شهد العالم أعوام 1914-1918 حرباً عالمية طاحنة، اقتتلت فيها معظم الدول الأوروبية. وشاركت روسيا والسلطنة العثمانية في مجازر ضد الأرمن، وضد الأتراك في الأراضي الخاضعة تحت سيطرة كل طرف. وعجل الحقد المتبادل في المجازر، وزاد من حدتها. ففي 1884، قال كوتشوك سعيد باشا الصدر الأعظم ان "أنجح وسيلة لإنهاء القضية الأرمنية، هي القضاء على الشعب الأرمني". ولكن الحادثة البارزة كانت تولّي "الاتحاد والترقي" الحكم في السلطنة، بعد الانقلاب على السلطان عبدالحميد الثاني. ويقول المؤرخ سينون وطسن في الحكام الجدد: "ان الحقيقة البارزة في تكوين جمعية الاتحاد والترقي، انها غير تركية وغير إسلامية. فمنذ تأسيسها لم يظهر بين زعمائها عضو من أصل تركي صريح. فأنور باشا، مثلاً، هو إبن بولندي مرتدّ، وجاويد من الدونمة، وكراصاو من اليهود الاسبان، وطلعت باشا من أصل غجري اعتنق الإسلام...". والمجازر ضد الأرمن حقيقة لا يمكن تجاهلها، حتى من الأتراك أنفسهم، وإن اختلفت التقديرات حول عدد الضحايا. ففي جلسة سرية لزعماء "الاتحاد والترقي" جرى الحوار الآتي: "طلعت: هؤلاء الثعابين رفعوا رؤوسهم من جديد، ولا بد من التنكيل بهم تنكيلاً شديداً. ... "الدكتور ناظم: الكلام وحده لا يفيد، إن خطر الأرمن كالدمل في الجسم، ولا شك في ان إذا لم يعالج بمشرط جرّاح ماهر يجتث جذوره، ويطهّر الجسم منه، يكون خطره مميتاً. إننا في حال حرب، ولن تهيأ لنا ظروف سانحة أفضل من هذه الظروف التي تخولنا اجتثاث العنصر الأرمني من جذوره، بحيث لا يبقى فرد على قيد الحياة في ممتلكاتنا... علينا ان نمحو إسم الأرمن من الوجود، وندرجه طي النسيان، ولن يعترضنا شيء، لا تدخل الدول العظمى ولا ولولة صراخ الصحف العالمية، وحتى ولو حدث ذلك، تكون المسألة بمثابة أمر واقع وكفى، لذلك أهيب بكم القيام بإبادتهم. "الدكتور بهاء الدين شاكر: نحن الانقلابيين، ومن موقع السلطة التي آلت الى قبضتنا باسم الملة التركية، يجب ان لا نسمح لغير البذور التركية ان تنمو في حقلنا، ولهذا يجب ان نتصدى لبقايا الملل التي اندست من قديم في مجتمعنا كما تندس النباتات الطفيلية في الحقول... علينا ان نقتلعها من جذورها، وهي، الروم والأرمن والعرب... الخ... "حسن فهمي: ما دام الأرمن خرجوا على سلطة جمعية الاتحاد الترقي المقدسة، فالواجب يقضي بافنائهم عن بكرة أبيهم، وان لا يبقى أي فرد منهم على قيد الحياة، وسأعرض عليكم الطريقة اللازمة لذلك: بما ان التعبئة العامة لا تزال سارية المفعول، يوضع الشبان الأرمن المسلحون في مقدمة الجيش التركي على طول الجبهة الروسية، وبهذه الصورة يكونون بين نارين، نار الروس من الأمام ونار الترك من الخلف، ويصار الى محوهم وإفنائهم، أما الشيوخ والصبيان والنساء، فتعطى الأوامر لتصفيتهم، ثم تمتلك أموالهم وامتعتهم وتسبى بناتهم. "جاويد: إن هذه المطالعات كانت وافية لتنويرنا حول جوانب القضية... وإن القضاء على الأرمن وإبادتهم مطلب ملي وسياسي حيوي". وعلى هذا تقع مسؤولية المجزرة على زعماء "الاتحاد والترقي"، ومن ورائهم الحركة الصهيونية، وعلى شركاء العثمانيين آنذاك، أي حكام ألمانيا وعلى رأسهم السفير الألماني، فايجنهايم، والجنرال الألماني ليمان فون ساندرز، مفتش عام الجيش العثماني. وكانا يستطيعان منع المجازر ولكنهم لم يفعلا؟ وكان الموظفون العثمانيون يرددون انهم قاموا بالمذابح "لأن هذه هي تعليمات الألمان". ويبقي عدد من قضى من الأرمن في هذه المجازر موضوع نقاش: فالجمعيات الأرمنية اليوم، تقدر عدد الضحايا ب5،1 مليون أرمني، فيما ترى الموسوعة البريطانية، في طبعتها عام 1918، أنهم 600 ألف، وفي طبعتها عام 1968 تقدرهم ب5،1 مليون. وبحسب المصادر الغربية كان عدد السكان الأرمن بين مليون و5،1 مليون. اما الاحصاءات العثمانية فتقدّر عددهم ب3،1 مليون، بينما المصادر الأرمنية ترفع العدد الى مليونين. وذكر رئيس الوفد الأرمني في مؤتمر لوزان، بوغوس نوبار، ان عدد الأرمن المتبقين في تركيا هو 280 ألف، وأن 700 ألف قد هجّروا. فلو اعتمدنا المصادر الغربية، يكون عدد الضحايا الأرمن نحو 600 ألف. وهو الرقم الذي ذكرته الموسوعة البريطانية عام 1918. ولا ينبغي نسيان ما تعرّض له المواطنون الاتراك من مجازر على أيدي الروس والعصابات الارمنية الموالية لهم. فالمصادر التركية اليوم تقدّر عدد المفقودين الاتراك في الأناضول الشرقي ب4،1 مليون. ويذكر ان العصابات الأرمنية الموالية لروسيا، لم تكن تمثل بالضرورة رغبة ومواقف الشعب الأرمني. وسقط كثير من الضحايا الأرمن في الاقتتال الداخلي. بيروت - عادل نور الدين