السيد رئيس الجمهورية، تقوم إسرائيل يومياً، وبمباركة من الولاياتالمتحدة الأميركية ودعمها المعلنين، بتقتيل الفلسطينيين والدوس على كرامتهم، وتنكر عليهم أبسط الحقوق، بلا عقاب ولا حساب، متحدية، منذ نصف قرن، نداءات المجتمع الدولي وقرارات الأممالمتحدة. ومنذ ثلاثة أسابيع نرى شعب العراق المنهك بأكثر من عقدين من الحرب هو الذي يعاني ويلات حرب احتلال لا أخلاقية وحقيرة في انتهاك مكشوف للشرعية الدولية ولحقوق الإنسان. وقد سبق أن وفر قيام الجيوش العراقية بالغزو المشؤوم للكويت سنة 1990، والذي كان كارثة على العراق وعلى مجموع العالم العربي والإسلامي، ذريعة ذهبية للإدارة الأميركية لكي تضرب بموافقة من الأممالمتحدة ثلاثة عصافير بحجرة واحدة: - تدمير القدرات الاقتصادية والعسكرية لبلد عربي ادعى رئيسه بنفسه سنة 1989 وأمام العالم بأنّه يمتلك الوسائل "لمحو إسرائيل من الخريطة خلال بضع دقائق". - ضمان وجود عسكري مسلح دائم على أرض شبه الجزيرة العربية. - التحضير للمرحلة النّهائية التي تتمثّل في وضع اليد على حقول النفط العراقية عن طريق الاحتلال المباشر للعراق. وقد أخذت آلاف القنابل، المتطورة بمقدار ما هي فتاكة، تسقط على رؤوس المدنيين الأبرياء، وعلى المدن والأرياف، وعلى الأماكن والمعالم التي ترمز للحضارة الإسلامية ومنها بغداد التي كانت تدعى "دار السلام" طوال أكثر من ثمانية قرون. وكان صمتنا وعدم تحركنا طوال سنوات التحضير للعدوان على طرفي نقيض مع فكرة "استرجاع مكانتنا على الساحة الدولية". وهما اليوم في نشاز مع مبدأ "العزة والكرامة". بل هما في نشاز وشذوذ خصوصاً أن هذه الحرب تكشف بقساوة وفظاظة عن واقع العدوان وحقيقة ملابساته. وهذه الحقيقة التي زيفتها الإدارة الأميركية علانية منذ سنوات تتلخص في ما يأتي : 1 - أنّ الإدارة الأميركية قد وضعت نفسها خارج القانون الدولي. 2 - إنّ خلط الإدارة الأميركية بين الإسلام والإرهاب، و"صدام الحضارات" المزعوم يضفي على العدوان ذلك المفهوم الظلامي الخطر لحملة "صليبية" جديدة. 3 - أنّ للعدوان حوافز حملة استعمارية أصيلة. ولها أهداف معلنة هي "تحضير الشعوب المستضعفة" و"تحريرها من حكامها المحليين المستبدين" وأهداف حقيقية هي السيطرة على مواردها. يضاف إلى ذلك التضاعف المفرط للوحشية على مستوى الوسائل الضخمة الجبارة المستخدمة لتضليل الإعلام، والتدمير والتقتيل، مما تسمح به أكثر التكنولوجيات تطوراً. 4 - أنّ الاستيلاء على الثروات الكامنة في باطن الأرض العراقية يخضع لاستراتيجية المراقبة المباشرة والمطلقة للموارد والثروات العربية والإسلامية التي تتوقف عليها السوق العالمية للبترول بنسبة تزيد على 80 في المئة. 5 - أنّ الوعود بشن "حرب تجوالية"، "جراحية ونظيفة" لا يستهدف لها إلاّ رجال السلطة ومنشآتها الأساسية لم تعد تخدع حتى الحكومات التي آمنت بها وصدّقتها. 6 - أنّ الاستقبال الذي خص به الغزاة يشبه أي شيء إلا أن يكون تعبيراً شعبياً عن الفرحة والابتهاج بالجيوش المحررة. بل الواقع هو أنه معارضة لا تقل شراسة واستبسالاً من جنود سبق أن تنبأوا لهم بالاستسلام السريع الخاطف. 