Daniel Litvin. Empires of Profit. إمبراطوريات الربح. Texere, London-New York. 2003. 340 pages. في الجدالات الاخيرة حول ما يسمى ب"العولمة" ونتائجها بالنسبة الى البلدان النامية، غالباً ما ينسى المرء ان الشركات المتعددة الجنسية، التي ربما كانت العوامل الأكثر تأثيراً في هذه العملية، ليست في الحقيقة ظاهرة حديثة العهد. فجذورها ترجع الى بدايات توسع الدول الغربية الى قارات اخرى وتطور الرأسمالية الحديثة. وتتمثل ميزة كتاب دانييل ليتفين في انه يقدم بعداً تاريخياً لقضية اصبحت اليوم واحدة من اكثرها سخونة وتسييساً، وهي على وجه التحديد مشاركة الشركات المتعددة الجنسية في الحياة السياسية للمجتمعات التي تعمل فيها، والطريقة التي تحاول بها ان تدير الازمات السياسية، بالاضافة الى المعضلات الاخلاقية التي تواجهها. إنه كتاب يتداخل فيه عرض نصوص واضحة ومثيرة عن انقلابات ومؤامرات واستراتيجيات لزيادة ارباح شركات كبرى، مع تحليل مؤثر للظروف التاريخية التي تحيط بهذه الاحداث. ويختار ليتفين ان يقدم لنا روايات مفصلة عن حوالى عشر من الشركات المتعددة الجنسية الاقوى نفوذاً التي عملت، وما تزال، في ازمنة وامكنة مختلفة، ويمكن النظر اليها، حسب قوله، كمثال على توجهات اوسع نطاقاً. يبدأ الكتاب بعرض قصتي شركة الهندالشرقية وشركة جنوب افريقيا البريطانية اللتين، على رغم انهما لم تكونا اولى الشركات المتعددة الجنسية في عصر الامبراطورية، تبرزان كمثالين استثنائيين في ما يتعلق بمستوى نفوذهما. فيصف ليتفين اولاً كيف تخلت شركة الهندالشرقية عن مساعيها، بين 1600 و1750، للانخراط في التجارة السلمية، وكيف وجدت نفسها بعدئذ متورطة الى حد بعيد في الحياة السياسية المحلية. لم يكن تكثيف التورط في المشهد السياسي المحلي خطة استراتيجية ابتُكرت في مقر الشركة بلندن، بل ان فشل الاخير في التحكم بالتطورات على الأرض هو الذي ادى الى انجرارها الى الصراعات السياسية في الهند. ومنذ تلك اللحظة فصاعداً انشأت الشركة جيشاً خاصاً بها وشرعت بالاستيلاء على الاراضي في شبه القارة الهندية. وبمرور الوقت، تحولت عملياً من مشروع تجاري الى جهاز شبه حكومي بسط حكمه على الهند، ما أثار بدوره غضب السكان المحليين وأدى الى تمرد في 1857 أنهى حكم الشركة، وإن لم ينه الحكم البريطاني في الهند. العجز ذاته، ليس عن السيطرة فحسب بل حتى عن ادراك منظور السكان الاصليين، وسم حكاية المشروع التجاري الذي انشأه سيسيل رودُس، شركة جنوب افريقيا البريطانية، التي قامت في غضون عشر سنوات بغزو او استقدام سلطة الامبراطورية البريطانية لتُفرض على منطقة تشمل في الوقت الحاضر بوتسوانا وزيمبابوي وزامبيا ومالاوي. وفي هذا المثال، انغمس مدراء الشركة في السعي وراء التوسع السريع، الذي تميز بمواقف عنصرية متطرفة وممارسات وحشية وسحق ثقافات اصلية، لدرجة انهم اخطأوا تقدير ردود فعل السكان المحليين والتقسيمات المحلية للسلطة. وادت هذه المواقف الى التمرد في 1896 الذي ساهم، على رغم انه سُحق بفضل التفوق العسكري للشركة، في تحفيز حركات التحرر الوطني الافريقية في وقت لاحق في القرن التالي. وسعت اميركا في اواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الى دور خاص بها في اقامة امبراطورية ما وراء البحار، على رغم انها اختارت ان تركز اهتمامها على اماكن اقرب اليها مما فعلت السياسة البريطانية. وشمل نطاق عمل "يونايتد فروتس"، شركة الفاكهة المتعددة الجنسية والاميركية العملاقة التي نشطت في تجارة الموز، بلداناً متنوعة على مدى سنين كثيرة، لكنها احتفظت بسمعة سيئة الصيت لتورطها في انقلاب