لا علاج قريباً لداء الالتهاب الرئوي الشديد الحاد "سارز". الارجح ان تلك هي الخلاصة التي ذيَّل بها علماء جامعة "ليبتشك" الالمانية اعلانهم عن العثور على "كعب أخيل" الفيروس القاتل. وتمكَّن هؤلاء من صنع نموذج كومبيوتري ثلاثي الابعاد للتركيب الجيني للفيروس. ولاحظوا نقطة ضعف يمكن استهدافها بالادوية. وتسمى هذه النقطة "بروتينيز" Proteinase، وجربوا ضدها احد ادوية الرشح، واسمه "اي جي 7088" AG7088، الذي تصنعه شركة "فايزر". واعطى الدواء نتيجة محدودة جداً. وهكذا وجد العلماء الالمان انفسهم امام وضع متناقض. فمن ناحية، وضعوا ايديهم على نقطة اختراق يمكن الدخول منها للقضاء على الفيروس. ومن جهة ثانية، فان الادوية المتوافرة لديهم لا تستطيع الدخول من هذه النقطة بالكفاية المطلوبة. وهكذا ينتظر ملايين الناس العثور على دواء شاف. وبعض اهل الصين لم يجد للوقاية سوى... شوربة الفول الاخضر! ويتداول هؤلاء وصفات فيها اللفت وجذوره، والملفوف والبصل والثوم، اضافة الى الفول. ولجأ بعضهم الى احراق البخور امام تماثيل بوذا، املاً في الشفاء، ولو على يد اساطير الاولين. ويثابر الفيروس على الانتشار، واقتحم بالامس الحصن البريطاني المكين، وقهر الاجراءات الوقائية الوسواسية التي تسود المملكة. وبعض تلك الاجراءات لامس حدود العنصرية حيال ذوي الاصول الصينية، حتى لو كانوا من حملة الجنسية الملكية الانكليزية! شيء ما مشابه لما حدث بعد هجمات ايلول سبتمبر 2001 بالنسبة الى العرب والمسلمين. شبح الانفلونزا الاسبانية وما زال انتشار الفيروس متركزاً في الصين وسنغافورة، ووَحَّدَ المرض ما فرقته السياسة. والمفارقة ان هذا الامر بالذات هو ما يثير الريبة في بعض الاذهان المسكونة بهاجس "نظرية المؤامرة". لماذا العِرق الصيني هو المُصَاب الأول؟ فحتى الاصابات خارج الصين لها علاقة بالجاليات الصينية فيها. ربما اعطى الذعر الذي اجتاح نيويورك من "المدينةالصينية" فيها مثالاً على ذلك. حدث امر مشابه في مدينة "تورنتو" الكندية، حيث توجد جالية صينية مهمة. اما في بريطانيا، فان مدارس النخبة فيها لجأت الى "عزل" مستتر للطلبة من ذوي الاصول الصينية، وذلك عبر ارسالهم الى عطل قسرية في بعض قرى الريف البريطاني. المفارقة ان صيحة الناس علت في تلك القرى بعد ان شاهدوا اصحاب الملامح الآسيوية المتميزة وقد تكاثروا فجأة بين ظهرانيهم. استعاد بعض العلماء، بتذكر لم يخل من الدهشة، ذكرى الانفلونزا الاسبانية التي اجتاحت العالم في اعقاب الحرب العالمية الاولى. تُظهِر صُوَرْ تلك الانفلونزا، الناس ورجال البوليس في الشوارع وقد ارتدوا كمامات طبية على سبيل الوقاية. ولم تحل تلك الكمامات دون موت ما يراوح بين 20و40 مليون شخص في اشهر معدودة. ولم تمنع الكمامات من انتشار "سارز" في ما يزيد على خمسة وثلاثين بلداً في القارات الخمس. والمعلوم ان "سارز" والانفلونزا يتشاركان في امور عدة. فكلاهما فيروس، وينتميان الى "عائلة" واحدة هي الفيروس الاكليلي التاجي "كورونا" Corona Virus. وكلاهما ينتقل من طريق الانفاس وما تبثه من رذاذ. ويستطيع الفيروس الموجود في الرذاذ أن يعيش لمدة يوم في حال "سارز"، اي اكثر قليلاً مما هو الحال في الانفلونزا. وفي كلا المرضين، فإن المصافحة والتجاور يعتبران من وسائل انتقال الفيروس. وفي بدايته، يسبب "سارز" اعراضاً تشبه الانفلونزا. "الضربة الكبرى": من ومتى؟ وما يثير اشد الاسئلة غرابة لدى البعض ان وباء "سارز" اجتاح العالم، في الوقت الذي كان علماء الفيروسات فيه "يترقبون" ان تضرب الانفلونزا ضربتها، وتجتاح الكرة الارضية، تماماً كما فعلت قبل نحو مئة عام! لم يكن مستغرباً ان بعضهم سارع الى الظن، في بداية انتشار وباء "سارز"، بأنه نوع جديد من فيروس الانفلونزا. وجاء توقعهم نتيجة دراسات مضنية. ولا تخلو قصة هذه الدراسات، هي ايضاً، من مزيج من الخوف والذعر والطرافة. والحال ان علماء الفيروسات دأبوا على رصد السلالات المختلفة من الانفلونزا. والمعلوم ان هذا الاخير يُغَيِّر من تركيبته الخارجية قليلاً كل عام او اكثر، وتتراكم هذه التغيرات البسيطة شيئاً فشيئاً، الى ان يصل الامر الى فيروس انفلونزا "متميِّز" تماماً، فتكون ضربته شديدة القوة. وفي عام 1999، ظن علماء الفيروسات انهم امام شبح انفلونزا مماثلة للاسبانية. كان السبب في ذلك هو...دجاج هونغ كونغ! فحينها، اصابت موجة انفلونزا طيور تلك الجزيرة وارتاب البعض في انها قد تكون مقدمة لوباء يفتك بالبشر. والمعلوم ان الانفلونزا الاسبانية جاءت من عالم الحيوان الى عالم الانسان. هل يتكرر الامر؟ بدت الاجابة صعبة. فلم يكن العلماء على علم، حينها، بالتركيب الحقيقي لفيروس الانفلونزا الاسبانية على رغم معرفتهم بأشياء كثيرة عنه. لم يكن بد من مقارنة فيروس دجاج هونغ كونغ ب"نظيره" الاسباني. من اين يمكن ان نأتي بفيروس يرجع الى عام 1918؟ دجاج هونغ كونغ يهدد الارض هنا اتجهت الانظار الى عَالِمٍ عجوز متقاعد. وبدا ان مصير العالم معلق على كتفيه! انه الاميركي جون هيولتون، الذي عمل طويلاً في صفوف الجيش، وفي الخمسينات من القرن العشرين، كتب الكثير من الابحاث عن الموجة الاسبانية. وشارك في الكثير من الابحاث عن تركيبتها. وتقاعد في مطلع السبعينات، وطالبه زملاؤه بالمشاركة في جهد انقاذ العالم. ونبش في ذاكرته ملياً فتذكر مقبرة في قرية "بيرينغ" في اقاصي الاسكا المتجمدة في طرف القطب الشمالي. لقد فني ما يزيد على ثمانين في المئة من اهل تلك القرية خلال وباء الفيروس الاسباني سنة 1918. ودفن هؤلاء في مقبرة خاصة. لا بد ان الثلج والبرودة التامة المستمرة حفظت الفيروس في نسيج تلك الجثث! لا بد من الذهاب الى الاسكا. لا بد من استخراج الجثث بحذر، واخذ عينات مناسبة للعثور على الفيروس الاسباني. وهكذا وجد هيولتون نفسه، بعد اكثر من خمس وعشرين سنة من التقاعد، في مواجهة "مهمة مستحيلة" تليق بأكثر الشباب يفاعة! ولمن يذكر، فان عام 1999، كان عاماً هجس فيه معظم اهل الارض بهاجس الفناء وتذكروا رؤيا نوستراداموس وغيره الذين توقعوا فناء الارض مع حلول عام 2000. وشارك في الذعر علماء الكومبيوتر الذين احدثوا هلعاً لا يوصف بالحديث عن "بقة الالفية" التي اشتهرت باسم "واي تو كي" Y2K. وبالاختصار، توقع علماء الكومبيوتر ان تجن كومبيوترات الارض، فتنطلق الصواريخ الذرية من مخازنها وتفجر مخزوناتها الماحقة، وان تنهار نظم الامن في المختبرات السرية للاسلحة البيولوجية والجرثومية فتنشر امراضاً وأوبئة تحصد الارواح حصداً، وان تسقط الطائرات بركابها وتنهار السدود وما الى ذلك. وفي ظل كوابيس النهايات المحتمة، وصل العجوز هيولتون الى القطب المتجمد، واحتاط بان طلب من عائلته التمَوُّن جيداً والاحتماء في منزل ريفي في ولاية "مونتانا" الجبلية، اذا فشل في مهمته او اذا ثبت ان دجاج هونغ كونغ مصاب بفيروس يشبه الانفلونزا الاسبانية... انتهت الامور الى الانفراج. قارن هيولتون فيروس الدجاج مع الفيروس المتلبث في الجثث المدفونة في ثلوج القطب. وجدهما مختلفين. نقلت ابحاثة الى المؤسسات التي تتابع الانفلونزا. وتمكنوا من صنع نموذج كومبيوتري للفيروس الاسباني. في آذار مارس من العام الحالي، توصل العلماء الى نتيجة مذهلة. افاد الكومبيوتر ان التغييرات في تركيب الانفلونزا تؤكد انها "يجب" ان تضرب ضربتها الكبرى في هذا العام بالتحديد. ولكن، بدل ذلك، ضرب فيروس "سارز"! ترى ما هي العلاقة الفعلية بين الامرين؟ [email protected]