"الأردن الكبير"، الفكرة السياسية الأحدث أردنياً، والأعمق تعبيراً عن المأزق الذي دخلته المملكة بجوارها الملتهب والمضطرب، والفاقد لرؤية مستقبلية عن مآلاته، تفرض على الرسميين والشعبيين أعباء البحث والتحري عما يجنب بلادهم ويلات دائرة النار. لا يخفي الأردنيون عموماً مخاوفهم من مستقبل الإقليم، وتأثيراته على جغرافية المملكة، التي باتت يومياتها كحقل ألغام، يكاد أحدها أن ينفجر في أية لحظة، ما يدفع بهم إلى التفكير "خارج الصندوق"، وفق وصف أحد الرسميين. المخاطر المحدقة بالأردن كدولة تجاوزت الخطر التقليدي، الذي انحصر على مدى عقود طويلة بالمخاوف من ترانسفير للفلسطينيين من غرب نهر الأردن إلى شرقه، فقد باتت الآن على جبهتين أخريين، سوريا الغارقة بنظامها الدموي، والعراق المغرقة بالمذهبية، فيما تخيم على الجانبين رايات تنظيم داعش. أفكار القصر الأردني، وعلى لسان العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، أعرب مراراً عن خطورة الوضع الذي تعيشه المملكة، خاصة لجهة تنامي التطرف وعلوه في الإقليم، ما دفعه إلى التفكير في آليات لدرئه عن حدوده. ثمة أفكار عديدة تداولتها أروقة القرار في الأردن، كان آخرها إعلان الملك عبدالله الثاني التوجه نحو تسليح العشائر السورية والعراقية القاطنة على حدود المملكة، في محاولة لتوظيفها في مواجهة تنظيم داعش، الذي شارفت دولته المزعومة بلوغها. ورافق تلك الأفكار إنتاج ما يسمى ب "الراية الهاشمية"، التي سلمها الملك الأردني في مراسم احتفالية لقيادة الجيش، في خطوة فسّرت -ضمن تفسيرات عديدة- على أنها عودة إلى جذور فكرة "دولة الهاشميين"، التي أسسها الملك عبدالله الأول عام 1921 تحت اسم "شرق الأردن"، وهي نواة الدولة التي أمل المؤسس أن تبلغ سهول حوران السورية شمالاً. جغرافيا متغيرة في التاريخ الأردني جذور عميقة لفكرة الأردن ذي الحدود المتغيرة، والهويات المتعددة، التي تفتح الباب واسعاً أمام فكرة "الأردن الكبير"، إذ مرت الجغرافيا الأردنية بعدة مراحل، منحتها المرونة في التجاوب مع دكتاتورية الإقليم، بدأت بتأسيس الانتداب البريطاني - بوصفه السلطة الاستعمارية القائمة - لما عُرف بالإدارة المحلية أو الذاتية ل "شرق الأردن"، التي شهدت بناءً ل "كيان سياسي - بيروقراطي"، على يدي الملك المؤسس، وفي هذه المرحلة جرى تعريف "سكان الإقليم" بحسب انتمائهم للكيان الناشئ. "المرحلة الثانية"، بدأت -فعلياً- بوجود "القوة الكولونيالية"، عندما أطلق الأمير عبدالله الأول، بعد قليل من تنصيبه أميراً على شرق الأردن، مشروعاً لتوحيد "سورية الكبرى"، متأثراً بنهج والده الشريف الحسين بن علي (مفجّر الثورة العربية الكبرى)، وشكّل طموحه بتوحيد أقطار سورية (سورية، لبنان، الأردن، وفلسطين) في ملكية واحدة رأس أجندة السياسة الخارجية الأردنية، وكذلك الخطاب الموجه للداخل، الذي شكّل "المضمون الهوياتي"، متخذاً عناصره من السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ل "سورية الكبرى"، بمفهوم واسع، دون اعتبار لحدود الجغرافيا الوطنية الوليدة، وبتجاهل تمظهر دلالة الأمة/ الشعب في علامات واضحة. وولج الأردن "مرحلة التطور الثالثة" دون إنهاء "المرحلة الثانية"، عبر لحظتي توسع جغرافي - ديموغرافي، الأولى كانت بتوسع شرق الأردن عام 1925 باتجاه الجنوب، ونجم عنها ضم محافظة معان وسكانها، التي تشكل حالياً نحو 30% من مساحة الأردن، والثانية لحظة التوسع بضم الضفة الغربية وسكانها عام 1948، في أعقاب الاحتلال الإسرائيلي لأجزاء واسعة من فلسطين التاريخية. ولعل المحطة المهمة الأخيرة (المرحلة الرابعة) في تطور جغرافية الأردن كانت باتخاذ الملك الراحل حسين بن طلال في 31 تموز 1988 قراراً ب "فك الارتباط مع الضفة الغربية"، وهو القرار الذي أسفر عن إعادة الجغرافيا الأردنية إلى حدودها الحالية، مع الاحتفاظ بالديموغرافيا الوافدة إليه من فلسطين. كيانات طائفية مراحل تطور الجغرافيا الأردنية الأربع كانت تعبيراً عن قدرة المملكة على التجاوب مع دكتاتورية