أطواق الحصار على العراق أخذت تتساقط أو تنفك تباعاً باستثناء الطوق الأكبر، العربي، الذي يلوح للعراقيين أن هناك من يريد تكريسه وإدامته. فقد تهاوى نظام "العائلة" الذي حز رقاب العراقيين وشل ألسنتهم أو قطعها وصادر حقهم حتى في أن يتنفسوا من دون إذن أو "مكرمة". وسقط طوق الحجْر على الرأي والكلمة والتنظيم وافرغت السجون من نزلاء أقام بعضهم فيها لنكتة تمس بشخص "القائد" أو همسة تذمر من صولات ابنه التي كان أبسط حصادها اغتصاب البنات وجدع أنوف الشبان. وزال الحظر عن إقامة مراسم عزاء على أرواح من فتك النظام بهم، لكنه منع أهلهم من بكائهم. وتراخى الطوق الأوسع، الدولي، وصارت البضائع تدخل العراق بحرية وغدا أكيداً أن نظام العقوبات سيرفع في غضون أيام، وعلى أبعد تقدير قبل الثالث من حزيران يونيو، وهو اليوم الأخير للعمل ببرنامج "النفط للغذاء". ولا شك أن مشروع القرار الأميركي في شأن رفع العقوبات يتضمن بنوداً مجحفة أو مريبة تمنع العراقيين من التصرف بثرواتهم وتدخلهم في نفق انتداب لا تبدو نهايته قريبة، إلا أن تبني المشروع، ربما بعد تعديل في صياغاته، سيفتح آفاقاً لإعادة إعمار العراق وتأهيل اقتصاده وتوفير فرص عمل وتخفيف بعض العبء عن العراقيين. لكن مجلس الأمن عاجز عن اصدار قرار يلغي "الحصار العربي" الذي يشعر العراقيون بأنه فرض عليهم، إما لجهل بواقعهم أو لتحقيق مآرب نفعية انانية أو بسبب متحجرات فكرية لا تأخذ بالحسبان وقائع العصر ومستجداته. فالعراقيون محاصرون عربياً منذ ثلث قرن وكان العرب طوال هذه الفترة يصمّون السمع عن أنين المعذبين في أقبية الأمن العامة ولا ينتصرون لشعب مسلوب الحرية، بل يهتفون بحياة "حارس البوابة الشرقية" ويغذّون حربه على إيران التي كان العراقيون حطبها والمنطقة كلها ضحية لها. وعندما قرر "فارس الأمة العربية" غزو الكويت، حاول بعضهم تعبئة الشارع العربي لمصلحة "الوحدة القسرية"، واعتبروا صدام "بسمارك العرب" والتمسوا له الأعذار تارة بالحديث عن "توريط" أميركي وأخرى بالكلام على "عناد" خليجي من دون أن يضعوا الاصبع على الموطن الحقيقي للبلاء. وحينما أحرق السلاح الكيماوي أطفال حلبجة وداست دبابات صدام أجساد المنتفضين عام 1999 سمع العراقيون أصواتاً تهلل لضرب "الغوغاء" وقصف مراقد الأئمة، باعتبار ان حاكم العراق يتصدى ل"فتن" طائفية أو انسلاخات قومية. وعلى رغم أن العرب تباروا في ابداء "تعاطفهم" مع العراقيين المعرضين للحصار الدولي، إلا أن دولاً عربية عدة أوصدت أبوابها بإحكام أمام العراقيين ربما امعاناً في "اكرامهم". وبلغ الحصار العربي أقصى مداه ابان الحرب الأخيرة وبعدها، حيث ظل الصوت العراقي غير الصدّامي مطوقاً وتبارت أجهزة الإعلام في توفير المنابر لمن كانوا في السلطة وحولها ليبرروا أو يبثوا السموم فيما ظلت الأصوات المخنوقة سابقاً تمنع أو تكبت. ونشرت صحيفة عربية رصينة كاريكاتيراً ل"مدرسة العراق" يدخلها الصغار من باب ليخرجوا من الباب الآخر بالغين… سراقاً، وبذا ألغي شعب أنجب شعراء ومفكرين وأطباء وعلماء أفذاذاً، وغدا مجرد زمرة من اللصوص. وتعيد الفضائيات بث صور لجائع سرق كرسياً، متناسية عصابة سرقت وطناً كاملاً، وعلى رغم توثيق أكبر عملية سطو في التاريخ غدا متاحاً من خلال الوثائق وشهادات الناس، لكن ضاربي الحصار يبحثون عن جرح ليضعوا الاصبع فيه. ويستغرب العراقيون عندما يسمعون معلق قناة عربية مهمة وهو يتحدث عن "مبالغات" في عدد ضحايا صدام، ويؤكد أن من قتلوا كانوا "مئات فقط". طريف أن تُسمع هذه ال"فقط" على لسان محلل "يجهل" ان زهاء أربعة ملايين عراقي قضوا بسبب الحروب وعمليات القمع التي ادارتها "الديكتاتورية الوطنية"… لكن، يبدو، أن الشاعر الجواهري حينما قال إن "جراح الضحايا فم" لم يكن يضع في حسابه أن الحصار العربي سيضع جدراناً صماء تكتم صرخة الجرح العراقي.