في مقهى صغير تزين أحد جدرانه صورة الامين العام ل"حزب الله"، ويطل على كورنيش مدينة صيدا جنوبلبنان، بادرني سمير 41 عاماً الكلام بقوله انه لم يتلق المال ثمناً لذهابه إلى الجهاد في بغداد. فالأحاديث التي تناقلها اللبنانيون في الأسبوعين المنصرمين عن الأموال التي تسلمها المجاهدون تناهت إلى مسمع سمير، ما اشعره بوجوب درء المصالح المادية عن دوافع زملائه السامية في الجهاد. فالشاب الإندونيسي، على غرار من قدموا من "الأقطار" العربية والإسلامية، تولى دفع تكاليف رحلته الجوية والبرية المؤدية إلى "أرض الشهادة". وصرف سمير 17 ألف ليرة لبنانية اي ما يعادل 11 دولاراً أميركياً للوصول إلى منطقة البرامكة ضمن الأراضي السورية في التاكسي الذي استقله مع أربعة من أترابه في "التنظيم العروبي الناصري". وأقنع سمير الأتراب هؤلاء بالعدول عن الجهاد في العراق لانه ليس لهم "خبرة في القتال" نظراً لفتوة سنهم، في حين حمل سمير السلاح في الحرب اللبنانية بعد ان تلقى دورة عسكرية في الاتحاد السوفياتي السابق ولم يكن تجاوز الخامسة عشرة. وعلى الحدود اللبنانية - السورية، قال سمير للضابط المسؤول انه ذاهب لزيارة عمته في دمشق ولم يصرح عن وجهته الحقيقية على رغم إلحاح هذا الأخير بسؤاله إن كان متوجهاً إلى العراق. فهو لم يحبذ أن تسجل السلطات اللبنانية اسمه على لائحة المجاهدين. ولجأ سمير إلى حيلة مماثلة عندما "استضافته" استخبارات الجيش اللبناني في مسقط رأسه بعد رحلته الجهادية التي دامت ما يقارب عشرين يوماً. فهو نفى التزامه بالصلاة وأكد انه يحتسي "المنكر" ليتفادى اكتساب صفة "الأصولية" التي تضعه تحت مراقبة أجهزة الأمن. حذر الشيخ سمير عند عودته من الجهاد من الغرور والتباهي اللذين يفقدان المرء الثواب و"جوار حواري الجنة". ودفع التحذير بسمير، الحريص على غسل ذنوبه وغفرانها، إلى طلب إغفال ذكر اسمه الحقيقي في الصحيفة والى التحدث عن تجربته في مكان ينأى به عن معارفه وأقاربه. فعند ظهر يوم الأربعاء الماضي، اختار سمير مقهى يشبه الخيم الزراعية بجدرانه البلاستيكية. وعلى وقع أغان صاخبة، يتراقص على أنغامها شبان وفتيات يرتدين الضيق من الملابس التي تكشف عن البطن والخصر كما تملي الموضة، تكلم سمير عن اعتزازه بعروبته واسلاميته وعن فتاوى الجهاد الصادرة في لبنان وسورية وعن ذهابه لحماية عائلته الموجودة في لبنان، من الأراضي العراقية. بعدما وفى سمير بالديون المتوجبة عليه، حدد 29 آذار مارس موعداً لسفره. ولكنه اضطر إلى تأجيل الموعد يومين لأنه لم يستطع إعلام والدته التي أبكرت في الخلود إلى النوم. رفضت والدة سمير ان تمنحه رضاها قبيل ذهابه للقتال وعرضت شقيقاته الست عليه المال لثنيه عما يعتزم. ويفصح العرض هذا عن ضيق مالي قد يعاني منه سمير "خياط الستائر" الذي يستثمر مقهى لتحصيل العيش. بداية الرحلة وفي حافلة الباصات الأربعة المجانية التي نقلته من سورية إلى الأراضي العراقية أخذ المتدينون والعالمون في الدين يحثون الركاب على تصفية نياتهم بالدعاء والصلاة والتكبير. فساد الجو الديني. عند النقطة الأخيرة على الحدود السورية - العراقية حصل كل مجاهد على كيس يحتوي الجبن والحلاوة ومضاداً للالتهابات و"بنادول" مسكّن الآلام وجرى ختم جوازات السفر والتحقق من التأشيرة التي حصل المجاهدون عليها مجاناً من السفارة العراقية في دمشق. بعد ساعة ونصف تقريباً من التوغل في الاراضي العراقية أوقف القافلة مسلحون من حزب البعث ونصحوا المتطوعين بعدم التقدم لأن القوات الاميركية تقوم بإنزال على الجسر. التجأ سمير وزملاء الجهاد إلى بيوت قرية قريبة حيث