قليل من الكتب النقدية ما يحضّ على القراءة. ينتمي كتاب جهاد عطا نعيسة: "في مشكلات السرد الروائي" الى تلك الكتب النقدية القليلة، البعيدة عن الاستسهال، وأكثر بعداً عن المحاكاة الصماء المألوفة، وذلك لأكثر من سبب: فهو يبني نقده على إشكال نظري، بلغة معينة، أو على جملة من المفاهيم النظرية، بلغة أخرى، محيلاً، ولو بقدر، على رؤية فكرية واضحة، مما يعطي الكتاب وحدة فكرية متماسكة، بعيدة عن التلفيق والتقميش. اضافة الى هذا، فإن المفاهيم تلتقي بما يبرهن عنها، وذلك في لحظة سعيدة لا تفصل بين النظر والتطبيق، إن لم يكن التطبيق هو الحيّز الفعلي الذي تتكشف فيه المفاهيم واضحة، بلا التباس. والى جانب هذا، فإن في الكتاب ما يربط بين القول الأدبي والوعي الذي اتكأ عليه، ممّا يؤكد النص الأدبي نصاً ثقافياً يشي بالتاريخ الثقافي الذي جاء منه، أو يتجاوز الوشاية الى حدود الصراخ. ولعل هذه الأسباب مجتمعة هي التي تضع أمام القارئ نصاً نقدياً متماسكاً يتحاور معه، اتفاقاً أو اختلافاً، بقدر ما تجعل القارئ يضع الكتاب جانباً، ويتأمل أسئلة أوحى بها الكتاب، ولو بقدر. يتناول الكتاب أعمال أربعة من الروائيين السوريين: حنا مينه، شيخ الرواية السورية، الذي أسس "رواية البحر" وهجس ب"رواية الغابة" في روايته "الياطر"، وحلم أيضاً ب"رواية الصحراء"، كما قال ذات مرة، وذلك في تصوّر طموح وغريب وحنون، يوزّع الكتابة الروائية على أمكنة مختلفة، ويظل البحر مكانه الأثير. والروائي الثاني هو الراحل هاني الراهب، الذي أعطى في روايته "الوباء" عملاً ممتازاً لا ينقصه الاستبصار. والثالث هو نبيل سليمان، الذي يتنقل بين الرواية والنقد الروائي ومساهمات أخرى. أما الرابع فهو حيدر حيدر، المتميز بقلة انتاجه والذي يبقى متميزاً، كتابياً، على رغم انتاجه القليل، بالمعنى النسبي. تأمّل نعيسة أعمال روائيين في بلده بأدوات نقدية عارفة صارمة، كما لو كان في معرفته الواسعة يحرر النص من مكانه الضيق، ويرسل به الى زمن نقدي لا ضيق فيه. يستطيع القارئ، وهو يتأمل "في مشكلات السرد الروائي"، أن يقرأ ما جاء في الكتاب، وأن يقبل ما قرأ أو يرفضه، ويستطيع أيضاً، إن انجذب الى ما يوحي به، أن يعيد صوغ "الوشاية"، بالمعنى النبيل للكلمة، وأن يكتفي بأسئلة "ضيقة" وخادعة في ضيقها، ترى الأدب في الثقافة التي جاء منها، وترى الثقافة في تاريخ غريب، يستهلك ماضيه حاضره، ويقف حاضره فقيراً في العراء، فلا هو بالزمن الذي قالت به الحداثة الاجتماعية، ولا هو بالزمن الأصيل، الذي لا يهبط على الأرض. ربما كان هذا الانفصال، بين زمن أثيري يحوّم في الفضاء ورمن حديث لا تعترف به الحداثة الأصيلة، هو في أساس تصور البطولة، وهو تصور سلطوي، والركون الى البطولة البلاغية، التي تشتق المواضيع من كيس لغوي ميسور، بدلاً من أن تقارن بين الكلمات ومواضيعها الخارجية. فالعقول الحديقة