اعتاد اللبنانيون تسمية البحر المجاني ب"السان بلاش"، تيمناً بأسماء المسابح اللبنانية مثل "السان جورج". و"السان بلاش" صيغة بحرية تتلاءم مع قدرات شريحة كبيرة من الشباب اللبناني، الذي لا قدرة له على السباحة في المنتجعات المكلفة صيفاً، ولا على الدخول الى المقاهي الحديثة التي تكلف السهرة الواحدة فيها ما قد يقبضه شاب في مقابل أسبوع عمل. وتنطبق تسمية "السان بلاش" في شكل دقيق على كورنيش "عين المريسة" أو "المنارة" الذي يقصده الشبان اللبنانيون محمّلين بتعب أسبوع... وعدتهم من نراجيل وفحم ومعسل. ويصطف الشبان في شكل غير مدروس، لكن منظّم على "الدرابزين" حاجز حديدي الذي يفصل حافة الكورنيش عن البحر. يلجون البحر من علوٍّ منخفض في هذه الفسحة المجانية، التي تلعب دور الحضن الأخير، بعيداً من صخب المدينة. يتحلقون مجموعات حول النراجيل، ويبدأون بمدّ الليل من حولهم ليطول ساعات تلامس الفجر أحياناً. المجموعات تتغير في السهرة الواحدة. أفواج تأتي وأفواج تذهب. تتغير بين أسبوع وأسبوع أيضاً. وحدها الزحمة دائمة ووحده البحر لا يتغير. ويظن من يمر في المنطقة ليل السبت - الأحد، أو أي ليلة يليها نهار عطلة، أن احتفالاً تدور دواليبه ها هنا، أو سهرة كبيرة تنشأ. ويعزز الانطباع صخب من ضحكات متقطعة، مصحوبة بأغانٍ منبعثة من الراديوات في السيارات المركونة بجانب الرصيف. وتأتي أصوات باعة الفول والترمس وعرانيس الذرة لتؤكد شعبية المكان وتواضعه وتآلفه في صيغة غير مفتعلة لكن مركّبة. وتتعدد أسباب استقطاب هذا الكورنيش، الذي يصل عرض رصيفه الى أكثر من خمسة عشر متراً في نهايته. في نهاية سبعينات القرن الماضي، بدأت منطقة الرملة البيضاء تعجّ بالمهجرين من مناطق مختلفة في الجنوب اللبناني، إثر بداية الاجتياحات الاسرائيلية المتكررة، فتحولت هذه المنطقة الارستقراطية - السياحية الى منطقة شعبية صارت جادتها البحرية "سطيحة" شرفة كبيرة لسهرات المهجرين. وحوّل هؤلاء البحر الى "سان بلاش" خاص بهم. لكن خطة إعادة المهجرين الى قراهم أخرجتهم من المنطقة، لتستعيد وجهها الأرستقراطي. غرق مدمنو "الرملة البيضاء" في دوامة الملل والشوق الى هذه السهرات، لتعود سفينة "عين المريسة" وتنتشلهم... كذلك تحولت "الروشة"، التي تحدّ "الرملة البيضاء" من الشمال، و"عين المريسة" من الجنوب، أي تتوسطهما، الى منطقة شعبية في نهاية السبعينات وطوال الثمانينات وبداية التسعينات. وتقول الاسطورة: ان الصخرة، التي رمت نفسها عنها ابنة راع عشقت أمير المدينة، في عصور قديمة، وماتت تضحية لشفاء عشيقها المريض، هي التي أعطت المدينة اسمها. فالراعية "بيريت" خلّدها الأمير الذي شفي بتسمية المدينة على اسمها، لكن الاسم تحور الى بيروت. وما زالت "الروشة" ترسم بعضاً من ملامح المدينة، كما رسمت اسمها. فقد حوّلها المستثمرون، كما وسط بيروت، الى منطقة مملوءة بالحانات والبارات في الداخل، ومملوءة بالمقاهي المتراصفة من أول كورنيش "الروشة" الى آخره... سلسلة غير مترابطة من المقاهي المكلفة "طردت" العائلات التي كانت تقوم ب"pic-nic" هناك. ومرة أخرى، استقبل مركب نجاة "عين المريسة"، غرقى الاستثمار في "الروشة"، ومنهم بالطبع شباب المدينة المفلس. هنا، على هذا الرصيف العريض، المواجه لل"ماكدونالدز" الذي لا يستطيع سرقة رواده الفقراء، والمواجه لمقهى "الأنكل ديك" الحائر بين المقهى الشعبي والمقهى السياحي، لا شيء يشبه قسميه الجنوبيين. لا مقاه ترث ذاكرة المكان كما في "الروشة"، ولا عقارات غالية تطرد المتطفلين وتبعدهم عن أرستقراطية المكان كما في "الرملة البيضاء". البحر هنا وحده الحكَم والحاكم. الرصيف للجميع. البحر كذلك. ومطاعم الوجبات السريعة التي اصطفت بمواجهته حفزت نمو شعبيته بدل العكس. هنا، تهرب بيروت: الغابة الاسمنتية، الغابة الإعلانية، الوحش الإستهلاكي. ويهرب وسط بيروت: الجزيرة السياحية، الوراثة الدولارية للذاكرة. وتهرب ضواحي بيروت: المحميات الحزبية، وتلحف الماضي بالأسود، وتجنّد القوة على الحاضر. وأطراف بيروت البعيدة عن رحم المدينة وأحداثها وزخمها. والشباب المتعب، المحاصر بالأزمة الاقتصادية والبطالة والفقر. والحائر بين حياة الليل في شارع "مونو" وبين النرجيلة المجانية في البيت. كلهم يهربون الى هذا الرصيف. يشمرون عن أيامهم ويغمسون لياليهم بهدير الأمواج الآتي من البعيد. كلهم يأتون البحر حيارى لوجههم، ليقول لهم ذلك الكورنيش العريض، الذي اتسع لجميع من تاهوا في المدينة، كم انه واسع مهما ضاقت المدينة بهم، وكم أن المدينة ضيقة وصغيرة وسخيفة وتافهة من دونه، مهما اتسعت وتطورت وترفهت وكبرت. وحده البحر وكورنيش "عين المريسة" ملتقاهم ومن البحر وإلى البحر يرجعون. محمد بركات