ليس ثمة ظلم أفدح من أن يتهم من قاتلوا ببسالة ودافعوا عن شرفهم العسكري وأدوا واجبهم الوطني بأنهم "خانوا" أو استسلموا أو سلموا بغداد. فعندما صدم بعض المثقفين والإعلاميين العرب لسقوط بغداد، لم يرجعوا الى مسار الحرب منذ بدايتها ليعرفوا كيف جاءت نهايتها، بل استسهلوا البحث عن تفسير في دهاليز المؤامرات. وأبى من سبق أن بشروا بصمود نظام صدام حسين أن يراجعوا موقفهم، وعز عليهم قبول افتراض هروبه، فأمطروا القوات المسلحة العراقية بوابل من الاتهامات، بدءاً من أنها لم تقاتل بشجاعة وصولاً إلى أن بعض قادتها استسلم منذ البداية وبعضاً آخر "خان" في النهاية، ومروراً بأن ضباطها وجنودها هربوا من الميدان أو جبنوا عن أداء الواجب المكلفين به. قيل، مثلاً، إن النظام هدد بتعليق الغزاة على أسوار بغداد، ولكن تبين أنها بلا جنود يحمونها! وأتاح هذا الكلام لمرشد الثورة الإيرانية آية الله خامنئي أن يقول بملء الفم يوم 18 نيسان أبريل إن - ما أسماه - "الاستسلام المخزي للجيش العراقي" يمثل عاراً أبدياً ويرجع الى افتقاره للإيمان! وهكذا، فبدلاً من تقدير شجاعة هؤلاء الجنود الذين كانوا ضحية سياسة وضعتهم في أصعب موقف يمكن أن يواجهه جيش يدافع عن وطنه، عمد بعضنا الى تصوير صشاحب هذه السياسة كما لو كان هو ضحية لخيانة بعض قادة جيشه!. واقترن ذلك بشيوع اعتقاد، لا أساس له، في أن القوات الغازية واجهت مقاومة شعبية في جنوبالعراق. وهذا أمر لم يحدث، ولا يمكن تصوره. فالشعب المسحوق لا يستطيع أن يقاوم، ولا يرغب، بخلاف العسكريين الذين يدافعون عن أرض الوطن في كل الظروف وبغض النظر عن الأوضاع السياسية. وما أشدها من ظروف تلك التي قاتل فيها الجيش العراقي بشقيه النظامي والحرس الجمهوري ضد قوة تمتلك تفوقاً نوعياً هائلاً وسيادة جوية كاملة. ومع ذلك أدى كثير من وحدات هذا الجيش أداء جيداً رغم أنه لم يحصل على معدات جديدة أو حتى قطع غيار يعتد بها على مدى أكثر من 12 عاماً في ظل الحصار الخانق. كما لم يخرج منه ضابط لحضور دورة تدريب في دولة متقدمة والاطلاع على مستجدات نظم التسليح والاستراتيجية العسكرية. فكان جيش العراق ضحية نظام زج به في ثلاثة حروب منهكة خلال ربع قرن وتسبب في حصار أضعف قدراته، ثم وقف رئيسه يحثه على مقاتلة الغزاة ب"الخناجر والسيوف"! وقبل أن ننظر في تناقضات افتراض "الخيانة" وتسليم بغداد، ليتنا نعود في عجالة الى ما حدث في مسرح العمليات اعتماداً على المعلومات وليس على الروايات وحكاوي المقاهي. فقد قاتلت وحدات الجيش النظامي ببسالة في معارك الجنوب، رغم أنها كانت أقل تسليحاً وتدريباً من بعض فرق الحرس الجمهوري. ويكفي ما نشرته "الحياة" في تغطيتها اليومية للحرب دليلاً على شجاعة هذه الوحدات، التي قام الرئيس العراقي المخلوع بتكريمها في خطابه التلفزيوني الذي تم بثه يوم 25 آذار مارس. وكان في مقدم هذه الوحدات الفرقة الحادية عشرة مشاة التي أبلت أحسن بلاء في الدفاع عن مدن جنوبية عدة، واللواء 45 التابع لها ومعه فوج من خفر السواحل قدما نموذجا فذا في الدفاع عن بلدة وميناء أم قصر. ولا ننسى أيضاً الفرقة السادسة المدرعة والفرقة الثامنة عشرة والفرقة الآلية الميكانيكية الحادية والخمسين. وكلها أدت أداء جيدا في محيط البصرة والناصرية وحتى النجف الأشرف