7 - أنّ إضفاء المصداقية على صورة النظام السياسي العراقي مدين بالكثير إلى ضخامة الأخطاء المتراكمة التي ارتكبها منذ زهاء ربع قرن من الزمن ووفرت للإدارة الأميركية كثيراً من الذرائع والحجج لوضع يدها على ثروات العراق وموارده. 8 - أن نزعة الهيمنة التي تجنح إليها الإدارة الأميركية، بما تنطوي عليه من تداعيات كارثية مدمّرة سيؤدي إلى الفوضى الدولية، وإلى تنامي هذه الفوضى وتفشيها. فالالتباس بين خضوع الشعوب واستسلامها، وخضوع الحكام واستسلامهم قد أدى بالمخططين للحرب في الولاياتالمتحدة إلى الشعور بخيبات أمل ستتراكم بمجرد انتهاء عمليات الغزو في حد ذاتها. 9 - أنّ العملية العسكرية في العراق تذكرمن جوانب عديدة بنموذج "إسقاط أنظمة على النمط الشيلي" عدَا أنّ الذي حدث في العراق هو قيام الجيوش الأمريكية ذاتها "بإنجاز العمل". 10 - أنّ المشروع المعلن والمنادى به المتمثل في "إعادة تشكيل الوضع السياسي في المنطقة"، لا يقتصر على العراق وحده. وسيأتي غداً دور البلدان المجاورة، بما في ذلك البلدان التي اعتقدت، مثل العراق، في وقت من الأوقات أنها تتمتع بعلاقات ممتازة مع الإدارة الأميركية. وسيأتي دور الجزائر في حينه. 11 - ولأن المواقف التي أعلنت السلطات العربية والإسلامية تنظر إليها الشعوب كما لو كانت استسلاماً مستهلكاً، فإنّ ذلك سيعطي رواجاً قوياً وسريعاً للمتطرفين الشموليين الذين يمارسون العنف والمتاجرة السياسية بالإسلام. السيد رئيس الجمهورية، إذا كنتم تقاسمونا هذا الإثبات للواقع المحصور في النقاط الإحدى عشرة المذكورة أعلاه، فإنه لا يسعكم إلا الوصول إلى نتيجة مفادها أننا معنيون مباشرة وبشكل خطير بهذه الحرب الإحتلالية لأسباب ثلاثة على الأقل: باعتبارنا بلداً عضواً في الأسرة الدولية، وبصفتنا عرباً ومسلمين، ولكوننا بلداً يختزن احتياطات نفطية مهمة وجاذبة للمطامع. وفي هذه الحال، تتجلى حتمية الكلمة والتحرك لأنهما أمران حيويان. فالصّمت وعدم الحركة أمران يصعب قبولهما لانطوائهما على ضرر بالغ لمستقبلنا. لقد قرر المرحوم هواري بومدين، غداة العدوان الإسرائيلي على مصر في حزيران يونيو 1967 قطع العلاقات الديبلوماسية مع الولاياتالمتحدة، ودامت تلك القطيعة عشر سنوات. وتم في الوقت ذاته، وضع جميع المصالح البترولية الأميركية في بلادنا تحت الحجز. وخلال حرب أكتوبر 1973: - فرض حظراً جزئياً على صادراتنا البترولية الموجهة إلى الولاياتالمتحدة الأميركية، وتم ذلك خصوصاً في إطار قرار مشترك اتخذه القادة العرب بإجماع الأصوات عدا صوت واحد... هو صوت الحكومة العراقية، كان هذا مكرا للتاريخ حقاً ولكنه كان على الأخص إرهاصاً بعلاقة حميمة غير مشروعة بين العراقوالولاياتالمتحدة دامت