Joseph A. Massad. Colonial Effects: The Making of the National Identity in Jordan. التأثيرات الإستعمارية: صناعة الهوية الوطنية في الأردن. Columbia University. 2002. 396 pages. يرتبط تشكل الهويات الوطنية المستحدثة في دول ما بعد الإستعمار في جوانب عديدة منه بصيرورة إستعمارية معقدة. وقد ساهمت تلك الصيرورة في إنتاج هويات هجينة، كثير من عناصرها مخلوق لكن تم اضفاء مسحة محلية عليها لشرعنتها تقليدياً ووطنياً. هذا ما يقوله جوزيف مسعد، أستاذ تاريخ الفكر العربي في جامعة كولومبيا في الولاياتالمتحدة في هذا الكتاب العميق والمهم. فالقوة الإستعمارية المعينة خطّت حدوداً سياسية إعتباطية لرسم الكيانات الخاضعة لها هي ذات علاقة وطيدة بمصالحها الإقليمية، وبالتقاسم الإمبريالي الدولي، أكثر مما لعلاقة تلك الحدود بتاريخ وجغرافيا وديموغرافيا المناطق المستعمرة. ولكي تتمايز الوحدات الإستعمارية عن بعضها البعض، على الشكل الأوروبي الحديث، أي "الدولة-الأمة" خاصة في سياقات إجتماعية وسياسية وإثنية متداخلة جداً، اشتغلت الفكرة الإستعمارية على خلق هويات وطنية جزئية ومحلية تتعرف بالتضاد مع الهويات المخلقة الأخرى، المجاورة تحديداً. ولم تخلُ هذه العملية التعسفية في خلق الهويات من قسر وإرغام وتوحيد إجباري وتنميط على النمط الفوكوي كما يشير المؤلف وتجميع وصهر فوقي في "بوتقة الهوية الوطنية" الجديدة. وفي قلب هذه العملية هيكلَ الإستعمار مؤسستين مركزيتين أنيطت بهما مهمة تصنيع الهوية الوطنية وخلق فكرة الفرد المواطن المقطّع الولاءات إلا للدولة الحديثة، وهما المؤسسة العسكرية والمؤسسة القانونية. فهاتان المؤسستان لعبتا ما يمكن وصفه ب"دور الحاجز التاريخي" الذي توقفت عنده "لحظة ما قبل الكولونيالية" الخاصة بالمجموعة البشرية المعنية، ودخلت بعده إلى اللحظة الكولونيالية وما تلاها. وعبور الحاجز التاريخي ذاك، كما يسهب الكتاب بتفصيل أخّاذ يعني، لجهة خلق الهوية الوطنية، إنتاج مكونات جديدة فيها، وقمع مكونات محلية أصلية، وتذويب عناصر في بعضها البعض، وتقديم عناصر على أخرى، وخلق تراتبية جديدة تنهي التراتبيات التقليدية. لكن الباهر في هذه العملية الفوقية الصرفة أن الخلاصة الناتجة عنها، أي الهوية الوطنية الجديدة، تأخذ موقعاً تأسيسياً وشبه مقدس في التعريف بالكيان الجديد وتزعم أنها روحه وجوهره وإمتداده التاريخي، فيما هي جديدة مستحدثة قصيرة العمر، ووليدة التهجين الإستعماري أصلاً. وحالة تشكل الهوية الأردنية في الكتاب ليست سوى مثال على تأثير الآليات الإستعمارية التي طالت عشرات الدول المستعمَرة. وما ينطبق عليها، كما يكرر المؤلف نفسه، ينطبق على معظم بلدان عالم العرب والمسلمين. هذه الملاحظة المُقحمة مهمة حتى لا يُساء الظن ويُعتقد بأن الأطروحة هدفها المس بشرعية الكيان الأردني أو غير ذلك. فالكتاب أولاً وأخيراً جهد أكاديمي ينتمي إلى حقل دراسات الهويات وتشكّل القوميات في سياقاتها التاريخية، وليس سجالاً سياسياً يؤيد أو يعارض. والإنطباق النظري على الحالة الأردنية مثير ومهم. فهنا تمكنت المؤسستان، العسكرية والقانونية، اللتان تأسستا تدريجياً عشية بداية الإنتداب البريطاني في الأردن عام 1921 من إستيعاب الأفراد والقبائل والمجموعات السكانية في شرق الأردن، وإعادة تنظيمها وفق رؤية جديدة تتسق مع مفهوم "الدولة الأمة". فقد انتهت حقبة "عدم وجود حدود سياسية"، وحقبة التنقل الحر، والإنتماء الحر، والتقاضي الحر، والغزو الحر. وصارت كلها من الآن فصاعداً مقيدة بأُطُر القوة العسكرية الجديدة التي أعلنت إحتكار القوة وبدأت عملية نزع سلاح البدو، وبأطر المؤسسة القانونية التي بدأت بإحصاء الأفراد ومنحهم لقباً "مواطنياً" جديدا منسوباً إلى الكيان الذي وجدوا أنفسهم فجأة رعاياه. وفجأة صار ما كانت ممارسته مُعتادةً