وأعاقت سقوط مدن الجنوب لفترة تعتبر طويلة في ظل ميزان قوى شديد الاختلال. وحين كانت القوة النارية الهائلة لقوات الغزو تضعف الفاعلية القتالية لإحدى هذه الفرق، كان بعض جنودها يعيدون تجميع صفوفهم في مجموعات صغيرة تتحول جيوباً للمقاومة الى جانب الجماعات شبه العسكرية من "فدائيي صدام" و"ميليشيا البعث". وكثيراً ما فوجئت القوات البريطانية بقوة مقاومة هذه المجموعات في مناطق كانت تعتقد أنها باتت تحت السيطرة. ونقلت "الحياة" في 22/3 - مثلاً - عن مصادر عسكرية بريطانية اعترافها بضراوة القتال الذي يخوضه الجيش العراقي في البصرة والناصرية. فقد تحصن عدد لا يزيد على ألف جندي في داخل البصرة وصمدوا لأكثر من عشرة أيام، مدعومين بالمجموعات الصغيرة التي شكلها جنود آخرون مع الميليشيات شبه العسكرية. وقامت هذه المجموعات بنصب مكامن للقوات البريطانية والأرتال الأميركية المتجهة شمالاً. كما زرعت ألغاماً على الطرق ووضعت شراكاً وفرضت على القوات البريطانية تغيير مواقعها كل ليلة. ولكن قدرات هذه المجموعات أخذت في التراجع لعدم تمتعها بمساندة شعبية، بعكس ما قيل عن أن المقاومة كانت شعبية. فلو أن حداً أدنى من مساندة الشعب لها توافر، لربما تغير الوضع كثيراً. أما فرق الحرس الجمهوري التي تمركزت في طوق الدفاع الرئيسي عن بغداد، وخصوصاً في منطقة الفرات الأوسط، فقد قاتلت الى أقصى مدى تسمح به امكاناتها في ظل قصف شديد العنف وفي غياب أي غطاء أو دفاع جوي. وبرزت من بينها فرقة "المدينةالمنورة" التي كان أداؤها فخراً للعسكرية العربية وللاسم الذي تحمله. فقد تعرضت هذه الفرقة، التي تمركزت غرب مدينة كربلاء وكانت حلقة الوصل الأهم في الدرع الدفاعية عن بغداد، لقصف لا قبل لأي قوة به منذ اليوم الأول في الحرب. ومع ذلك أخفق هذا القصف في اختراق مواقعها لأيام متوالية. ونقلت "الحياة" فى 26/3 عن مراسل لشبكة "سي ان ان" رافق القوات الأميركية، أن فوج مروحيات "اباتشي" وقع في "عش دبابير" تمثل في وابل من نيران خلال اغارته على مواقع فرقة "المدينة"، وأن كل ما استطاع الطيارون فعله هو الدفاع عن أنفسهم. واعترف الميجر جنرال ستانلي ماك نائب رئيس العمليات في هيئة الأركان الأميركية، في 26/3، بأن المقاومة التي أبدتها هذه الفرقة اتسمت بالشراسة. وحاولت القوات العراقية التحايل على عجزها عن القيام بعمليات استطلاع جوي في ظل سيطرة قوات التحالف على السماء بشكل كامل. فلجأت الى طريقة بسيطة مبتكرة وهي إرسال طائرات شراعية ذات محركات خفيفة تحمل أجهزة استطلاع فوق الخطوط الأمامية للقوات الأميركية خلال فترة توقفها الموقت في الأسبوع الثاني للحرب. وكان واضحا للعارفين بتفاصيل هيكل قوات الحرس الجمهوري أن فرقة "المدينة" المدرعة هي حجر الزاوية في هذه القوات ، وليس فقط في الفيلق الذي ضم معها فرقتي "حمورابي" و "نبوخذ نصر". ولذلك تركز القصف الأكثر عنفاً ضدها لإرغامها على الانفتاح العملياتي الذي حاولت تجنبه كي لا يسهل اصطياد دباباتها وآلياتها. ولكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. فحتى يوم 26/3 كانت التقديرات الأميركية تشير الى أن فرقة "المدينة" ظلت متماسكة رغم قتل أكثر من سبعمئة من جنودها. ونجحت في تكبيد القوات الأميركية خسائر كبيرة لم يعلن حجمها بعد من