عديدة هي النظريات التي تربط الفنون بعلاقات جذرية وتكوينية، وقلما نرى فناناً يكتفي باختصاص واحد، واذا فعل، فلا تنفك ميوله تتجلى في اعمال واهتمامات بنسب متفاوتة. فانطوني كوين مثلا عبّر عن حبّه للحياة والنساء في لوحات عكست الى حد بعيد جذوره المكسيكية، وامثاله كثيرون من الموسيقيين الذي قرضوا الشعر، والادباء الذين خطّوا لوحات فنية. أما حينما نرى عسكرياً يحمل ريشته "برفق وحنان" و"يغمسها في روحه" ليجسّد اختلاجات ذاته الدفينة، فأمر اقل ما يمكن وصفه بالمفارقة. صحيحّ ان علم النفس الحديث اكّد ان احدى المناطق الثلاث المحددة للذكاء هي التحليل النظري للمكان اي القدرة على تجسيد ما يراه الفرد، والاّ كيف يمكن تعليل ان زعيمي الحرب العالمية الثانية، ونستون تشرشل وادولف هتلر، كانا يتقنان الرسم؟ لكن على رغم ذلك، يبقى من الصعب تخيل "هتلر" الفوهرر الذي أشعل حرباً عالمية ثانية و"شوى" الناس في الأفران، فنّاناً، مرهف الحسّ ، خفيفاً كعصفور او كما قال بابلو بيكاسو: "كل طفل فنان، لكن المشكلة تكمن في الحفاظ على هذا الطفل عند الكبر". أيعقل ان يكون هتلر حافظ على هذا الطفل في داخله؟ من كان ليتصوّر انّه كان رسّاماً "يغمض عينيه ليرى" بول غوغان 1868-1903 ويغوص في عالمه الخاص حيث يلتقي بأدولف وليس الفوهرر الذي تسلّم زمام الأمور في بلده وأطلق شرارة الحرب ولم يخرج منها الا منتحراً. لقد تخلّى هتلر عن تحصيله العلمي بعد ان اكتشف رسالته في الحياة: الرسم. تلقى دروساً في كلية الفنون في فيينا ورسم العديد من اللوحات، لكنّه لم يكن ذاك الرسّام الناجح بحسب أستاذه الذي نصحه بالتخلّي عن هذه "المهنة". باع هتلر في شبابه العديد من اللوحات لاعالة نفسه، وكان يرسم الكنائس بشكل خاص اذ كانت الاكثر مبيعاً في حقبته. وقد قضى المرحلة الممتدة من أيار 1913مايو حتى آب أغسطس 1914 غائصاً في عالم الرسم قبل ان يتطوع في الخدمة العسكرية البافارية، وقد حاول مراراً الحصول على اللوحات التي رسمها في سنين الشباب. في عام 1935، بدأ هتلر احد مشاريعه البعيدة عن الحرب وتمثلت في تحويل "لينز" مسقط راسه في النمسا، عاصمة الفن في اوروبا. لكن مشاريعه الدموية ابعدته تلك الفنية لينخرط في الحرب العالمية الثانية ويرسم "لوحات "لم يستطع تاريخ البشرية محوها من الذاكرة ولا تزال عبارته الشهيرة" يجب ان لا نستسلم... ابداً قد نمني بهزيمة، وقد يتم تدميرنا، نعم لكن سنجر العالم اجمع معنا... عالم تتآكله السنة اللهب" "لوحةً تاريخية" محفورة في الذاكرة. في الواقع، لم تظهر مواهب هتلر الحقيقية في الفن لانّه لم يعمر طويلاً واذا لم تجر الرياح كما تشتهي سفنه، فإن ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني، القى مرساته في بحر الرسم وغاص عميقاً فخرج منتصراً. اكتشف ونستون تشرشل موهبة الرسم حينما أفل عقده الثالث. فخلال عشية صيف، اكتشف متعةً واكتفاء ذاتياً في الرسم وأثبتت هذه الهواية انها ستكون رفيقه الاوحد حتى رمقه الاخير. في عام 1920، قام تشرتشل بعرض لوحاته في معرض في باريس تحت اسم مستعار شارل موران حيث باع اربع لوحات من اصل خمس ناهيك بانجازه، اكثر من 500 لوحة وكتاباً عن الرسم بعنوان painting as a pastime. كرّت سبحة الزمن، وتحول تشرشل من هاو موهوب الى محترف عرضت لوحاته في العديد من صالات العرض في اوروبا وكندا واستراليا واليابان والولايات المتحدة. كما حاز جائزة نوبل في الادب، وكان يؤمن بأنّ الشعر والرسم والنحت ثلاثة اقانيم في واحد وقد اطلق عيها اسم "الشقيقات الثلاث". كان الرسم بالنسبة اليه نافذة على عالم يخلو من الواجبات الديبلوماسية، حيث اللحظات الحميمة مع ريشة تتمخّض لوحات زيتية ممزوجة بخيال وعاطفة. وكانت نصيحة تشرشل للرسامين المبتدئين هي الشجاعة والاقدام على استعمال الالوان الزيتية في لوحاتهم. في نهاية المطاف، اعترف العديد من النقاد الفنيين بموهبة تشرشل التي صقلتها التجربة والخبرة. ومن العبارات المشهورة التي جسّدت عشقه وولهه بالفن قوله": حينما اصعد الى الجنة، انوي ان امضي السنوات المليون الاولى في الرسم". واذا كان ونستون اكتشف موهبته في سن متأخرة، فانّ الامير تشارلز بدأ الرسم منذ بلوغه. فهو لا يشعر بطعم الراحة من دون ريشته التي هي رفيقته اليتيمة في العطلات التي غالباً ما يقضيها في الريف الايطالي. بدأ الامير تشارلز هذه الهواية وازداد حبه للرسم في السبعينات والثمانينات حينما شجعه استاذ الفن، روبرت ووديل على خوض غمار الرسم. وقد تعلم تقنيات الرسم بالالوان المائية من العديد من المحترفين. لم تظهر اعمال الامير تشارلز الى الجمهور الاّ سنة 1977 عندما اقام معرضاً للوحاته في قصر "ويندسور" وكثرت فيها الحظائر وطواحين الهواء والمناظر الطبيعية تعلوها سماء رمادية والساحل الاسترالي الذي رسمه عندما كان على متن سفينة في البحر خلال خدمته في البحرية الملكية. ومن اللوحات التي لفتت الانتباه وحظيت بالاعجاب لوحة "حظيرة في نورفولك" زينت المعرض الصيفي للكلية الملكية في عام 1987. اذا كان بعض السياسيين فضل الرسم، فان البعض الآخر كانت له تجارب في التمثيل ومن الامثال "الفاقعة" الرئيس الاميركي السابق رونالد ريغن الذي عشق التمثيل مذ كان على مقاعد الدراسة ثم سرعان ما ابرم عقداً مع هوليوود ومثّل في 53 فيلماً. يقول بيكاسو: "من الناس من يحول الشمس بقعة صفراء، ومنهم، بذكائهم وموهبتهم يبعثون شمساً من بقعة صفراء" وينطبق هذا القول على مختلف النماذج البشرية، لكنّ المسألة تتغير مع هؤلاء المحاربين الذين يكتنفون الشيئين معاً، فهتلر الذي بدأ حياته محاولاً بعث شمس من بقعة صفراء انهاها بقتل كل جميل، ولو انه لا يتماثل مع تشرشل الذي وفّق بين "ونستون" الفنان من جهة والمحارب من جهة اخرى الا انهما تشاركا هذه الثنائية المتنافرة.