مجّرماً يقع تحت "طائلة القانون"، إن في نمط التنقل أو التقاضي أو التناصر بالقوة. يرى مسعد أن الأردن مر بأربع لحظات تاريخية ساهمت في صياغة هويته وثقافته الوطنية الحديثة. أولاها لحظة وصول الإستعمار البريطاني وقيامه عام 1921، والتحالف التي تم مع الشريف حسين للتخلص من الحكم التركي في المنطقة. بعد تلك اللحظة دخل شرق الأردن مرحلة تاريخية جديدة أنهت مرحلة سابقة، وبدأت الإدارة الإستعمارية ترسم الشكل السياسي والإجتماعي، ثم الثقافي، للبلد. واللحظة الثانية تمثلت في التوسع الجغرافي والديموغرافي الذي شهده شرق الأردن سنة 1925 بإتجاه الجنوب حيث ضُمت مدينة ومنطقة معان إليه، ثم لحظة التوسع الثانية سنة 1948 والتي تمثلت بضم الضفة الغربية وسكانها. أما اللحظة التاريخية الثالثة فتجسدت في حركة تعريب الجيش وطرد الجنرال غلوب باشا سنة 1956، وقد مثلت مفترقا كبيرا في صناعة الهوية الوطنية. اما اللحظة الرابعة فكانت مع إندلاع الحرب الأهلية سنة 1970، والصراع الذي انفجر بين النظام والمقاومة الفلسطينية آنذاك. ولعبت المؤسسة العسكرية دوراً مركزياً في إنتاج الرموز والتعبيرات الوطنية الأردنية وتكريسها في داخل المجتمع الحديث التكوين. وكان ذلك تحت قيادة جون غلوب، أو غلوب باشا، الضابط البريطاني الذي خدم في أعلى مراتب الجيش الأردني من 1930 الى 1956، وكان قائداً للجيش بين 1939 و1956 عندما طرده الملك حسين. وكان هدف غلوب باشا إقامة جيش يكون بمثابة العمود الفقري للمجتمع، ويمثل بوصلة الهوية الوطنية سواء من حيث الشكل أو الزي أو النشيد الوطني أو الممارسة. وكان أن أستقدم إليه كثيراً من تقاليد الجيش البريطاني، سواء من جهة الإنضباط أو الزي والموسيقى، وأضاف إلى تلك التقاليد رتوشاً أخذ صبغة محلية مثل الكوفية الحمراء التي استقدمها أصلاً من مدينة مانشستر البريطانية، بحيث يبدو كل الجيش وكأنه مؤسسة محلية خالصة بتقاليد أردنية صرفة. كما لعبت المؤسسة القانونية دوراً لم يقل مركزية عن نظيرتها العسكرية. فقد عمل البريطانيون منذ أوائل العشرينات على تصفية الأنظمة العشائرية القضائية نيابة العشائر وإخضاع بدو شرق الأردن إلى نظام الدولة القضائي والقانوني. وصار الإنضباط بمؤسسة الدولة، القانونية هنا، مصدر تعريف المواطنة والهوية الوطنية، والمرجعية الأساسية في تعريف الإنتماء إلى الكيان الجديد. ويأتي في هذا السياق أيضاً إصدار مجموعة من القوانين الخاصة بالجنسية والتجنيس وتعريف من هو الأردني. إضافة إلى ذلك كان هناك إهتمام خاص بترقية البدو وجعلهم محوراً مركزياً من محاور الهوية الوطنية. ويرصد مسعد أثر توسع الأردن، في الخمسينات من القرن العشرين، وتقلصه، في أواخر الثمانينات، على تشكل الهوية الأردنية في داخل كيان مرن احتوى الكثير من المكوّنات البشرية والديموغرافية المختلفة. ففي الحالة الأولى وبقرار ضم الضفة الغربية إلى شرق الأردن سنة 1949-1950 تشكلت المملكة الأردنية الهاشمية، وأصبح الفلسطينيون الذين هاجروا إليها مواطنين أردنيين ذوي حضور قوي وفعال. وفي الحالة الثانية ومع قرار فك الارتباط بالضفة الغربية سنة 1988 لف الغموض وضع الفلسطينينالأردنيين، الذين بقوا بطبيعة الحال، ومن ناحية قانونية، مواطنين أردنيين، لكن طبيعة العلاقة مع الضفة الغربية التي تنتمي إليها غالبية فلسطينيالأردن أصبحت معقدة. وفي اللحظتين معاً كان هناك انعطاف مهم في النظر إلى الهوية الأردنية وكينونتها ومن هو الذي تنطبق عليه، أو لا تنطبق. وفي الغالب الأعم كانت سياسة الدولة الأردنية تقوم على أردنة الفلسطينيين، أي جعلهم أردنيين، وطُبقت إجراءات عديدة من أجل هذه الغاية. لكن الدولة ذاتها كانت تتبنى سياسات مناقضة لذلك، خاصة في عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي، عندما شجعت الإنقسام الإجتماعي والسياسي بين