أفادهم مسؤول في حزب البعث بأن ثلاثة وعشرين مجاهداً سورياً قتلوا في حافلة قبل يومين وحذرهم من إمكانية ملاقاة المصير ذاته. طلب سمير من ضابط المنطقة أن يقوم المجاهدون بتسليك الطريق أمام القوات العراقية بعملية استشهادية واقترح تزويده ثلاث سيارات تزنرها المتفجرات. حضر سمير نفسه "للاستشهاد" بقراءة الفاتحة ومشاورة شيخ. الا ان انسحاب الاميركيين بعد تفجيرهم الجسر خيب أمل سمير لانه لم يكن له فضل في ذلك. واستأنفت الشاحنات "مشوارها" على طرق ترابية متعرجة وصادفت إنزالاً جديداً للقوات "المعادية". احتمى سمير وأصدقاؤه بالبساتين لمدة ساعتين وسلكوا طريقاً فرعياً إلى الفلوجة شمال بغداد. في فندق "السدير" كان رجال الاستخبارات العراقية في استقبال المجاهدين الذين وزعوا على غرف وطلب منهم الراحة والجاهزية عند الثامنة مساء. انطلق سمير مع جموع المجاهدين العرب إلى معسكر تابع لجيش العراق النظامي حيث صودرت جوازات سفرهم. أمر العقيد المشرف على المعسكر من العرب الواصلين النوم في الخنادق بعد اختيار الواحد منهم "الآلية" قطعة سلاح التي يجيد استعمالها. وعلى أثر الغارة الجوية التي تعرضت لها أطراف المعسكر وواجهها الحرس الجمهوري بالمضادات الأرضية زار العقيد المجاهدين وطلب منهم تزويده بمئة متطوع. كان سمير من المتطوعين الذين شاركوا في "ملحمة المطار البطولية" وملأتهم أقوال وزير الإعلام العراقي السابق حماسة. فخمسمئة جندي أميركي استسلموا وحملوا الأعلام البيض بعد سماعهم جملة الصحاف السحرية "سلموا أنفسكم خلال 20 دقيقة وإلا سنحرقكم بالنار ونقطعكم شقفاً". ارتدى سمير ورفاقه من المتطوعين العرب ملابس "فدائيي صدام وعدي" واستعمل عدد منهم قاذفة "ستريلا" التي "أبكت الاميركيين الجبناء". ولم تمض ساعات قليلة حتى كان معظم المتطوعين يحمون رؤوسهم بخوذات "جنود العدو". وعلى رغم الخسائر البشرية الفادحة التي لحقت بصفوف زملاء سمير المئة الذين لم يبق منهم سوى عشرين على قيد الحياة، يعتبر سمير ان المجاهدين لم ينهزموا في المطار لأنهم نفذوا مجزرة بالأميركيين. لم تكن معركة المطار خاتمة جهاد سمير فهو اشترك في "إبادة" إنزال أميركي مؤلف من ثلاثين آلية عسكرية في منطقة المثنى في السادس من نيسان أبريل 2003. وبعد هذه المعركة سلم العراقيون المجاهدين جسر الجمهورية بالقرب من ساحة الأمة في "لب بغداد". وما لبث ان جاء المقدم في الجيش المشرف على العرب المتطوعين وأمرهم بالانسحاب والذهاب إلى الوزارية حيث يحاصر العراقيون الاعداء. يقول سمير: "أرسلنا المقدم إلى الموت الحتمي... فالأميركيون كانوا يسيطرون على الوضع والعراقيون تبخروا مع أسلحتهم". العودة وبدأت رحلة العودة والهرب. فالتجأ سمير مع زملاء ليبيين وأردنيين وسوريين إلى جامع عبد الكريم القادري حيث لم تقبل العائلات التي تحتمي فيه استقبالهم او السماح لهم بالمكوث الوقت الذي تقتضيه الصلاة. فهذه العائلات خشيت من احتمال تعرضها للعنف إن وجد الأميركيون مجاهدين عرب بين أبنائها. نجا سمير وزملاؤه من هذا المأزق بفضل شاب عراقي كردي يكره النظام العراقي والأميركيين. أوصلهم الشاب الكردي إلى قرية الرمادية التي رفض محافظ فيها استقبال المجاهدين. استأجر سمير رانج روفر وانطلق مع زملاء سوريين في طريق العودة. وعلى رغم إغلاق الحدود السورية _ العراقية من الجانب السوري نجح سمير وشلته في التسلل الى سورية في شكل غير شرعي. وفي نهاية الامر، يعزو سمير سقوط بغداد الى رفض العراقيين تسليم عاصمتهم الى المجاهدين العرب. ولا يتأسف لانه لم يحظ بالشهادة فالله كتب له ان يبقى مجاهداً "على طول" دائماً.