هذه المرة لن نكون في حاجة الى مجلس الأمن وتقارير المفتشين لكشف أسلحة التدمير البيئي الشامل المستخدمة في حرب العراق. اذ تم الاعلان عنها بوضوح في تقارير نشرتها وسائل الاعلام قبل أن تفتح أبواب الجحيم. "أم القنابل"، أحد أسلحة الدمار الشامل هذه، تم اختبارها للمرة الأولى على حقل رماية في ولاية فلوريدا الأميركية مطلع آذار مارس الماضي. وزنها عشرة آلاف كيلوغرام، وهي تزيد في قوتها التدميرية بنسبة 40 في المئة عن أقوى قنبلة تقليدية. أما تجربتها الفعلية على البشر والحجر والطبيعة، فتُركت للعراق، حيث صرح رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال ريتشارد مايرز أن "كل الأسلحة في الترسانة أو في أي مرحلة من مراحل التطوير يمكن أن تستخدم". وتحضيراً لساعة الصفر، أكد مسؤولون في البنتاغون أن الدبابات والطائرات الأميركية ستستخدم مجدداً في حرب العراق قذائف تحوي اليورانيوم المستنفد "لأنها أكثر فعالية في خرق مصفحات العدو". غير أن الكولونيل جيمس نيوتن، الذي أعلن القرار، رفض الاعتراف بآثارها الاشعاعية المدمرة. فحين ترتطم بهدفها، تتحول تحت تأثير الحرارة العالية الى جسيمات دقيقة من أكاسيد اليورانيوم، تنتشر على شكل ضباب يلوث المنطقة المحيطة. وهي تسبب أنواعاً من السرطانات، خصوصاً اللوكيميا، إضافة الى تشوّهات جسدية وتدهور في وظائف الكلى. مئات الأطنان من اليورانيوم المستنفد، حوتها رؤوس أكثر من مليون قذيفة، استخدمها الجيش الأميركي والقوات الحليفة في العراق عام 1991 وفي كوسوفو والبوسنة عام 1999. آلاف حالات سرطان الدم والأمراض الغريبة ظهرت في المناطق المستهدفة، التي ارتفعت نسبة الاشعاعات فيها الى أضعاف المعدل الطبيعي. فهل كانت الأقنعة التي وضعها جنود التحالف في حرب العراق للوقاية من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية كما قيل، أم من الشظايا السامة للقذائف التي أطلقوها هم؟ في الولاياتالمتحدة وحدها أكثر من 450 مليون طن من مخلفات المفاعلات النووية التي تحتوي على اليورانيوم المستنفد. ولا تعبِّر صفة "مستنفد" عن الحقيقة، اذ ان النشاط الاشعاعي لنفايات اليورانيوم هذه يدوم لبلايين السنين. وبسبب وفرتها، تقدّمها الحكومة الأميركية مجاناً الى مصنّعي الأسلحة. سلاح الدمار الشامل هذا استخدم على نطاق واسع للمرة الأولى في حرب الخليج ثم في البلقان. ومن المعروف أن اسرائيل تمتلك مخزوناً كبيراً من اليورانيوم المستنفد الذي تم تخزينه من فضلات مفاعل ديمونا خلال 40 سنة، وهي استخدمته في رؤوس القذائف ضد أهداف فلسطينية في اطار قمع الانتفاضة. وتزامن الاعلان عن استخدام "أم القنابل" واليورانيوم المستنفد مع انطلاق محكمة الجنايات الدولية في مدينة لاهاي الهولندية منتصف آذار مارس، كأول محكمة دائمة لجرائم الحرب في العالم. الولاياتالمتحدة، التي تعارض وجود المحكمة من الأساس، كانت الغائب الأكبر، عندما أقسم 18 قاضياً اليمين في الجلسة الأولى للمحكمة، بعدما صادقت 89 دولة على انشائها. والمحكمة ترسي مبدأ بالغ الأهمية هو أن الذين يشاركون في ارتكاب انتهاكات صارخة للقانون الانساني الدولي لا يمكنهم أن يحتموا وراء سلطة الدولة التي ارتكبوا جرائمهم باسمها. الولاياتالمتحدة واسرائيل عارضتا المحكمة وامتنعتا عن الاعتراف بها، للتملص من تبعات انتهاك القوانين الدولية واستخدام أسلحة الابادة. ومن المفارقات أن أميركا، التي طالبت بإجماع دولي وراءها في الحرب، هي أول الخارجين على الاجماع الدولي في قضايا البيئة، من رفض بروتوكول كيوتو حول تغيّر المناخ الى عرقلة الاتفاقات حول حظر الألغام الأرضية والأسلحة الكيماوية. على رغم كل المآسي والخيبات، يبقى الالتزام بالقانون الدولي الخيار الأصوب للشعوب، خصوصاً تلك التي تملك الحق وتفتقد الى القوة. فبعد أن ينقشع غبار الحروب، لا بد من محاكمة دولية أخلاقية لكل من صنعوا وباعوا واستخدموا أسلحة الدمار البيئي الشامل، من صغار المقاولين السياسيين المحليين والوكلاء، الى قادة القوى العظمى. ناشر ورئيس تحرير مجلة "البيئة والتنمية". ينشر في وقت واحد مع مجلة "البيئة والتنمية" عدد نيسان أبريل 2003