عشرين عاماً. - ثم انتقل بومدين شخصياً وعلى جناح السرعة إلى موسكو ومعه صك بمبلغ 400 مليون دولار، يدفع به نقداً ثمن أسلحة أمر بتسليمها مصر على الفور. كان مبلغ 400 مليون دولاراً يمثل نصف احتياطينا من العملة الصعبة في ذلك العهد. ولكي تقارن بين ما يقبل المقارنة من الأشياء، نذكر أن احتياطياتنا الحالية قد تجاوزت 25 بليون دولار. - أمر سوناطراك بأن تسلم وعشرات من الشاحنات الصهريجية المحملة بالمنتجات البترولية، وحاملات آليات ووسائل نقل وهندسة مدنية كانت سوناطراك قد اشترتها للتوّ قصد تلبية الاحتياطات الوطنية. السيد رئيس الجمهورية، إن التهديدات الناجمة اليوم، على الصعيد السياسي وبالنسبة إلى أمننا أكثر خطورة وقتامة مما كانت عليه في ذلك العهد، وعليه فإن العمل بات أكثر حتمية خصوصاً أنّ هوامش تحركنا أوسع بكثير. فما العمل إذن؟ إنّ الإدارة الأميركية لا تتصرف أساساً إن لم نقل بشكل استئثاري، إلا على أساس مصالحها واستنادا إلى الرأي العام الأميركي. فهي لا تعير اهتماماً إلا لما له صلة بهذين الدافعين. إنّ مثل هذا الخطاب وحده هو الكفيل بأن يصغى إليه ويقود إلى تحقيق اعتبار عادل لمصالحنا. وبينما نرى بلداناً ليست عربية ولا مسلمة تتحمل مسؤولياتها التاريخية إزاء نزاع منذور لأن تكون له أخطر النتائج والعواقب على الاستقرار في العالم، فإن أقل ما يمكن أن ننتظره من الذين يتولون زمام أمورنا ومصيرنا، وتقع عليهم مسؤولية العمل ووسائله هو بالتالي ما يأتي: 1 - الإفصاح بكل حزم وبدون مراوغة أو التباس عن شجبنا وإدانتنا للعدوان الخارج على القانون والذي يصيب شعبا في لحمه ودمه، وشرفه وممتلكاته. 2 - عدم منع الشعب الجزائري من أن يفعل ذلك أيضاً في الشارع وفي أماكن العمل، وفي الأكواخ بصورة نظامية وسلمية. فهذا حقه الثابت، كما يحق له أيضاً أن يعود مسيّروه وقادته إليه في نهاية الأمر، وأن يشرحوا له الرهانات، ويطلعوه على الدور الذي يجب أن تلعبه الجزائر في هذه الظروف، على سبيل التضامن حقا مع الشعب العراقي وعلى الأقل نظراً الى الرهانات الحاسمة التي تهم مصالحنا الحيوية ومصيرنا، كما تهم قضايا السلام والأمن في أرجاء المعمورة كافة. 3 - تقليص علاقاتنا مع الحكومات المشاركة في العدوان إلى الحد الأدنى الضروري وذلك حتى يعود الغزاة إلى جادة احترام القانون الدولي، ويسحبوا جيوشهم، ويعوضوا الخسائر والأضرار التي ألحقوها بالشعب العراقي، ويحترموا سيادته، ويتركوا له حرية التصرف بموارده ومصيره. 