تشتق اللغة من الأشياء، على خلاف نقائضها التي ترى في الكلمات أشياء، معرضة عن البرهان والقياس والتجربة. وبداهة، فإن هذا الاستبدال، الذي تمتهن به الكلمات المواضيع المحسوسة الى حدود الزراية، هو ما يقيم علاقة بين البطولة البلاغية وسلطات "زاهدة" تحقق رغباتها بكيس لغوي شاسع يمتد من "سطيح"، الكاهن القديم، الى روائيين يتأملون العالم ب"أدوات حديثة". إنه وهم البطولة، الذي يقول به فكر يمتثل الى لغته، وتقول به لغة تتوالد متجانسة في كل الأزمنة، طالما ان العالم الخارجي "خسيس"، تدوسه اللغة قبل أن تنصت اليه. ولهذا يأخذ نبيل سليمان، كما يوحي الكتاب المشار اليه، ب: بطولة الوضوح، حيث على الكاتب أن يعيد شرح المشروح وأن يطرد اقتصاد اللغة، ويرتاح حيدر، ذلك الإنسان النبيل الذي آثر عزلة محصّنة بكبرياء عريضة، الى بطولة أخرى هي: بطولة الصوت اللغوي المفرد، بينما يهجس صاحب "الشراع والعاصفة" ب: بطولة المفرد الكامل، الذي تحنو عليه الملائكة وتفر منه الشياطين. لكل بطولته، ولكل روائي صفحات متواترة يسطّر فوقها ما يشاء من ألوان البطولة، ولكل رواية بطل، تجود به المخيلة، فإن أغلقت المخيلة أبوابها واعتصمت بالصمت، وقف الروائي فوق الصفحات الكثيرة وأعلن ذاته بطلاً. بطولة غريبة مصنوعة من الكلام والأحلام والرغبات المقوّضة، تلتحف بصفحة الرواية الأخيرة وتفترش صفحتها الأولى، وهذا الحيّز الضيق الصامت المحزون، الذي يدثّر البطل بأجمل الملابس وينهيه عن السير، يمحو الأحلام بممحاة غليظة ويفرض بديلاً عنها كلمة مكسوة بالشحوب والزرقة والغبار هي: الأوهام. يسلم نبيل سليمان قياده الى بطولة الوضوح: يشرح الفكرة الأساسية، بصوت متمهّل واضح النبرة، ويوزع الأساسي على أجزاء، ويوغل في تجزي المجزّأ زاجراً ما لا يرى وطارداً ما لا يسمع ونابذاً ما لا يقفز الى العين واضحاً في عريه... وهو في التجزيء وتجريء التجزيء مثابر على الإبانة والكشف والوضوح... بيد أن هذه الطيبة الشاسعة تلتف حول عنق القارئ وتلغيه، ذلك أن في بطر الوضوح ما يمتهن عقل القارئ أو يفترض قارئاً لا عقل له. وعندها يتمزّق هندام الفضيلة، فلا حوار في الواضح ولا مكاشفة في البداهة، والموضوع كله في صيغة تقليدية قديمة هي: المعلم الصارم وضرورة التلقين والتلميذ الخائب وضرورة الاستظهار. ما قارئ نبيل سليمان إلا صفحة بيضاء، يسطر عليها الروائي أفكاره وتعاليمه وتجاربه، وعلى التلميذ، الذي لا عقل له ولا فؤاد، أن يستظهر حكمة معلّمه، مردداً بسعادة، أو من دونها، قولاً أصيلاً: "من علّمني حرفاً كنت له عبداً". تنطوي فضيلة الوضوح سراً أو جهاراً، على فكرة المراتب البشرية، التي نقضتها الرواية منذ أن اعترفت بالإنسان كما هو، بلا ألقاب ولا سلالم ولا أوسمة. بيد أن الفضيلة المفترضة، التي تقمع الحوار الروائي بثنائية التلقين والاستظهار، تظهر، في مستوى آخر، يلعن الملتبس