بعدما تبدد كثير من غبار الحرب على العراق، من دون حل ألغازها، انقشعت صورة لا تسرّ واشنطن ولا "تكافئ" انتصارها الساحق على نظام الرئيس صدام حسين، فيما لا تزال ربما في بداية حرب أخرى مع المقاومين. خمس لاءات اقليمية في وجه أميركا، وسادسة من العراق حيث وضع مئات الآلاف من البشر الخارجين للتو من السجن الكبير، المحتل "المنتصر" وصدام المهزوم في كفة واحدة... باستثناء اعطاء قوات الغزو "مهلة" قصيرة لترك العراق لأهله. وبعدما تبين ان قلة منهم استقبلت الأميركيين بالورود والابتسامات ورايات النصر، توحد أهل بغداد والنجف وكربلاء وراء "لا للاحتلال"، فيما الديموقراطية الموعودة الآتية على رماح "المارينز" مطعون فيها، بمقدار ما تكشف ذاك المحيط الواسع من الأمواج، ما بين ليبرالية الغرب واقتناع ملايين في ذلك البلد الخارج من القمقم بأن الخيار ليس بين "البعث" والقيم الأميركية. كانت تلك مفاجأة غير سارة للرئيس جورج بوش، وربما لكثيرين في المنطقة فوجئوا بمد اسلامي عارم في بلد لم يعرف على مدى ثلاثة عقود إلا الخوف، والصمت خوفاً من الثمن. ولأن الولاياتالمتحدة لا تستطيع اتهام الذين هتفوا في بغداد ضد صدام وبوش على مرأى من "المارينز"، بالأصولية والتطرف، يتضح كم من الأيام العسيرة تنتظر قوات الاحتلال في العراق... إلا إذا قرر الرئيس الأميركي فجأة أن يوقف مهزلة توزيع غنائم الحرب، والأهم أن يتخلى عن مشاريع زمرة في البنتاغون بزت الليكود في السباق الى تحقيق الأحلام الخبيثة لاسرائيل، تحت غطاء ضمان أمن المواطن الأميركي ومصالح الولاياتالمتحدة. في المؤتمر الاقليمي في الرياض، كانت حاضرة حمم الحرب وروائح القنابل والبارود، وهواجس المصير المجهول للعراق الذي يجاور دولاً لبعضها هواجس كثيرة إزاء المشاريع الأميركية للمنطقة، وشكل الحكم الجديد في بغداد الذي لن يحتمل اختباراً واحداً قاسياً للمغامرة بوحدة البلد. وليس من شأن خروج الاسلاميين الى الشارع العراقي إثارة مخاوف الجيران، اذا احتكم الذين اكتووا بنار الحروب وقبضة الحزب الواحد، الى العقل وحكمة التعايش مع الآخر، بدلاً من السقوط في فخ "كانتونات" يحميها الاحتلال كقوة "ردع" اذا استشرت نار الفتنة العرقية أو المذهبية. ولأن فضائح غنائم الحرب كانت حاضرة بقوة في المؤتمر الاقليمي، رددت صداها في لاء كبيرة تذكّر بما اطلق عليه عملية "سطو مسلح" في العراق. وإلا ما معنى التذكير بمبدأ ركن في القانون الدولي لا يبيح لأي قوة احتلال استغلال ثروات البلد المحتل؟ ولا ترضي المنتصر أيضاً اللاءات الأخرى، لأن رسم مستقبل بلد بمشيئته لن يصمد بمجرد خروج جحافله من الموصل والبصرة وبغداد وتكريت أيضاً. كما أن التمسك بدور جوهري يتجاوز "المضادات الحيوية" للأمم المتحدة، وترك تحديد مصير العراق لشعبه، ورفض التلويح بدور لسورية في خطط الغزو ولوائحه... كل ذلك لن "يكافئ" بوش على ما فعل، وكثير منه لم يُعرف بعد، لكنه بالتأكيد مفجع، لأن لأي حرب مآسيها، والتاريخ وحده هو المنصف، للمنتصر على الغير وعلى الذات. ولكن هل تكفي اللاءات الخمس لضمان استقرار المنطقة، ان لم يقل مصالح العراق وجيرانه؟ دون ذلك أشواط كثيرة، وعسيرة، خصوصاً لأن واشنطن لا تصغي إلا لهدير القاذفات والأساطيل، ولو فعلت ربما ما كانت حرب. ودون ذلك ايضاً ليس فقط اختبار تاريخي للعراقيين - وليس لوطنيتهم - في اجتراح لغة خاصة لنزع مخالب الاحتلال واختزال أيامه، بحرب على الذات والفتن لانقاذ وطن. أما وراء الحدود فلا تعني اللاءات احباط مشاريع أصوليي البنتاغون، ولا حتى تبديد الخلافات بين دول مثل ايران وتركيا... الأولى المتهمة بدس أصابع خوفاً من فقدان مرجعية دينية لدى شيعة العراق، والثانية التي مهما فعلت لن تبدد الشبهات بأطماع لها في نفط كركوك والموصل، تتسلل وراء التلويح بورقة حقوق التركمان والخوف من مشاريع الأكراد. ولعل أبرز ما لم يُقل علناً في المؤتمر الاقليمي، ان معظم دول الجوار التي لم تستوعب بعد صدمة زلزال الحرب، يجمعها قلق من تسلل الأصابع الاسرائيلية الى قلب العراق، تحت ستار عقود الإعمار. وهل ما يمنع تدفق عشرات الخبراء الاسرائيليين ومعهم الجواسيس، الى بلاد ما بين النهرين، تحت علَم تأهيل العراقيين وتدريبهم؟... تحت البنادق الأميركية. أليست مفارقة ان ما فشلت فيه الدولة العبرية لاختراق منطقة الخليج، تحت رايات سلام مدريد، يكاد أن يصبح حقيقة قريباً، تحت علم "تحرير" العراقيين؟ ... أول الغيث أسود.