منذ انهيار الاتحاد السوفياتى، والمحللون في أرجاء العالم، وخصوصاً في عالمنا العربي، يحاولون استشراف شكل النظام الدولي بعد انهيار نظام القطبية الثنائية، سعياً وراء تحديد خيارات السياسة الخارجية. في البداية كان هناك حديث حول التحوُّل إلى نظام القطبية المتعدد الأطراف، فتناول البعض الصعود التدريجي للاتحاد الأوروبي، واحتمالات بزوغ قوة الصين، ثم ما لبثت حرب تحرير الكويت أن حسمت الأمر، بوضوح هيمنة أميركية شبه كاملة على النظام الدولي، منطلقة من هيمنتها على المنطقة العربية. وبدا وكأننا أمام عصر إمبراطوري جديد مشابه لما عرفته البشرية تاريخياً من تعاقب الامبراطوريات المصرية القديمة- الإغريقية- الرومانية-الإسلامية- ثم البريطانية. ثم بدأ كل هذا يهتز تدريجياً منذ أيلول (سبتمبر) 2001، وإن كان ببطء شديد، وبحركة مذبذبة متضاربة الاتجاهات، فمن ناحية ما زالت الولاياتالمتحدة أكبر قوة في العالم عسكرياً واقتصادياً، ومن معالم ذلك هيمنة الرموز الثقافية الأميركية، خصوصاً السينما الأميركية، حتى انه في وقت من الأوقات كنا في مصر على سبيل المثال نشاهد أيضاً الأفلام الإيطالية والفرنسية والبريطانية وأحياناً الروسية، فإذا بنا اليوم في عالم تحتكره السينما الأميركية تليها بمسافة وفي أوساط معينة السينما الهندية، وذلك في أغلب الأوساط المصرية والعربية. لكن الولاياتالمتحدة لم تعد القوة التي تفرض إرادتها، فنموذج هيمنتها في حرب تحرير الكويت على المنظمة الدولية الرئيسية أي الأممالمتحدة قد تراجع بدرجة كبيرة، والمتابع سير العمل الدولي سيلحظ ان واشنطن لم تعد كما كانت في العقد الأخير من القرن الماضي، كما أن أيام الحرب الباردة لم تعد كذلك أيضاً. فقد ارتفع الصوت الروسي بعض الشيء وخلفه الصوت الصيني، والأهم من ذلك أن قدرة واشنطن على حشد العالم خلفها كأيام حرب تحرير الكويت لم تعد قائمة. فى مقابل هذا فإن روسيا التي كانت الاتحاد السوفياتى المنهار، وبعد سنوات اضطراب بالغة الصعوبة، عادت إلى الساحة الدولية بقدر أكبر من القوة- وخصوصاً في المنطقة العربية التي تشهد انحساراً واضحاً للنفوذ الأميركي ليست سورية إلا تعبيره الواضح، لكن النفوذ الروسي يكاد يقتصر على بعض المناطق الحيوية أهمها المشرق العربي بالإضافة إلى قدرة على التأثير في كثير من الجمهوريات المستقلة في آسيا التي انشقت منه، وعلاقات متينة بعدد من الدول ربما كانت أهمها الهند، وهي حالة خاصة، هي للشراكة أقرب ولا يمكن اعتبارها تابعة. إذاً بخلاف ذلك وعلى رغم الصعود الواضح للمكانة الروسية الدولية نسبياً، إلا أنها لا يمكن وصفها بالقوة العالمية بعد في شكل مشابه للولايات المتحدة حتى الآن. أما الصين، فهي حالة يمكن وصفها بأنها غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، فما زالت تبهر العالم بنموها الاقتصادي المتواصل، وتواصل غزو أسواق العالم بما في ذلك السوق الأميركية- ويرجح كثير من الخبراء أن الوقت لن يطول حتى يسبق اقتصادها الاقتصاد الأميركي وتتربع بذلك على عرش الاقتصاد العالمي. لكن الصين أبعد ما تكون عن القدرة على التأثير السياسي الدولي في أغلب مناطق الصراع إلاّ عندما تقرر اللجوء الى حق الفيتو في مجلس الأمن- والذي تمارسه مع روسيا من وقت الى آخر- في المجمل لا يستطيع أحد القطع بالوقت الذي ستبدأ فيه الصين تطوير دورها السياسي الدولي، بل يتشكك البعض في إمكانية حدوث ذلك في المستقبل المنظور أو البعيد لأسباب ثقافية عميقة. من ناحية أخرى، خيّب الاتحاد الأوروبي كل التوقُّعات، ولم يتمكن من تحقيق مركز دولي مشابه لحليفته الولاياتالمتحدة، بسبب اضطراب نموه الاقتصادي مع أعباء ضم أغلب الدول الأوروبية إليه. ولم يتمكن من بناء موقف موحد وفعّال تجاه كثير من القضايا الدولية الحيوية، ولم يتوقف قطباه الرئيسان، أي فرنسا وألمانيا، عن التحرك في شكل منفرد أحياناً، وفي شكل خاص فرنسا التي أصبحت لاعباً دولياً من الدرجة الثانية- ولكنه لا يتوقف عن إحداث ضجيج من دون تحقيق إنجازات ملموسة على الأرض، والشاهد تحركاته العبثية في الساحة اللبنانية في الأعوام الأخيرة التي سجّل بها تراجعاً شديداً في دوره التاريخي، كما اكتمل هذا التسجيل بالضجة الوهمية حول المبادرة الفرنسية لحل القضية الفلسطينية. واكتمل اضطراب الصورة الأوروبية بالانسحاب البريطاني من القوة الأوروبية وبدء تساؤلات عميقة حول التوجُّهات البريطانية، وأي مصير ستؤول إليه الامبراطورية القديمة- وهل سيكون حضورها الدولي مرة أخرى مزيجاً من التبعية والتأثير في الولاياتالمتحدة- وهو أمر أيضاً يبدو أنه فات أوانه ولم يعد قابلاً للتكرار- حتى نموذج بلير- بوش الابن قد يكون صعب التكرار. وهنا قد يبدو الحديث متناقضاً، فلم تعد الامبراطورية الأميركية مهيمنة، إلا أن النظام الدولي لم يتحول إلى قطبية متعددة، وفي تقديري انه قد آن الأوان لمقاربة أكثر واقعية في ما يتعلق بحال العالم في السنوات الأخيرة- والتي يبدو أنها ستستمر لبعض الشيء، أو لعدد مقبل من السنوات. وهي حالة السيولة والفوضى الدولية- وأن الأوضاع الراهنة من صعود لقوة الدول الصغيرة، وتغيُّر ملامح التأثير والنفوذ سيكون أحد أهم سمات النظام الدولي- الذي قد يكون انتقالياً، لكنه لا يمكن أن يعود في الأرجح إلى سمات النظم الدولية السابقة، سواء القطب الواحد أو القطبية الثنائية. أو خلال الفترات المتعددة القصيرة جداً لتعدد الأقطاب قبل الحرب العالمية الثانية. من هنا رأينا إهانة رئيس الفيليبين الرئيس الأميركي باراك أوباما، كما شاهدنا التراجع المتواصل للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، كما ما زلنا نمارس الدهشة اليومية لكون دونالد ترامب أصبح مرشحاً رئاسياً حتى لو كانت فرصه على الأرجح أقل من هيلاري كلينتون. الخلاصة انه عالم جديد مختلف، يجب أن نملك فيه كعرب ما يكفي من المرونة وبدائل التحرك السياسي المختلفة القادرة على التعامل مع هذا العالم المعقد. * مساعد وزير الخارجية المصري سابقاً