ويرجم الالتباس، علماً أن الالتباس هو ما يجعل الأدب أدباً، ذلك أنه تلك العتمة الواضحة، التي ترشد القارئ الى اتجاه وتخادعه باتجاه آخر، كي يرى الى اتجاه أخير يحتضن اتجاهات متعددة. ان العتمة الواضحة هي المجاز الروائي الذي يسرد به الراوي حقيقة متأبية على الانصياع، حقيقة مراوغة مخادعة ماكرة، كلما احتضنت اجابة آثرت الرحيل الى أخرى. تكمن في تلك العتمة المراوغة، بداهة، ديموقراطية الرواية، التي تنقض كتابة سلطوية، تراقب ذاتها وغيرها، شفافة، ترفض التأويل والإجابات المجزوءة. يبدأ الروائي فاضلاً ويلتبس ببطولة تمنع فضائله، تزري بالقارئ وتلقي ماءً آسناً على عتمة مباركة، أنارت سبل الرواية منذ ميلادها. على خلاف نبيل سليمان، الذي يبدأ شيخاً ورعاً يتطيّر من ورعه لاحقاً، يختار حيدر حيدر بطولة الصوت الواحد، الذي يقود رعيته المستسلمة الى سهوب عذراء مجللة بالبلاغة، رعية صامتة أوكلت الكلام الى مرجع أعلى، يحتكر الكلام وصمت الرعية في آن. وإشكال حيدر، كما يقرّره الدكتور نعيسة، يستدعي تلك الصيغة التي يتحدث عنها، أو بها، نقاد الأدب وهي: التنوع الكلامي، الذي قال به باختين، الروسي الذي مات بساق واحدة في مأوى للعجزة. تعبّر الصيغة، في مستوى منها، عن تعددية الحياة الخصبة التي تضطرب فوقها ألوان من البشر مختلفة، وتكشف، في مستوى ثان، عن ديموقراطية المنظور الروائي، الذي يساوي بين الشخصيات جميعاً ويساوي بينهم وبين الراوي، الذي يضع كلاماً على لسان شخصياته، وتضع الأخيرة كلاماً على لسانه، وذلك في عقد نبيل يوزع الكلام والحقائق في شكل متساوٍ على الجميع. بيد أن حيدر، وكما يوحي كلام نعيسة، لا يميل الى باختين كثيراً، مؤثراً أستاذاً نجيباً يوزّع كلامه، وهو متجانس، على الجميع. فكل الأعناق متوازية وعلى الجميع أن يتساووا في عادات الخضوع والامتثال. انه مبدأ المرتبة، الذي يضع مفرداً متعالياً فوق الجميع يحتكر الكلام، ويضع أمامه رعية كاسدة، أو أغفالاً من البشر أدمنوا الإذعان. وإذا كان المستبد الشامل لا يحتاج الى ما يبرهن عن عظمته الأكيدة التي لا تحتاج الى برهان، فإن الروائي المستبد، وله مملكة متخيّلة مؤسية، يقدم برهانه رافعاً شعار البلاغة. والشعار الذي يرفعه الروائي في جزيرة معزولة يقول ما يأتي: على من يحسن الصنعة اللغوية أن يقود الذين لا يحسنونها، وعلى من لا يتقنون جزيل الكلام أن يذعنوا الى سيد البلاغة. بهذا المعنى ينجز "السيد" خلقه مرتين: يخلق أولاً شخصيات تبدو متنوعة، لها الأسماء والأماكن وفتنة لا تبارى، ويعيد خلقهم من جديد بلغة تماثل بينهم، مبرهناً ان الفتنة الحقيقية قائمة في بلاط المتكلم الوحيد. يختزل العمل الروائي الى الصنعة البلاغية، التي تمحو مساواة البشر بممحاة بلاغي لا يساويه غيره، برهانه قلم يمتح من جراب لغوي هائل يمتد من "سطيح" الى زمن ما بعد الحداثة، غير أن الإشكال الروائي