"بيكي" فتاة بريطانية في الرابعة عشرة من عمرها. لا تختلف كثيراً عن بقية المراهقات والمراهقين الذين نراهم في شوارع لندن وقت الخروج من المدارس. تضحك بصوت عال، وحين تغضب تتحدث بصوت عال، وحين تسمع الموسيقى تسمعها بصوت عال. تبذل مجهوداً كبيراً ليعكس مظهرها مشاعرها الثورية المعترضة على قيود الاهل وقوانين المدرسة، تعجز عن حصر عدد ثقوب الاقراط في جسدها. فهناك اثنان في الانف، وثمانية في الاذنين والبقية في انحاء اخرى. ويؤكد المحيطون بها ان حياتها، الى ايام مضت، كانت تدور حول الاحذية الرياضية وماركاتها وتتبع اخبار فرقة "شوغار بيبز" المراهقة، وتدخين السجائر التي تأخذها من حقيبة والدتها خلسة، في الحمام. لم تكن لها ميول او اهتمامات سياسية لا من قريب ولا بعيد، تماماً كأنباء جيلها كله لا يهتمون بالسياسة مهما كانت اطوارها وأشكالها، مفضلين عليها الملابس الغريبة والموسيقى العجيبة. تقول: "المرة الوحيدة التي اتذكر انني جلست اتابع نشرات الاخبار طواعية كانت في احداث 11 ايلول سبتمبر، لكنني احسست انني اشاهد فيلماً مرعباً، من دون ان اكون طرفاً فيه". وتقول والدتها: "الحدث السياسي الكبير الوحيد الذي شهدته بيكي عن قرب كان حرب تحرير الكويت، لكنها كانت في الرابعة من عمرها، ولا اعتقد ان تلك الاحداث علقت في ذهنها". مدرسة بيكي تقع في منطقة اسمها ادمنتون في شمال لندن. وهناك شهد عدد كبير من المدارس الثانوية احداثاً متلاحقة منذ اندلاع الهجوم على العراق. فقد امتنعت اعداد كبيرة من الطلاب والطالبات عن الذهاب الى المدارس، للمشاركة في تظاهرات ضد الحرب سواء امام المدارس، او امام مبنى البرلمان البريطاني. وقد اقلق هذا الوضع نظام المدارس وعدداً من المدرسين، وان ابدى عدد غير قليل منهم تضامناً مع رغبة الطلاب في التعبير عن مشاعرهم الرافضة للحرب. ويوم الاربعاء الماضي 19 آذار/ مارس كانت بيكي تقف على الرصيف المواجه للبرلمان البريطاني تحمل لافتة تقول: "ليس باسمي، لا تهاجموا العراق". وعلى ربطة العنق التي ترتديها ضمن الزي المدرسي، لصقت ورقة بيضاء كتب عليها بالأسود الغامق: "لا للحرب، اخرج يا بلير". لم تكن بيكي وحدها، بل وقف معها الآلاف من المراهقين والمراهقات، بينهم جيسيكا 14 عاماً. والدتها صحافية، ووالدها منتج تلفزيوني. ويبدو ان والدتها كانت فقدت الأمل تماماً في ان تهتم ابنتها المراهقة بأي احداث تخرج عن اطار فرق الروك المزعجة، وتسريحات الشعر اللافتة، وألوان الماكياج الزاعقة. لكن المعجزة حدثت حين سألت جيسيكا والدتها عن رد فعلها لو لم تذهب الى المدرسة يوم اندلاع الحرب لتتظاهر امام البرلمان ضد الحرب. راودت الشكوك الأم من ان ابنتها تبحث عن مبرر وجيه للهروب من المدرسة. لكن جيسيكا من النوع الملتزم، كما تؤكد والدتها. وفي النهاية، اتفقت الأم والابنة على ان تفكر الاخيرة في الامر برمته، وتزن محاسن القدرة على التعبير عن النفس امام مساوئ العقاب الذي توعد به ناظر المدرسة. وفي الصباح، وجدت الأم رسالة صغيرة من جيسيكا تقول فيها: "الحرب؟ لا. سأذهب الى المدرسة لأتعلم وتتسع مداركي، علّي اكون يوماً في حكمة بوش وشجاعة بلير". وحين هاتفتها والدتها على الهاتف المحمول كعادتها وقت راحة الغداء، ردت جيسيكا، لكنها لم تسمع والدتها جيداً لأن اصوات زملائها كانت عالية حولها وهم يصرخون: "لا دماء من اجل النفط". هذه الصحوة في عقول مراهقي بريطانيا وقلوبهم لم تقتصر على طلاب شمال لندن فقط، ففي منطقة "توتنغ" في جنوب غربي لندن، نظم طلاب احدى المدارس احتفالية في اليوم الذي تسمح فيه ادارة المدرسة بأن يغادروها مبكراً. تميزت الاحتفالية بالعفوية التي كانت افضل ما فيها. صعد البعض الى مسرح المدرسة يطرح افكاره بصوت عال: ماذا عن فلسطين؟ هل ما يحدث شكل جديد من اشكال الاستعمار؟ هل ستلعب محكمة العدل الدولية دوراً في الكارثة؟ ولأن في توتنغ عدداً كبيراً من ابناء الجاليات المسلمة، اختار البعض ان يوضح لزملائه المقصود من مفهوم "الجهاد" في الاسلام، والتأكيد على انه ليس موازياً للارهاب. جموع المراهقين في لندن ليست كلها مناهضة للحرب لأسباب انسانية، لكن هناك من يفضل ان يلحق بمباراة كرة القدم الدائرة، او تمرين السباحة الاسبوعي. وهناك من يعتقد ان الرئىس العراقي صدام حسين سيضغط على زر تنطلق منه الاسلحة الكيماوية والبيولوجية على سكان لندن. التلفزيون البريطاني يبث يومياً برنامجاً للأطفال والمراهقين الصغار اسمه "ميلك شيك". وهو منذ اندلاع الحرب يخصص نحو خمس دقائق للاجابة عن أسئلة مشاهديه الصغار: "هل سيموت كثيرون في هذه الحرب؟"، "متى ستنتهي الحرب؟"، "هل ستحدث مواجهات بين المسلمين وغير المسلمين في بريطانيا؟". أسئلة جادة وذكية، لكن الردود تأتي من الكبار مبهمة وغير مقنعة. ابن جارتي، وهو في السابعة من عمره، يهرع عادة من المدرسة ليرابط امام قناة "سي بيبيز" المخصصة للأطفال. لكنه حالياً يعسكر امام شاشة "بي بي سي نيوز" وهي مخصصة للأخبار. ويتزامن ذلك، وانتقال الكاميرات الى بغداد التي يكون قد حل عليها الظلام تنتظر انطلاق صفارات الانذار ليبدأ القصف. وسأل الطفل والدته: "يبدو انها مدينة جميلة. فلماذا يقصفونها كل ليلة؟". وتبدأ جارتي في البحث عن تفسيرات تناسب سنه، فتقول: "لأن هناك رجلاً شريراً يجب ان يجدوه، ويتخلصوا منه". ويسألها مجدداً: "وهل سيقصفون كل المناطق التي يعيش فيها رجال اشرار؟".