انها العين التي لا تشبع، العين التي لا تمل، انه العطش الشديد للحرية المتجمع عندنا، والا فمن الصعب على احد ان يفهم لماذا نكرر هذا المشهد الذي سجلناه على الفيديو، لنراه طوال اليوم، ولا يهم عدد المرات التي رأينا فيها امامنا صورة لثورة شعبية تندلع، وشعرنا بخفقان قلبنا، الا اننا هذه المرة، لا نشعر بخفقان القلب فقط، انما نسمع صوت نبضاته السريعة، وصوت ضرباته التي تشبه ضربات الناقوس، تنادي بالحرية. بل اننا نشعر بالحسد لاهالي بغداد، يسيرون حشوداً يهتفون للحرية، ولسقوط الطاغية. من يمل من رؤية صورة ذلك الرجل الأشيب الذي يصرخ بالطاغية: "مجرم، مجرم... قتل الملايين من عندنا"، وهو يضرب بالنعل على غنيمته الوحيدة، بورتريه صدام حسين، دون ان ينسى دعوة المارين به، ان يأتوا ويعبّروا عن مشاعرهم بضرب الديكتاتور. نعم من يمل رؤية صورة النساء والرجال يصرخون فرحاً لسقوط مستبد اغرق بلاده بالدماء وشغلها بالحروب منذ مجيئه وحزبه البعثي الى السلطة حتى الآن؟ ومن لا يشعر بنفسه بصورة اوتوماتيكية بعد رؤيته ما يجري امامه، للمرة السابعة او الثامنة، ينتقل الى هناك، مع الحشود، ويرى الحدث على شاشة التلفزيون، وبالذات الهجوم على تمثال الطاغية في ساحة الاندلس، كأنه يشاهد مسرحية، ويقوّمها بخلفية الناقد المسرحي، غير معني بكل التعليقات "المناهضة للامبريالية والصهيونية"، التي يطلقها المثقفون العاطلون عن المشاعر وعن الثقافة، الذي يحتقرون الانسان بشكل عام، ويهددوننا بمستقبل اسود. بالتالي لا يفهم الحرية الا من يعشق الحرية. في بغداد استعاد مسرح الهواة مجده، وليس من المبالغة ان يُمدح اداء الفرقة المسرحية المكوّنة من الشبان الصغار، التي يتضح رغم صعودها الاول على المسرح انها تتمرن بما فيه الكفاية. ورغم غياب التنسيق بين بعضها البعض بصورة جيدة، الا ان ما قامت به من انجازات يفوق كل تصور. لم ينقصها شيء، اقصد كل تلك المركبات التي يحتاجها أي عرض افتتاح مضطرب. لنصف المشهد: في البداية يحاول بعض الشبان شق طريقهم بين الدبابات الاميركية ويصعدون مدرجات الساحة الصغيرة، يدورون دورة صغيرة حول تمثال الطاغية، سفاح بغداد الاول، لبرهة صغيرة، حتى تلك اللحظة كانت الكاميرات التلفزيونية لجمع الصحافيين الذين في فندق ميريديان، تنظر اليهم جزءاً من المشهد العام في الساحة، وفقط عندما يظهر شاب آخر بيده سلّم، تبدأ الكاميرات بالتركيز عليهم. انهم الآن اسياد المشهد، وليست الدبابات الاميركية. حلّت تلك اللحظة عندما يصعد شابان الى التمثال، ويخرجان حبالاً ضخمة يبدآن بلفها على كتلة الإسمنت الديكتاتورية الضخمة. ينزل الشابان، ليظهر في تلك اللحظة، ممثل آخر يحمل في يده فأساً. الكاميرات تتابع ما يفعله الحشد الذي راح يتناوب على ضرب التمثال بالفأس. عبثاً التمثال الضخم، مثل الديكتاتور، لا يسقط وحده، دون معونة أحد. يعرف الحشد انه دون مساعدة الدبابات الاميركية، لن يستطيع اسقاط التمثال. الديكتاتور يجلس على رقاب الناس مثل كتلة ضخمة من الاسمنت. اما قمة المشهد فتتجسد بتحرك الدبابة الاميركية باتجاه التمثال، ليتعاون الحشد مع جنود المارينز على ربطه. كان احد المشاهد الخالدة: الدبابة الاميركية وعليها حشد الشبان. انه المشهد الرمز، فقط بهذه الصورة يتم دحر الديكتاتورية. في برهة يسقط التمثال، وتتعالى الصرخات، لايصال الرسالة للجميع وعبر عدسات جميع المحطات التلفزيونية في العالم: اننا احرار. يخرج احدهم العلم العراقي القديم، ويلوح به، العلم العراقي بنسخته الاصلية، قبل ان يصنعه الديكتاتور على مقاسه. انه المشهد اللوحة الذي رأينا في اماكن اخرى من العالم، لكنه يحمل هذه المرة طعماً آخر، لأنه خاص بنا، نحن الذين نجلس الآن، امام شاشة التلفزيون، بعيداً عن ساحة الاندلس في بغداد، التي نعرفها، عندما كان ما يزال يجثو هناك ضريح الجندي المجهول، وقبل ان يحتلها التمثال المرعب صاحب الوجه المحتقن لرجل مصاب بالبواسير. الرجل ذاك الذي خيّرنا بين ان نكون مقتولين او مسجونين او مدفونين احياء او منفيين. نحن المنفيين منذ سنوات طويلة، والذين نشعر بنشوة الانتصار مع الحشود هناك، التي حطمت التمثال بصورة بطولية. وكما في الاتحاد السوفياتي المحتضر وفي المانياالشرقية، وكما في بلدان الديكتاتوريات الشيوعية السابقة، عندما سقطت تماثيل لينين، مثل احجار الدومينو، وظلت الدعامات الحديدية التي صبتها والنحّاتون الذين صنعوها، صورة نموذجية لامبراطوريات الخوف المنقرضة، وستظل في الذاكرة بورتريات صدام حسين الممزقة بمثابة صور لسقوط دولة رعب نادرة من نوعها. ما زالت هناك الآلاف ان لم يكن الملايين من صور وتماثيل الطاغية في طول البلاد وعرضها. سنرى في أي مجال سينجح العراقيون في استخدامها: ما اذا كانت ستُذوّب وتُصب من جديد ليستفاد من حجرها في اعمال اعادة البناء، او ستعرض في معارض خصوصاً لتذكير الناس بمرحلة رعب مروا بها. انهم لم ينتظروا حتى يسمعوا الخبر الاكيد لموت الديكتاتور، او احد بدائله، بل لم ينتظروا من الاميركان ان يفعلوا ذلك. وهم بإسقاط تماثيل وصور صدام حسين الحقيقي، دمغوا مصيره الى الابد، او انهم ما عادوا يكترثون به، حياً ام ميتاً: انه لم يعد ذا اهمية، مثل طغاة آخرين على شاكلته، اختصروا الاوطان بصورهم وتماثيلهم، وينتظرون مصيرهم في هذه الايام. تلك هي رسالة بغداد.