في الثالث من آب اغسطس 1914 حين اعلنت ألمانيا الحرب على فرنسا، مفتتحة بذلك، ب"الحرب العالمية الأولى" التي ستُعتبر، حتى زمنها، اكبر مجزرة أحاقت بالبشرية جمعاء، استبدت الحماسة بعدد كبير من الفنانين والكتّاب الألمان، من الذين كان بعضهم يعتبر نفسه قبل ذلك مسالماً ومعادياً للحروب ولكل ضروب القتل. وكان من بين اكبر الرسامين الذين لم يخفوا تأييدهم لتلك الحرب، التي اعتبروها حرباً قصيرة تأديبية لا أكثر، اوغوست ماكي وفرانز مارك، وحتى فنانون يساريون من أمثال اوتوديكس وجورج غروش، ستكون لهم لاحقاً، صولات وجولات ضد النازية خصوصاً وضد الحرب عموماً. امثال هؤلاء كانوا، إذاً، عند الشهور الأولى للحرب، مؤيدين لوطنهم متحمسين. ولاحقاً سيموت بعضهم خلال تلك الحرب نفسها مجنداً على الجبهة ماكي، مثلاً يومها كان هناك واحد فقط جهر برأي معاكس، حتى وإن كان آخرون رأوا رأيه من دون ان يصرحوا به. وكان هذا الفنان ماكس بيكمان، الذي في الوقت نفسه الذي راح يُعمل فيه ألوانه وأقلامه رسماً للحرب ولأهوالها، مذكراً بأن الحرب ليست، اولاً وأخيراً، سوى مكان للقتل والتدمير، كتب يقول بشكل مبكر جداً "إن هذه الحرب التي يعلنها بلدنا، إنما هي اكبر تعاسة قومية يمكن ان تصيبنا"، هذا على رغم انه تفادى ان يحكم على الحرب حكماً أخلاقياً، معتبراً إياها "واحداً من سمات الحياة، مثل المرض والحب وما شابه "من تلك الأمور التي تكشف اعمق ما لدى الإنسان من احاسيس ومشاعر". ومن هنا، لئن كان بيكمان عبّر عن الحرب، فإنه لم يشأ من تعبيراته الفنية تلك ان تكون مجرد مواعظ او تسجيل للمواقف - السلمية او غير السلمية - بل شاء، كما كان فعل في لوحات اخرى له لا تمت الى الحرب بصلة، ان يعبّر عن الجانب المأسوي في الحرب، أراد ان يصور "مواقف الحدود القصوى حتى يتمكن من ان يدخل عميقاً وعميقاً جداً في اغوار الإنسان" بحسب تعبير الناقد الألماني رينهاردت شبيلر. وإذا كان هذا يتجلى في الكثير من الأعمال التي حققها بيكمان في ذلك الحين، فإنه يتجلى خصوصاً في رسمين له صغيري المساحة رسمهما، خلال الشهر الأول لاندلاع الحرب، أولهما عنوانه "إعلان الحرب"، اما الثاني والذي نحن في صدده هنا فعنوانه "العمل" ولا يزيد عرضه على 9،28 سم وارتفاعه عن 6،38 سم وهو يوجد الآن ضمن مجموعة خاصة في ألمانيا. والحال ان اهمية هذه اللوحة الصغيرة مزدوجة، من ناحية كونها اوجدت التعبير المبكر عن الحرب كما رآها فنان رهيف الحس، التفت دائماً الى فجائعية الشرط الإنساني، وثانياً، لكونها فتحت الطريق امام اسلبة مشاهد الحرب وفوضى المدن، كما سنجد تعبيرها لاحقاً في لوحات مشابهة حققها فنانون ألمان آخرون وعرفت دائماً كيف تجد مكانها في تاريخ فنون القرن العشرين. ومن هؤلاء الفنانين ديكس وغروش نفساهما. في لوحة "العمل" كان من الواضح ان بيكمان يبتغي ان يصور بشكل يحفل بالمرارة والرعب، ذلك الإبهار الذي تمارسه الحرب على الإنسان - عليه شخصياً - موصلة إياه، ودائماً بحسب الناقد شبيلر، الى حدود الرغبة في التعبير عن الدمار الذاتي، وهو امر قاله بيكمان بنفسه في الكثير من نصوصه ورسائله، اذ نجده يقول في رسالة بعث بها الى زوجته من الجبهة - إذ كان جنّد هو الآخر، مثل غيره من الألمان: "تماماً كما انني ذهبت، طواعية او