4 - التصريح للشعب الأميركي بأنه ليس من قبيل معاداته أن نعلن له بأن حرب الاحتلال التي تشن اليوم على العرب والمسلمين وبانتهاك صارخ للشرعية الدولية والضمائر، تلطخ شرف الولاياتالمتحدة الأميركية، وتشوّه سمعة إدارتها بالكامل على حمل قيم الحرية والعدل وحقوق الإنسان كما تدعي ذلك. إن ما له شأن واعتبار هو المصالح العليا للبلد، بل مصير الأمة. وعليه فإنكم أنتم، وأنتم في المقام الأول يا سيادة رئيس الجمهورية من يؤول إليه أمر التعبير والتصرف باسم الأمة، من أجل التأثير في مجرى الأحداث وفي اتجاه ما فيه الخير والبقاء على قيد الحياة في الصعيد الوطني، ومن أجل العودة إلى القانون ومبادئ العدل، والسلام والأمن على الصعيدين الوطني والدولي. وسواء وضعنا أنفسنا ضمن منطق المصلحة الوطنية، فإنّ الذي يجب أن تتأكدوا منه هو أنّ اختيار سبيل الصمت وعدم التحرك سيجعلنا من الخاسرين بكل تأكيد. فالأمور لن تكون أبداً كما كانت عليه في السابق، منذ أن: - أولاً، غيّرت الإدارة الأميركية من الآن فصاعداً نهجها في ما يخص علاقاتها مع الأنظمة العربية إذ لم تعد هذه الأنظمة في نظرها سوى حبّات ليمون معصورة غير ذات شأن. فهي تتأهب لنبذها الواحد تلو الأخر. - ثانياً، وفي ما يخص العالم العربي والإسلامي، فإن الغربيين على العموم، والولاياتالمتحدة الأميركية وصنيعتها الإسرائيلية على الخصوص، لن يحترموا لا حياتنا، ولا كرامتنا ولا سيادتنا، طالما كانت هذه الحقوق الإنسانية العليا غير محترمة ولا مرعية من جانبنا نحن داخل الحدود الوطنية لكل منا. وبالتالي فلنحترم أنفسنا، وليتصرّف قادتنا من أجل كسب الحماية الوحيدة ذات المصداقية، بعد حماية الله لهم، ألا وهي حماية شعوبهم. وفي نهاية المطاف، فإنه لا يكفل لنا البقاء والنجاة من نزعة الهيمنة المزودة بأشدّ الأسلحة فتكاً وتدميراً في تاريخ البشرية إلاّ بالعودة إلى شعبنا أي بإعطائه ضمانات بوجود صرح لمؤسسات دستورية وطنية ذات مصداقية، غير القابل للجدل وتأمين مسار ديموقراطي حقيقي له. لأن الأمة الأميركية أمّة ديموقراطية على رغم المفارقة التي يوحي بها السلوك الشمولي والتسلطي لإدارتها على المستوى العالمي. وعليه فسيكون من العسير على كل حكومة خلال هذا القرن الحادي والعشرين أن تسمح لنفسها بالمساس بحياة الأشخاص وبممتلكاتهم وكرامتهم، وتغيير الأنظمة السياسية كما يحلو لها، في بلد ينظر إليه الرأي العام الأميركي كما لو كان بلداً ديموقراطياً، أو سائراص على ما يبدو في طريق الدمقرطة على الأقل. فإذا سلكنا سبيل منطق المصلحة الوطنية، سنحيط أنفسنا بأكبر الحظوظ التي تقينا من مضار نزعات الهيمنة والتسلط. أما إذا مضينا في اتباع منطق الحكم والسلطة، فإننا سنكون، بكل تأكيد، من الخاسرين على جميع الأصعدة. فمن خلال سير مجريات عدوان آثم، ومشروع غير معقول للاستحواذ على البترول عن طريق إعادة التشكيل السياسي للعالم العربي والإسلامي، فإن التاريخ في الواقع هو الذي نراه بصدد توجيه إنذار لكل قائد من قادة منطقتنا كي يُقبل على كتابة صفحة جديدة ذات خيارين اثنين: الخراب والدمار أو الاستفاقة الصحية. نحن جميعا خطاؤون. لكن الله يغفر الذنوب جميعا لكل من لا يقنط من رحمته. لا تقنطوا من رحمة الله. واختاروا منطق القول والفعل. راهنوا على حماية شعبكم. الجزائر 9 أبريل/ نيسان 2003 * رئيس الوزراء الجزائري السابق.