المجموعتين الديموغرافيتين خشية أن يؤدي التقارب والتوحد بينهما إلى تشكيل أحلاف على أساس طبقي يكون هدفها قلب نظام الحكم. وقد كانت سياسة الدولة تخويف الشرق أردنيين ب"البعبع الفلسطيني"، وبالتالي دفعهم إلى الإحتماء بالنظام، ومن ثم تزويده الحماية الشعبية المطلوبة بإعتباره الجهة التي تحقق الأمن للأردنيين. وفي حقبة ما بعد حوادث أيلول سبتمبر بين المقاومة الفلسطينية والجيش الأردني، وتحديداً في تشرين الثاني نوفمبر 1970، أسس الملك حسين بإستشارة من رئيس وزرائه المتشدد آنذاك وصفي التل "الإتحاد الوطني" بهدف إعادة تعريف الهوية الوطنية الأردنية. وكان الهدف من هذا الاتحاد "أردنة الأردن"، وصهر الجميع في بوتقة واحدة، وتوفير بيئة لكثير من المثقفين الأردنيين الذين لم تكن لهم خلفيات قبلية، أو عائلية قوية. لكن لم يستمر ذلك الاتحاد طويلاً رغم كل الجهد الرسمي لبث الروح فيه، خاصة أن "مؤسسه الروحي"، وصفي التل، كان قد اغتيل بعد وقت قصير من تأسيس الإتحاد. لكن همّ "إعادة تعريف الهوية الأردنية" ظل مُلحاً، وقد تجسد هذه المرة في مشروع سياسي أخطر هو "المملكة العربية المتحدة" الذي طرحه الملك حسين سنة 1972 بأمل أن يكون الصيغة السياسية التي تتجاوز منظمة التحرير الفلسطينية ويندرج تحتها الفلسطينيون على شكل وحدة مع الأردن. لكن المشروع سرعان ما فشل وطواه النسيان أمام المعارضة الشرسة التي لقيها، ليس فقط من منظمة التحرير والفلسطينين، بل من العرب أيضاً. ويصل مسعد إلى السؤال المركزي الأهم، وهو من هو الأردني؟ وهنا يبدو الأمر الملح في الكتاب تعريف وضع وهوية "الأردنيينالفلسطينين"، أي الفلسطينين الذين هُجروا من فلسطين سواء جراء حرب 1948 أو 1967. فهؤلاء الذين يشكلون غالبية السكان هم العنصر الأعقد في شكل الهوية الأردنية الوطنية، خاصة مع تنامي الدعوات التي تنادي بها أقلية متشددة في الأردن إزاء الفلسطينيينالأردنيين، وتطالبهم بالتخلي عن "فلسطينيتهم" لإثبات "أردنيتهم". ينتقد مسعد بشدة هذه الدعوات ويرى أن هؤلاء الفلسطينين لا يرون تناقضاً بين مكوني هويتهم الفلسطينيوالأردني، بل يرونهما مكملين لبعضهما البعض. ومن ناحية ثانية، وعلى عكس التخويف والمبالغة التي يرددها المتشددون، فإن فلسطينييالأردن لم يشكلوا أي تهديد للنظام في الأردن. فهم لم يقوموا بأية ثورة شعبية ضده، ولم ينظموا أي إنقلاب عسكري عليه، لا أثناء أحداث أيلول الأسود سنة 1970 ولا بعدها خلال الإنتفاضات الشعبية في شمال أو جنوبالأردن في أكثر من مرة. بل عاشوا بسلام في الأردن، وصارت هويتهم ثنائية وممزوجة في السياق الأردني. والكثيرون منهم، وخاصة الجيل الجديد لا يعرفون وطناً لهم غير الأردن، إضافة إلى ذلك فإن سياسة الحكم في الأردن القائمة على "بدونة الأردنيين" قد لحقت بالفلسطينيينالأردنيين أيضاً وامتزجت عاداتهم ولهجاتهم وممارساتهم بنظيراتها عند الشرق أردنيين، وقد زادت نسبة الزواج المختلط، وتم صهر عناصر عديدة من التكوين الهوياتي المتنافر لصالح هوية مشتركة. كتاب مسعد سوف يحتل موقعاً مهماً في أدبيات التأريخ للأردن الحديث، ليس فقط بسبب فرادة وريادة موضوعه، بل لموسوعيته اللافتة أيضاً. فهو كتاب مفتوح على السياسة والتاريخ والإجتماع والثقافة الشعبية بالمعنى العريض للكلمة. فإذ يتابع تشكل الهوية الأردنية في القرن العشرين عبر خلافات القصر وإنقلابات الوزارات فإنه يدلف إلى دراسة تأثرها بالمغزى الجندري لتطور اللهجات الأردنية بين من يلفظون القاف "آفاً" أو "قافاً" كالجيم المصرية، أو "كافاً". وإذ يحتوي على تعقيدات الصراع بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية سنة 1970 وأثره في الهوية الأردنية، فإنه يلاحق تطور المسلسلات البدوية من "وضحى وإبن عجلان" إلى "نمر العدوان" في التأثير في تلك الهوية. إنه كتاب كبير بإمتياز.