من دون إرادة، الى اقصى درجات مشاعري في الخوف وفي المرض، في الحب وفي الكراهية، هاأنذا احاول ان افعل الشيء نفسه الآن مع الحرب". كما انه في رسالة تالية الى زوجته، ومن الجبهة ايضاً يكتب قائلاً في مجال وصفه لمشاعره امام الحرب والموت: "ان المرء ليشعر بما قد يكون، تقريباً، احساس لذة ضارية وشيطانية وهو يجد نفسه واقفاً ما بين الموت والحياة". والحال ان هذا المزيج من الرعب والافتتان، هذا التأرجح بين الموت والحياة، هذا الشعور باللذة الشيطانية، وجد تعبيره الكافي في هذه اللوحة، حيث يبدو كل شيء مختلطاً بكل شيء: البشر، اشلاء البشر، القنابل، النيران، الموتى والأحياء، النظرات المرعوبة والنظرات المندهشة، الهرب والإقدام. إنه الجنون الشيطاني لحال بشرية تبدو في لحظتها عصية على الفهم. والفوضى العارمة التي كان لا بد لها ان تظهر على ذلك الشكل الفوضوي لكي تعبر عن ذلك الجنون الإنساني الذي يصل الى لحظة لا يجد معها غير الموت ملاذاً من الرعب. واليوم إذ نقارن اعمال بيكمان المبكرة بعض الشيء تلك بأعماله اللاحقة، ولا سيما منها سلسلة "يوم الحشر" التي حققها بالألوان، هذه المرة، انطلاقاً من تجربة موت مشابهة خلال الحرب العالمية الثانية، سنجد ان كل الفجائعية التي طبعت اعماله كلها، إنما تجد جذورها في تلك التجربة الحياتية ثم الفنية التي عاشها بنفسه خلال الحرب، خصوصاً ان عمله خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، المبكرة، كمرض، حدد تعامله بشكل اكثر وضوحاً مع شرط الجنون والرعب الإنسانيين اللذين شاء التعبير عنهما. وماكس بيكمان الذي ولد في لايبتسغ العام 1884، ودرس الفن في فايمار بين 1900 و1903، استقر في برلين بعدما امضى عاماً دراسياً في باريس، وفي العاصمة الألمانية انضم الى حركة فنية هي حركة "انشقاق برلين" التي طبعت اعمالها منذ البداية سمات مأسوية مستقاة من تاريخ طويل من الفن الفجائعي يبدأ بأعمال هيرونيموس بوش ليصل الى أقنعة جيمس انسور وأقنعة ميتيه. والحال ان بيكمان لم ينتظر اندلاع الحرب الأولى حتى يجد في الموت والجنون موضوعاً له وأسلوباً لعمله. حتى وإن كانت سنوات الحرب الأولى ستظل محفورة في ذهنه. وبعد الحرب توجه بيكمان الى فرانكفورت حيث درّس الرسم لسنوات، لكن ضروب الاضطهاد النازي اجبرته على ترك وظيفته والهرب الى برلين اولاً ومن ثم الى باريس فأمستردام. وهو في العام 1947 عاد وترك اوروبا الى الولاياتالمتحدة حيث اقام بقية سنوات حياته. ولئن كان فن بيكمان انطبع اول الأمر بنوع مأسوي من الانطباعية، فإنه بعد الحرب الأولى سرعان ما اصبح اكثر شخصية وذاتية، حيث غالباً ما صار يحصر شخصياته في مساحات ضيقة داخل اللوحة ويركز على تحديد الزوايا والخطوط، مقترباً حيناً من التعبيرية وأحياناً من التكعيبية، ولكن ضمن ابعاد اتسمت دائماً بعدوانية وحِدّة لونيتين، عبرتا دائماً لديه عن بعد نقدي اجتماعي، ولا سيما في الكثير من اللوحات الثلاثية التي برع في رسمها ومنها "الرحيل" و"الآرغونوت"... وبيكمان الذي رحل في العام 1950، اعتبر متفرداً على اي حال بالنسبة الى القسم الأكبر من لوحاته، ولا سيما تلك التي اختلطت فيها السخرية المطلقة بالتعبير عن هشاشة النوع البشري، وخصوصاً منها لوحاته الذاتية التي رسم العشرات منها.