لإرساء الامن في شكل كامل، "ويمكننا استعمال الكثير من القواعد في المنطقة خارج العراق، ولدينا خيارات كثيرة جداً". وإذا كان رامسفيلد صادقاً في كلامه، فينبغي عندئذ ان تعمل واشنطن على تأليف حكومة ديموقراطيّة مُنتخبة تضم كل الافرقاء العراقيين، وتنظيم جيش وطني قادر على ضبط الامن الداخلي، وفي الوقت نفسه على ردع الجيران من الاعتداء على العراق، والمباشرة بضخ النفط الذي يفترض ان يؤمن الدخل الكافي لإعادة الإعمار، والانسحاب العسكري الفوري من العراق وتركه لحكومته الديموقراطيّة، فهل هذا ممكن بعدما كلّفت الحرب الولاياتالمتحدة حتى الآن نحو 20 بليون دولار وهي ستدفع شهرياً نحو 1.5 بليون كلفة وجودها العسكري والسياسي، وبعدما عادت واشنطن العالم كلّه تقريباً، وضربت هيبة الاممالمتحدة، ونصّبت نفسها قائدة وحيدة للعالم؟ الجواب هو قطعاً بالنفي، وذلك انطلاقا من مبدأ ان "لا شيء مجانياً في السياسة والحرب". كما ان العراق يشكّل نقطة الثقل الاميركية في المنطقة للمرحلة المقبلة، وهو سيكون، حتماً، كما كانت المانيا لحلف الناتو ابان الحرب الباردة. من هنا يرى المحللون ان الانتقال العسكري الاميركي سيتم إلى داخل العراق من المنطقة، بدل ان يكون في الاتجاه المعاكس، وأن ما نشهده الآن ليس إلا عملية إخراج لهذا الوضع. ويعزى ذلك الى الأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها العراق. فعلى الصعيد الجغرافي، يشكّل هذا البلد مركز ثقل المنطقة ومحورها الاستراتيجي. ومنه، يمكن الولاياتالمتحدة ان تنطلق لتفرض سيطرتها على الدول الممتدة من اوروبا وحتى آسيا الوسطى. كما انه العمق الاستراتيجي للعرب في حربهم ضد إسرائيل. وعلى صعيد الاستقرار، يشكّل العراق تهديداً لجيرانه. فهو كلما كان قوياً، كلما كانت المنطقة على كف عفريت. وهو خاض الحروب لأكثر من 20 عاماً، واستعمل اسلحة الدمار الشامل ضد شعبه وضد إيران. وعلى صعيد الطاقة، يضم العراق احتياطاً مؤكداً من النفط يبلغ 112 بليون برميل من أصل الاحتياط العالمي البالغ ألف بليون برميل. ويمتاز النفط العراقي بكلفة استخراجه الزهيدة التي لا تتجاوز 1,5 دولار للبرميل. لذلك كله يعتبر العراق مركز ثقل العالم العربي، فهو يسبح على بحر من النفط السهل الاستخراج، ويجاور الدول المتهمة بأنها تدعم الارهاب وتموله، وتسعى في الوقت نفسه الى امتلاك اسلحة الدمار الشامل، كما انه على مرمى حجر من اسرائيل. وإنطلاقاً من ذلك يمكن الاستنتاج ان العراق سيكون حتماً المحور الاستراتيجي المركزي الذي سيقوم عليه النظام الامني الاقليمي الاميركي في المنطقة. ومن المنطقي ان تسعى واشنطن الى اقامة نظام يؤمن لها هذا الوجود، اذ انها لن توكل المهمة لأحد، بعدما جرّبت الشاه كشرطي للمنطقة في نهاية السبعينات. لكن المطلوب لأي نظام اقليمي بعد الحرب على العراق أن يمتلك بنى تحتية وعقيدة عسكرية تأخذ في الاعتبار كيفية التصرّف في الحالات الطارئة. ولتكون الولاياتالمتحدة قادرة على ذلك، فهي بحاجة إلى اتفاقات سياسية مع دول المنطقة، وإلى موطئ قدم لقواتها في البر والبحر والجو. ومن خلال درس الحاجات الضرورية للنظام الاقليمي الامني المرتقب، يمكن القول ان واشنطن ستكون في حاجة إلى قواعد عسكرية لقوى برّية قد تكون رمزيّة، وقواعد جويّة موزعة في مناطق قريبة من المواقع الاستراتيجية للمصالح الأميركية، وقواعد بحريّة آمنة للقطع الاميركية، اضافة الى تأمين الممرات البحرية المحيطة بالجزيرة العربية. ويضاف إلى ذلك ضرورة وجود مراكز قيادة متطورة جداً، ومراكز تنصت واستخبارات على المحيط ككل. كما ان الولاياتالمتحدة بحاجة إلى خزن عتاد مسبقاً في المنطقة كما كانت تفعل قبل الحرب الاخيرة. ولتحمي وجودها في المنطقة، عمدت اميركا إلى شن حرب سياسية استباقية على سورية، الهدف منها تثبيت النصر في العراق والعمل على تحضير دمشق للقبول بما يعدّ للقضية الفلسطينية. ولكن هل لهذا النظام الامني الاقليمي في الخليج علاقة بما يدور في افغانستان؟ الجواب هو بالايجاب، خصوصاً ان المنطقتين متواصلتان جغرافياً ولهما علاقة مباشرة بالنفط والارهاب الذي تسعى اميركا الى ضربه. ولعل أكثر ما يقلق الولاياتالمتحدة في المرحلة المقبلة هو الوضع في باكستان. فهذه دولة ساقطة في المفهوم الاميركي، خصوصاً في ذهن الكثير من المسؤولين في الادارة الاميركية الحالية، وهي تعتبر ملاذاً لعناصر "القاعدة". كما ان "طالبان" كانوا صنيعة الاستخبارات الباكستانية. فيما يبدو ان العلاقات بين الجيش والرئيس برويز مشرف ليست على ما يرام بسبب تسليم الأخير كل اوراقه للعم سام، فيما لم يحصل في المقابل على المساعدات التي كان يمنّي النفس بها، فلم تتسلم اسلام آباد طائرات "أف -16" التي دفعت ثمنها قبل فرض العقوبات عليها عام 1998، ولم تحصل على المساعدات الاقتصادية الموعودة. ويعزى ذلك الى ان واشنطن تعتقد بأن مشرف لم يقم بما يكفي للقضاء على "القاعدة" و"طالبان" بدليل الهجمات المتكررة على القوات الاميركية في أفغانستان وضبط مئات الصواريخ المضادة للطيران المهربة من باكستان إلى افغانستان. ماذا ستفعل اميركا تجاه هذا الامر؟ بالتأكيد ستجد حلاً له، ولكن بعد الارتياح إلى الوضع في العراق. والاعتقاد السائد أن الضغط الاميركي المستقبلي سيكون على الرئيس برويز مشرّف. فالسلاح النووي الباكستاني يقلق واشنطن، وهي ستعمل على مراقبته عن قرب خشية وقوع هذا السلاح في يد الارهاب. ويعتقد الخبراء في هذا الاطار ان الولاياتالمتحدة تعمل على إنشاء مثلث استراتيجي يقوم على كل من تركيا وإسرائيل والهند للضغط على العالم الاسلامي والتركيز على باكستان خصوصاً كهدف مقبل. * أستاذ محاضر في جامعة سيدة اللويزة، لبنان. عميد ركن متقاعد.