كشفت الحرب على العراق من ضمن ما كشفت إشكالات بالغة السلبية في استعارة المفاهيم الفقهية وتكييفها واقعياً، فاستحضرت مفاهيم وانتزاع تصورات تراثية من إطارها الكلي القديم لتطبيقها على سياق تاريخي مختلف. فإذا كان الذي يعلن الجهاد في الفقه هو إمام المسلمين، فإن الذي يعلنه الآن مع وجود الدولة العلمانية هو المفتي، وإذا كان قرار الجهاد ارتهن بالإمام لكونه يملك الأمر والسلطة، فإنه يتحول مع المفتي إلى مجرد "إعلان" لأنه لا يملك من الأمر شيئاً. سنشير لاحقاً إلى التبعات السلبية لإعلان المفتي. وإذا كان إعلان الجهاد فقهياً يكون للدفاع عن دار الإسلام الواحدة، فنحن الآن أمام دُور إسلام تحرك كل واحدة منها مصلحتها "القطرية" وتصطدم المصالح في حال الحرب على العراق، خذ مثلاً الكويت. وإذا كان قرار الجهاد مرتهناً بالإمام الذي يجمع بين الديني والسياسي فإنه مع انفصال الدين عن السياسة، وتعدد دُور الإسلام تشظت الفتاوى الدينية كتشظي القرارات السياسية، وفي حال المؤسسات الرسمية الدينية انقلب الفعل للسياسي وردّ الفعل من المفتي الذي يمثل الديني، فيصعب الفصل بين الديني والسياسي حين يريد السياسي الدمج بين الدين والسياسة. وإذا كان الجهاد في مفهومه القتالي يحتاج إلى عُدة وإعداد وعتاد للاشتباك مع العدو، فمع الدولة العلمانية أين يجد "الجهاد" نسقه الذي يتحقق فيه؟ وكيف؟ ومع دخول العدو ديار الإسلام فلسطين قبل العراق كيف يصبح مفهوم الجهاد الواجب وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة من دون أمر رئيس الدولة؟ وكيف تكون وسائل تحقيقه؟ ثم مع فصل الدين عن الدولة، بل معاداة الدين من طرف أنظمة عدة، وفقدان الحريات وأبرزها وأهمها الحرية الدينية، كيف يكون "الجهاد"؟ وهل يصلح هنا تطبيق "الجهاد مع البر والفاجر" فنرد المعتدي الخارجي لنبقى تحت سلطة المستبد الداخلي؟ وكيف يكون مفهوم الجهاد وما وسائل تحقيقه حين تنفصل إرادة السياسي عن إرادة الفقيه، ويتناقض الموقفان، فالمفتي يدعو للجهاد، والسياسي يقدم العون والمساعدة للغازي والمستعمر؟ ولعل الإشكال الأكثر أهمية مع ما سبق هو التحولات التي طرأت على مفهوم "العدو" ومن ثم مفهوم "العدوان" الذي من صوره "التدخل" في القرار السياسي لدولة ما. فمعروف أن الدولة القطرية لم تتحرر حقيقة بعد الاستقلال، بل خضعت لأشكال جديدة من التبعية الاقتصادية والسياسية وغيرها، حتى التربوية والتعليمية في بعض الأحيان، وهو ما سمي "الاستعمار الجديد" وتتداخل فيه السيطرة الخارجية مع الاستبداد السياسي، والقوى الدولية مع النخب الحاكمة في علاقات ومصالح، ما يجعل من الواقعي النظر إلى تداخل مفهومي الجهاد: الجهاد ضد الداخل الحاكم والجهاد ضد الخارج معاً. كثير من التساؤلات والإشكالات تلف موضوع "الجهاد" في ظل تعقيدات "الدولة" وما يتعلق بها، لكن، لنكن أكثر تحديداً ونستعرض إشكالات فتاوى الجهاد بخصوص العراق كحال تطبيقية على ما سبق. انطلقت الدعوات المطالبة بالجهاد، وأنه مع بعض الفتاوى واجب عيني على كل مسلم ومسلمة، وهنا نقف لنتساءل: ما معنى الجهاد الذي نحن مطالبون به؟ المعنى هو بلا شك، الجهاد القتالي، وهو الذي في ذهن كل فقيه ومفتٍ. ثم نتساءل: هل هذا المعنى متاح لكل مسلم ومسلمة؟ لا نجده متاحاً للجيوش العربية التي تأتمر بقياداتها، وهي المعنية أصلاً به، وليس متاحاً لكل أحد مع وجود الحدود وتعقيداتها الأمنية والسياسية، وهنا تغدو صيغة الجهاد اللادنية نسبة لبن لادن هي الأقرب إلى التطبيق والإمكان "الهجوم على من يصادفه من الأمركيين وغيرهم"، فهل هذا هو الجهاد الذي يهدف إليه المفتون؟ ثم نتساءل: كيف يمكن فهم "الفرض العيني"؟ هل يتحقق الوجوب العيني هنا بأنه يلزم المسلمين حكاماً ومحكومين، جيوشاً وعامة، رجالاً ونساءً، ترك بلادهم والتوجه إلى أرض العراق؟ يقترن بعض الدعوات إلى الجهاد بالدعوة إلى "فتح الحدود". حسناً لنقل إن الحدود فتحت لكل الناس، فكيف سيكون الجهاد في حرب تدار بأرقى وسائل التكنولوجيا المتطورة، في حين أن هؤلاء المجاهدين يفتقد معظمهم إلى التدريب والإعداد والوسائل، فضلاً عن فقدان التنظيم وأمن الدخول وأمن العودة حتى لا يظهر تعبير: "العائدون من العراق" على نهج "الأفغان العرب" وأمن الانخراط في النظام العراقي، إلى غير ذلك ما يجعلهم يلقون بأنفسهم إلى التهلكة، وقد رأينا كيف استهدفت قوات التحالف الكثير منهم قبل الوصول إلى الجيش العراقي وكيف أن الجيش العراقي تركهم يواجهون مصيرهم وهرب! ثم ما معنى "الوجوب العيني" وهو بحسب الواقع ينصرف إلى فئة محدودة من المتدينين الذين يمتلكون الحماسة والقدرة مع وجود الجيوش النظامية وعتاد الأسلحة المكدسة والتي تصرف إليها معظم موازنات الدولة مقدمةً على التنمية وغيرها؟ ألم يكن من الواجب توجيه هذه البيانات والفتاوى إلى أولياء الأمر من القادة والزعماء حتى تكون واقعية، وأيضاً حتى تكون إعذاراً وإبراءً للذمة بمنطق الفقيه نفسه؟! ثم كيف يوجه المفتي فتواه بوجوب الجهاد وجوباً عينياً على الأمة، ويتجاهل التسهيلات المقدمة للجيش الذي يدعو إلى مجاهدته وهو ينطلق من أراضيه أو من أراض مجاورة؟ ثم كيف سُكت على تلك الاتفاقات العسكرية الموقعة قديماً والتي بموجبها تقدم التسهيلات العسكرية الآن؟ أين كان المفتي حينها؟ والتساؤل الأهم هنا: هو ما وظيفة الجهاد؟ الجهاد بمفهومه الدفاعي يكون بهدف حفظ الدين والحرية الدينية، ومواجهة أي عدوان يستهدف الشريعة أو أي اعتداء على الدولة الإسلامية أو أي تدخل من جانب قوة خارجية، وفي حالة العراق، نجد الآتي: - حصل عدوان من قوى خارجية طوال فترة الحصار المفروض على العراق، وكانت الطائرات الأميركية، والبريطانية تقصف الأراضي العراقية باستمرار. - حُصر العراق 12 سنة راح ضحيتها الآلاف من الضحايا خصوصاً من الأطفال، بحسب التقارير الرسمية. - تقاعست الدول الإسلامية عن رد اعتداء العراق على الكويت، الأمر الذي أفسح المجال للتدخل الأجنبي الذي جر الويلات على المنطقة ويأتي هذا الغزو استكمالاً له. - اعتداء النظام العراقي طوال فترة حكمه على كل الحقوق الإنسانية، والتنكيل والقتل والتشريد، واستخدام الكيماوي ضد أبناء شعبه، وانتهاك حقوق الشريعة والقانون بكل معانيها. أين كان المفتون أمام هذه الحقائق على مر هذه السنين؟ وبعد هذا تنص الفتاوى على أن الجهاد واجب حفاظاً على "السيادة" و"التحرر الوطني"! وهل كانت هذه المعاني متحققة من قبلُ في العراق؟ وهل الجهاد واجب وجوباً عينياً لرد غزو الأميركيين وحلفائهم والاستمرار تحت "الاستبداد" وسحق الإنسان العراقي ونكران كل حقوقه الآدمية؟ ماذا بقي من "التحرر الوطني"؟ هذا بلا شك يدعونا إلى إعادة النظر في مفهوم "الجهاد مع كل بر وفاجر". كان الأجدر بأولئك المفتين أن يكونوا أكثر معرفة بالواقع ويدعوا إلى "الجهاد" ضد الحاكم الطاغية عملاً بشريعة الإسلام التي بيّن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". ولو مورس الجهاد في الداخل لما وصلنا إلى هذه المرحلة من استفحال الخطب وتزاحم الفتن والمصائب. ولا شك في أن كل شرائط الجهاد ضد الحاكم قد استوجبها النظام العراقي الذي لم يحقق أياً من وظائف "الدولة" التي نجاهد للحفاظ عليها، كالهوية، والشرعية، والاستقلال، وصيانة الحقوق والدين وغير ذلك. إن هذه الإشكالات جميعاً وتلك المحاذير توجب علينا تجديد النظر والقول في مفهوم الجهاد وصوره ووسائله وكذلك تجديد النظر في من يقرره ويدعو إليه، خصوصاً بمعناه القتالي، وتطبيقات المفهوم مع وجود الجيش النظامي. وكذلك تفرض علينا إعادة النظر في من له الحق بالإفتاء في مسائل الاجتهاد" فالشُّعب المعرفية تشعبت وتنوعت وأمر الجهاد لم يعد قاصراً على مجموعة من النصوص يستنبط منها الفقيه الحكم ليقدمه للناس، بل هي مسألة سياسية - عسكرية دينية مركبة، ومع وجود نظام الدولة العلمانية والنظام السياسي القائم على "المصلحة" الشخصية ثم القطرية أصبحت الأمور أكثر تعقيداً. والتعقيدات التي انطوى عليها المفهوم في حقل تطبيقه أظهرت أنه ليس شعاراً نهتف به، بل هو مضمون يمكن الاختلاف فيه وعليه، وهذا ما دفع ببعض المحاولات إلى البحث عن فضاءات جديدة للمفهوم تتسم بالسلمية بعيداً من مفهومه القتالي، وتحت مسمى جديد يميزه عن المعنى القتالي وهو "الجهاد المدني". صحيح أنه كانت هناك ممارسات وصور قديمة تندرج ضمن التسمية هذه، تارة باسم "الجهاد الأكبر" جهاد النفس والهوى، وتارة باسم "جهاد اللسان والمال"، لكن التطورات والظروف المتغيرة ارتقت بالممارسات حتى شملت ألوان العمل الإعلامي والاقتصادي والسياسي والشعبي وغيرها" إذ لا سبيل لجهاد قتالي حقيقي وفاعل إلا ببناء قاعدة الوحدة الداخلية والقوة المادية، وهذا كله تسبقه كل المجالات السابقة التي لا بد من توفيرها ابتداء قبل الانصراف للمعنى القتالي، فقد رأينا الآن كيف أن تجاهلنا لها دفع بنا إلى ما وصلنا إليه. وتجديد النظر والقول في "الجهاد" من شأنه أن يمنع توظيف الديني في خدمة السياسي على النحو الذي رأيناه في عدد من الفتاوى. * كاتب سوري مقيم في القاهرة.