الإقليم، وانفلاته الديموغرافي، وبما أسفر عن الدولة الأردنية الحالية، التي باتت الآن عاجزة عن الاستمرار بذاتها، فجوارها مضطرب، وتجوبه مخاضات كيانات متعددة، وجدت أحد تعبيراتها في "دولة داعش"، وكذلك في إلحاح الطائفيين على المطالبة ب "كيانات طائفية"، سنية وشيعية وعلوية، تستجيب لدعاوى الاضطهاد والحق بتقرير المصير، سواء في سوريا أو العراق. ويتفق المراقبون أن "ما تشهده دول الإقليم هو تعبير عن إخفاق الدولة الوطنية، التي تشكلت في أعقاب "اتفاقية سايكس بيكو"، في كل من العراقوسوريا، عن تحقيق طموحات شعوبها وتطلعاتها، وعجزها عن تشكيل هوية وطنية جامعة، تحفظ تنوعها الديني والطائفي والأيديولوجي". يقول الباحث في شؤون الصراع خالد المحاميد، ل «اليوم»، إن "إخفاق الدولة الوطنية، في سورياوالعراق، انعكس في صراعات دموية، أضعفت الدولة المركزية، التي باتت عاجزة عن فرض سيطرتها على حدودها الجغرافية". ويرى المحاميد أن "هذا العجز دفع بالأردن إلى تلمس مستقبله كدولة، والبحث عن آليات وقائية وعلاجية في آن واحد، تدفع بالخطر بعيداً عن كيانه، ووجد ضالته في خطوات كمهاجمة بؤر الإرهاب خارج حدوده، والسعي إلى توظيف التكوينات الصديقه من جواره في مواجهة عدوه، كما هو الحال في فكرة تسليح العشائر العراقية والسورية على حدوده". ويصطف الأردنيون، المتمسكون بالأردن الحالي، الذين يخشون على الهوية الأردنية من الذوبان في محيطها الديموغرافي، ما يحيل الأردنيين إلى أقلية في وطنهم، وكذلك يخشون من أفكار التوسع على مستقبل الكيان الأردني ذاته. يقول الكاتب والخبير في الشأن الأردني فهد الخيطان "الأردن في وضع مثالي من حيث: القدرة على ضبط الحدود، وتأمين الاستقرار الأمني الداخلي، وردع الجماعات الإرهابية، وإسناد خطوط الدفاع عن أمن المملكة في العمق السوري، وكبح عمليات اللجوء؛ أي خطوة أبعد من ذلك، ستحمل مخاطر كبرى، ربما تقوض ما تحقق في السنوات الأربع الماضية". ويؤكد الخيطان أن "أي طموح يتجاوز حدود المملكة سيعرض الأردن للخطر، ينبغي أن تبقى إستراتيجية الأردن إبقاء الفوضى داخل حدود دول الجوار، ومنع انتقالها إلى المملكة"، معتبراً أن "أزمات الإقليم أثبتت أن كل دولة تفكر بتجاوز حدودها، ستتورط في الفوضى". موقف رسمي مبهم السياسة الخارجية الأردنية هي شأن القصر الأردني، واستراتيجياتها محصورة بالعاهل الأردني، الذي لم صدر عنه ما يعبر عن التوجه نحو توسعة حدود الأردن، إلا أنه عبر مراراً عن "دور أردني" ممتد خارج الحدود الجغرافية. وفي مقابلات عدة مع وسائل إعلام غربية قال ملك الأردن إن "أذرع بلاده ممتدة في الشرق الأوسط وإفريقيا لمحاربة الإرهاب"، من دون أن يعبر عن نية بلاده التمدد جغرافيا خارج الحدود. ولكن في بداية الأزمة السورية دعا الأردن إلى شريط حدودي آمن، لاستيعاب اللاجئين السوريين، الذين زاد تعدادهم في الأردن عن 1.5 مليون لاجئ، غير أن الفكرة لم تلق قبولاً إقليمياً آنذاك. وبالتوازي مع ذلك، نفى وزير الإعلام الأردني د. محمد المومني نية بلاده التمدد خارج حدودها، إلا أنه أردف نفيه بالتأكيد على دور الأردن في السعي إلى تحقيق الاستقرار بالإقليم. الموقف الرسمي الضبابي الدائر حول "الأردن الكبير" يدفع بالجدل المحلي إلى مستويات مرتفعة، عززتها "الراية الهاشمية"، التي سلمها الملك عبدالله الثاني إلى قيادة الجيش الأردني في عيد جلوسه على العرش السادس عشر، ما يبقي الفكرة محل جدل وطني. خرائط متعددة الأردن، الكبير أو الصغير أو الحالي، هو جزء من خرائط متعددة تصدرها مراكز الدراسات والأبحاث الغربية، وتأتي في سياق ترسيمات جديدة للشرق الأوسط، تمنح بعضها الأردن حدوداً أوسع من الحالية، فيما تقسمه أخرى إلى دويلات صغيرة، وذلك استناداً إلى تقديرات موقف للصراعات الدائرة في المنطقة. بيد أن تطورات الإقليم، والصراعات الدائرة فيه، قد تفرض على السياسيين الأردنيين اتخاذ قرارات وخطوات باتجاه حماية الكيانية الأردنية، ما يترك فكرة "الأردن الكبير" أو "الصغير" في مهب مخاضات الإقليم.