غواتيمالا في 1954. ويصف ليتفين كيف اندفعت الشركة لدعم انقلاب اطاح حكومة منتخبة ديموقراطياً ولاعادة تثبيت حكم استبدادي وتمهيد الطريق لحرب اهلية مزقت البلاد طيلة عقود. كما يفحص دور وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي أي آي في هذه العمليات وتورطها العميق في الانقلاب. وهنا تُفسّر الاحداث جزئياً عبر افتراض المؤلف بان الثقافة المهيمنة للشركة عزلتها عن المجتمع المحلي، ما حال دون ادراك واضح للوضع يستند الى المصالح البعيدة المدى للشركة. ويعالج الكتاب اجمالاً مرحلة "رد الفعل المعاكس"، التي سعت خلالها البلدان النامية المستقلة حديثاً بحماس للتأكيد على استقلالها الاقتصادي والسياسي عن القوى الاستعمارية السابقة. وادى خطر مصادرة الموارد التي تملّكها الغرب ومشاعر الارتياب عموماً تجاه الاستثمار الاجنبي الى جعل مدراء الشركات يشعرون بعدم استقرار متزايد، وهو ما دفعهم الى الرد باستخدام استراتيجيات متنوعة لإدامة هيمنتهم. هكذا، حاولت شركة "يونيون مينيير" في الكونغو ان تبقي على امبراطوريتها باستخدام تكتيكات من عهد الامبراطورية، وتورطت في قتل باتريس لومومبا في 1961 وفي حركة انفصالية، فيما سعت "انتي نازيونالي ايدروكاربوري"، وهي شركة ايطالية لديها استثمارات في ايران، الى التودد للشاه كي تحصل على امتيازات. لكن هاتين الحالتين وغيرهما من حالات مشابهة تبيّن ان كل هذه الاستراتيجيات للتوافق مع التحديات كان محكوماً عليها بالفشل على المدى البعيد بدليل ان موجوداتها أممت بشكل كامل او جزئي من قبل الانظمة التي تسلمت السلطة لاحقا. وتتسم مرحلة "الانبعاث"، كما يطلق عليها ليتفين، بعودة الشركات المتعددة الجنسية في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين الى اجزاء كثيرة من العالم النامي، بعد تبني سياسات ليبرالية جديدة من قبل حكومات محلية وتحت رعاية صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لكن هذه الشركات تواجه الآن شكوكاً واحتجاجات متزايدة من اعداد كبيرة من الناس في المجتمعات النامية والغربية على السواء، الذين يجدون في نشاطها نوعاً من "امبريالية جديدة". وتشمل الامثلة التي جرى تحليلها اداء شركة "نايك" في اندونيسيا، وتأثير شركة "شل" على البيئة والحياة السياسية في نيجيريا، بالاضافة الى استقبال شركة "ستار تي في" العائدة لمردوخ في الصينوالهند. ويدعي ليتفين، الذي عمل مستشاراً للشؤون السياسية في احدى شركات التعدين المتعددة الجنسية، انه لا يريد ان ينحاز الى احد الطرفين في الجدل الدائر بين معسكري "العولمة" و"مناهضة العولمة"، وانه يقدم تحليلاً "موضوعياً" للاداء السياسي للشركات المتعددة الجنسية في العالم النامي. لكن جزءآً من تحليله يثير تساؤلات، خصوصاً ما يتعلق بالحالات التي يشير اليها. وهو يجادل، عموماً، بان هذه الشركات العملاقة غالباً ما كانت تستخدم نفوذها بشكل غير مخطط يلحق بها الأذى، ولذا عجزت مراراً عن فهم البيئات الاجتماعية والسياسية التي كانت تعمل فيها. فهو يرى، في ما يتعلق بتورط "يونايتد فروتس" في انقلاب غواتيمالا، مثلاً، ان الايديولوجيا التي اعتمدتها الشركة لتبرير مواقفها وثقافة الشركات غذتا عدم تحسسها للمشاعر الشعبية وعجزها عن رؤية الحقائق السياسية في البلاد. وادى هذا، الى جانب نزعة العداء للشيوعية في الولاياتالمتحدة آنذاك، الى تحفيز دعم الشركة للانقلاب. وعلى رغم ان ليتفين يؤكد انه لا يمكن تبرير هذه الاعمال فانه يتوصل الى ان "من المستبعد ان يكون تبنيها لهذه الافكار مجرد مناورة لاأخلاقية لحماية موجوداتها". وللأسف فالاحداث