دبابات "ابرامز" وعربات "برادلي". ولكن بعد ذلك أخذت مقاومتها تضعف تدريجيا. وأدى ذلك إلى دفع فرقة "بغداد" وقوات أخرى كانت موجودة جنوب العاصمة الى النزول جنوبا في محاولة لوقف تقدم القوات الأميركية عند مدينة الكوت، الأمر الذي أضعف الطوق الداخلي للدفاع عن بغداد على النحو الذي وضح عند وصول هذه القوات إليها. وازدادت هشاشة هذا الطوق عندما حصدت معركة مطار بغداد صدام سابقاً القسم الأكبر من قوات فرقة "النداء" التابعة للحرس الجمهورى. ولكن لم تتوافر بعد معلومات كافية عن هذه المعركة وحجم القوات العراقية التي تم تدميرها خلال محاولة استعادة المطار. وربما لم يستطع كثيرون تخيل الأثر المترتب على قوة وكثافة نيران القصف الجوي المركز على قوات الحرس الجمهوري. فكان أي تحرك لهذه القوات من مواقعها التي تحصنت فيها يزيد فاعلية القصف الذي استهدفها. ولهذا السبب، لم يتمكن نحو نصف القوات التي كانت متمركزة في شمال وغرب العراق من النزول جنوباً باتجاه بغداد، الأمر الذي أخرجها فعليا بدرجة أو بأخرى من مسرح العمليات وجعلها نهباً لتراجع في معنوياتها كلما وصلتها أخبار عن تقدم قوات الغزو نحو العاصمة. ولذلك صار سهلا على قوات "البشمرجة" الكردية المدعومة بقوة أميركية محدودة السيطرة على بلدان ومدن الشمال، بخلاف ما كان عليه الحال في مطلع الحرب. فحتى يوم 29/3 لم يكن أي من الجنود العراقيين في الشمال استسلم، بل نقل مراسل وكالة الأنباء الفرنسية عن مسؤول عسكري كردي أن عناصر من حزب "الاتحاد الوطني" حاولوا التفاوض مع ضباط عراقيين من أجل الاستسلام، ولكنهم تعرضوا الى اطلاق النار عليهم. ولم يحدث استسلام لوحدات عراقية إلا بعد أن تأكد عدم جدوى القتال واستحالة إطالة أمده الى أن يتصاعد الضغط الدولي على واشنطن ولندن. وحتى، في هذه الحال، كان حجم الوحدات التي استسلمت أقل من تلك التي ترك جنودها الميدان في هروب اضطراري حين وجدوا أنه ليس ثمة خيار آخر إلا الاستسلام. ولكن، على رغم أننا لا نمتلك بعد تقديرات رقمية وثيقة، فالمؤشرات الأولية تفيد أن من بذلوا أرواحهم في القتال لا يقل عددهم عمن هربوا. أما الذين استسلموا فهم الأقل عددا. والأرجح أن الذين أساؤوا الى الجيش العراقي سيفاجئهم حجم شهدائه حين تظهر أعدادهم مع الوقت. وعندئذ سيسقط كليا ادعاء "الخيانة" و "صفقة تسليم بغداد". فهذا ادعاء ينفيه افتراض أصحابه أن صدام حسين نجا من القصف الذي استهدف مقر اجتماع كان يرأسه في حي المنصور قبل 48 ساعة على سقوط العاصمة. فافتراض أن صدام مازال حيا ينفي "صفقة الخيانة" لأن مثل هذه الصفقة لا يستقيم إلا إذا شمل قتله أو تسليمه أسيراً. وفضلا عن هذا الضعف البنائي الذي ينطوي عليه ادعاء حدوث "خيانة" ، فإن سقوط بغداد جاء نتيجة مقدمات يستطيع العقل ادراكها عبر متابعة ما حدث في مسرح العمليات العسكرية يوما وراء يوم . فقد قاتلت وحدات كبيرة في القوات المسلحة العراقية ببسالة وشجاعة وكان أداؤها مشرفا للعسكرية العربية التي تمثل حصن الأمة الحصين في غياب مجتمع مدني يعتمد عليه، وفي ظل ركون قسم ليس صغيراً منه الى التفكير الخرافي الذي ينتج روايات من نوع تلك التي تحمل على أداء جيش العراق وتسيء الى الأمة كلها وتزيدها ضعفاً على ضعف. * نائب مدير مركز "الاهرام" للدراسات السياسي.