هنالك ظاهرة تعكس في الحقيقة مرضاً في هذه المجتمعات برزت أعراضه في التظاهرات والمسيرات في بعض العواصم العربية. فحين يتظاهر الناس في لندن أو روما أو نيويورك ضد الحرب فهذا شيء، وعندما يتظاهر الناس في دمشقوالقاهرة وصنعاء فهذا شيء آخر مختلف. ما وجه الشبه والاختلاف؟ أولاً، في ما يخص وجه الشبه فإن الإجابة عن السؤال سهلة جداً. فلا يوجد أي وجه شبه بين هذه التظاهرات بالمرّة. أما وجه الاختلاف فهي بيّنة لكل ذي بصر وبصيرة، مع ان النظرة العربية اليها هي نظرة تبسيطية تنمّ عن جهل كامل بما يحرّك هذه المجتمعات. في لندن أو روما أو نيويورك يتظاهر الناس ضد الحرب لأنهم يعيشون في دول ديموقراطية ولديهم فسحات من التعبير الحقيقي، وليس المتوهّم، في ما يخصّ جميع مناحي الحياة. قد يتظاهرون من أجل حق المرأة في جسدها، وقد يتظاهرون من أجل حقوق المثليّين، وقد يتظاهرون ضد سياسات حكوماتهم في السلم وفي الحرب، وكل هذا هو جزء من طبيعة الأنظمة السياسية والمجتمعية عندهم. وحتى عندما تخرج تظاهرات ضد الحرب في دول العالم الثالث كالمكسيك والهند فهي في جوهرها ضد هيمنة القطب الواحد الذي يفرض عولمة أميركية الصنع. لكن، عندما يتظاهر العرب ضد الحرب في القاهرةودمشق وعمّان وصنعاء فهم لا يتظاهرون لا لهذا ولا لذاك. البريطانيون مثلاً، يتظاهرون ضد سياسة حكومتهم التي ترسل البريطانيين الى الحرب. ويتظاهرون كونهم يمقتون ويلات الحروب، وكونهم ينشدون السلام الحقيقي والحياة لبني البشر. لكن، عندما يتظاهر العرب في العواصم العربية فهم لا يتظاهرون ضد الحرب، بل في الحقيقة يتظاهرون مع الحرب. المتظاهرون العرب في العواصم العربية الذين يرفعون صور صدام حسين ليسوا متظاهرين ضدّ الحرب بل هم في قرارة أنفسهم مع الحرب ومع ويلاتها. إنهم يتظاهرون لأنهم ينشدون الحرب، ولأن حكوماتهم لم ترسل جيوشها للحرب. أي ان هذه التظاهرات في الحقيقة مبطنة تنشد الموت وليس الحياة. العواصم العربية لا تعرف تظاهرات ومسيرات سلمية. فحين افتعل النظام العراقي الحرب مع ايران لم يخرج المتظاهرون العرب ضدّ الحرب، وحين غزا صدام الكويت لم يخرج المتظاهرون العرب ضدّ الغزو، وهم حين اندلاع الحرب يرفعون صور صدام في مسيراتهم هذه. فهل يمكن ان تكون هذه تظاهرات سلمية؟ الشعارات المرفوعة في شأن الاهتمام بالشعب العراقي ما هي إلا ضريبة كلامية ليس الا. فحين قام النظام العراقي بالمجازر ضد الشعب العراقي ومنه الكردي في العراق لم تخرج مسيرات عربية دفاعاً عن الشعب المنكوب في نظامه. وحين تتواصل المجازر في الجزائر لا تخرج مسيرات في العواصم العربية داعية للسلام في الجزائر. وحين يخرج المتظاهرون في دمشق إنما يتظاهرون مع السلطة وشتّان ما بين الأمرين. التاريخ العربي المعاصر لم يشهد تظاهرة سلمية واحدة، وكل التظاهرات التي خرجت في العواصم العربية كانت من أجل الحرب لا من أجل السلام. هذه هي الحقيقة المرّة في شأن ثقافة الثأر القبلي المتجذرة في هذه الذهنية، وما لم تتم معالجتها جذرياً، فلن يتغيّر شيء في مستقبل العرب المنظور. * كاتب فلسطيني.