الأساسي هنا يكمن في التجانس، الذي تنقضه الحياة ومبادئ المعرفة، وتحتفي به المقابر وثقافة الأدعية. يتكئ حنا مينه على مقولة قريبة من "البطل الشعبي - الوطني"، المدافع عن الوطن بحس شعبي صادق. لكن البطل، وقد، تكثّفت روح الشعب فيه، ينقلب الى "المنقذ المخلص"، الذي يسعى النصر اليه ويفتّش عنه بإلحاح لا مزيد عليه، كما لو كان البطل هو النصر وقد تجسّد أو تشخصن. وبداهة، فإن البطل الذي لا يضارع فاضل الفضيلة كلها، ينصر المستضعفين ويستنصرونه ويهب الى نجدتهم قبل أن يطرقوا بابه، والانتصار وجه من وجوه فضيلته والظفر من طباعه والغلبة من فطرته، الى أن يصبح لغزاً في شكل رجل وأحجية معقوفة الشاربين. وما اللغز الحقيقي إلا بطولة الطبع التي تنهر التاريخ، ذلك ان "الطروسي"، الذي يعيش في منتصف القرن العشرين، لا يأبه الى البوصلة، فدليله النجوم، ويكتفي بخيزرانة ساحقة تدك ما عداها من الأسلحة. بطل غريب، من النصر جاء والى النصر ذهب، بعيداً من بطل همينغواي في "العجوز والبحر"، الذي يمجّد المقاومة الإنسانية ويزهد بالمنتصرين. وواقع الأمر، إن الجوهر المنتصر، أو النصر الذي تجوهر، هو الذي يصوغ ماهية "الطروسي" من المعركة والمواجهة والاقتحام، وهو الذي يحذف منها أحزان بطل همينغواي وقلقه وشكواه. والسؤال المباشر الذي يطرحه القارئ الفضولي هو الآتي: ما الذي يجعل "بطلاً" ينتمي الى أزمنة ريفية منقضية ينتهي الى النصر في زمن غير زمنه، وما الذي يسوّغ استمراره وقد تآكل زمنه واهترأ؟ والجواب بسيط قائم في جوهر الحكاية، التي تسرد أحوال مجتمعات ما قبل رأسمالية، على خلاف الرواية التي تقتفي آثار بطل لا يعرف النصر أبداً. كأن مينه، وهو الحكّاء النموذجي، يكتب الرواية بوعي حكائي قديم، يرى الى الخير والشر والنهاية المنتظرة، بل ان مينه يكتب الحكاية الفاتنة، موهماً بأنه يكتب رواية ومبرهناً عن فتنة السرد الحكائي. فلو أن الكاتب عالج موضوعه بوعي روائي، لكان بطله استقر في قاع البحر فريسة للأسماك القارضة. تغيب بطولة اللغة وترحل البطولة الى بحار منتصر، لا تستنفد اللغة صفاته تماماً. لكل روائي طريقه الخاص الى البطولة. تتعدّد الطرق وتترافد سائرة الى بطولة متوهمة، لا تعرف معنى القارئ وتعيّن اللغة خالقاً وتمدّ بالحياة بطلاً مات زمنه ولم يتبقَ له في الزمن الحديث إلا موت صغير بلا قصائد أو حاشية. إنها بطولة الوهم التي ترتكن الى ثقافة مولعة بالأبطال والسير واللغة والقصائد وثقافة الأدعية، بل انها البطولة الحكائية، التي تعيش في اللغة ما لم تعشه في الواقع، وتحوّل الواقع المشتهى الى نسيج كلامي مبرقش. ليس غريباً ألاّ يتحدث المتنصرون الحقيقيون عن الانتصار، تاركين المهزومين يلوكون الكلام المنتصر. قد يختلف القارئ أو يتفق مع ما أوحى به كتاب "في مشكلات السرد الروائي"، معترفاً، في الحالين، بأن في الكتاب ما يسمح ببوح طويل.