التي يصفها لا تتفق مع هذا التحليل. وفي النهاية، يبقى المرء محتاراً لماذا يكون هذا التحليل "المتثاقف"، الغريب نوعاً ما، لايديولوجيا الشركات مناسباً اكثر لتفسير تورط "يونايتد فروتس" و"سي أي آي" في الانقلاب بدلاً من تفسير يعتبره محاولة من جانب قوى نافذة للتحكم بالاحداث في بلد هُددت فيه الهيمنة الاقتصادية والسياسية للشركتين بسبب تزايد شعبية قوى اجتماعية تلتزم أجندة اصلاح. وتتمثل المشكلة عموماً كما يبدو في ان ليتفين يشدد بشكل غير متكافىء على "ردود" الشركات المتعددة الجنسية على الظروف المحلية، مقللاً في تحليله وليس بالضرورة في عرض رواياته من شأن الدور الذي لعبته هذه القوى النافذة كعوامل ناشطة في العالم النامي، لتمارس في اوقات ومواقع مختلفة درجة هائلة من السيطرة على المجتمعات المحلية. ويُقدّم مدراء الشركات احياناً في الكتاب باعتبارهم "محشورين" بين احداث وتطورات محلية وبين "رؤاهم لثقافة تجارية قوية". لكن اذا كان هؤلاء "محشورين في رؤاهم" فان الأمر ينطبق ايضاً على كل من ينخرط في علاقات اجتماعية، سواءً كانوا مديري شركة او لا. لكن هذا لا يعني ان هذه الشركات لم تكن عوامل محركة ذات نفوذ كبير تملك القدرة على التخطيط لتحولات تترك آثاراً بعيدة المدى على مجتمعات نامية. بالاضافة الى ذلك، ليس واضحاً الى حد ما لماذا يدعي المؤلف ان هذه الشركات، بسبب عجزها عن ادراك سياقات محلية، "اخفقت" على المدى البعيد. فبما ان الارباح هي الهدف النهائي لأي شركة متعددة الجنسية، يجب ان يُنظر الى اداء معظم هذه الشركات باعتباره ناجحاً بشكل خاص، اذ استطاع بعضها ان يجني الارباح على مدى عقود، وما يزال بعضها يعمل في الوقت الحاضر، بينما ضمن البعض الآخر، مثل "يونيون مينيير"، وغيرها، الحصول على تعويض عندما جرى تأميمها من قبل حكومات محلية. لذا يبدو ان الدور الذي لعبه "العمى الثقافي" و"عزلتها" في جعلها اقل عرضة لتأثير الضغوط المحلية على المدى البعيد كان اقل تأثيراً بالمقارنة مع تطور القوى الاجتماعية التي كانت خارج نطاق سيطرتها، مثل حركات التحرر الوطني التي هزّت القارة الافريقية بعد الحرب العالمية الثانية. وينتقد ليتفين الى حد ما الحملات الاخيرة، التي تتعاظم في ارجاء العالم، ضد موقف الشركات المتعددة الجنسية في المناطق النامية. فيرى انها غالباً ما تركز على قضايا محددة تماماً مناسبة اكثر للاستهلاك الداخلي في البلدان الغربية، وتفتقر الى ادراك للصورة الكاملة في المجتمعات المعنية. وحتى اذا كان هذا صحيحاً في بعض الاحيان، لا يمكن للمرء ان ينفي حقيقة ان هذه الحملات عززت ادراك مثل هذه القضايا عالميا، ومارست ضغوطا على الشركات كي تقدم تنازلات لا يمكن تخيل انها كانت ستبادر الى اتخاذها. ويختم ليتفين بتقديم اقتراحات ذات طابع تجريدي نوعاً ما، موجهة الى مديري الشركات المتعددة الجنسية، يحضهم فيها، على نحو لا يثير الاستغراب، على الانهماك كلياً في السعي لادراك السياقات السياسية المحلية التي تعمل فيها شركاتهم. لكن ما يتجاهله ان القضايا السياسية والاخلاقية المهمة غالباً ما تكون ذات صلة بمصالح الاطراف المعنية المتناقضة والتي يصعب التوفيق بينها في احيان كثيرة والمستندة على تفاوتات اجتماعية بين البلدان الغربية والعالم النامي وداخلهما على السواء اكثر من صلتها ب"القدرة على ادراك" التعقيدات المحلية. وهذه التعليقات تجعل المؤلف يبدو اشبه بواعظ اخلاقي. لكن حتى اذا كان التحليل يثير احياناً، كما يبدو، مشاكل معينة، فان الكتاب يقدم قراءة ممتعة ومشوقة لروايات مؤثرة عن الاستغلال والانقلابات السياسية والتوق الى الربح.