من الذين لقّن الانسان "المقارنات"؟ هذه البلوى السوداء. اللعنة. الثقب الاسود الذي يمتص حيوية العقل وجموح الخيال. هذا وذاك. هذا البيت وذاك البيت. هذا الحب وذاك الحب. هذا البلد وذاك البلد. هذه الحرب وتلك الحرب. لماذا؟ يقولون لنا: انه تقليد للطبيعة ونسج على منوالها. فالليل والنهار، الدورات والفصول. الكائنات والمخلوقات…الخ. فلمَ نقلّد المتناظر في الطبيعة ولا نقلّد ما ليس له نسق: النيازك، الأعاصير، البراكين؟ ألأنها تخرب وتدمّر؟! فلمَ، إذاً، تعشقون الحروب وتدقّون من اجلها الطبول وتذهبون اليها منفوشي الريش منفوخي الصدور، فرحين فرح الاطفال الذاهبين الى مراجيح العيد؟ * * * ونحن في انتظار "تلك" الحرب، وكان اسمها آنذاك "هذه" الحرب، لم نكن نكفّ عن المقارنة بين ما نتوقعه منها وبين دروس وعِبر حرب الثماني سنوات وقد اصبح اسمها "تلك الحرب". لكن الحرب جاءت بكل ما هو مخالف للتوقعات وبكل ما هو جديد دخنا في تدبّره. ومن بين جديدها "الغرفة المحصّنة" ضد السلاح الكيماوي. وتُعدّ للبقاء فيها طيلة انتشار المادة القاتلة في الجو، وذلك بسدّ كل منافذها سدّاً محكماً بالأشرطة اللاصقة والستائر البلاستيكية ثم الصوفية…الخ. ثم تزويدها بالاطعمة والمياه كآخر غذاء وشراب نظيف قبل انجلاء خطر الكارثة! وقد فعلنا ثم جلسنا ننتظر ساعة الصفر لندخل الغرفة ونسدّ فتحاتها علينا من الداخل. وما دليلنا الى حلول ساعة الصفر؟ الاذاعات تستقي معلوماتها من الاحداث. والاحداث تعني فناءنا. فكيف نستبق الفناء، وما دليلنا؟ هلاك الطيور، ورائحة الزهور! فالطيور اول الهالكين بالسموم. والسموم ستأتينا برائحة الزهور. قمنا واقتلعنا كل شجرة ورد لئلا تخدعنا عطورها. وجعلنا نرقب الطيور والعصافير والدجاج، كلما خفتت اصواتها نهرع لنتفحص حياتها. ولم يكن يثلج صدورنا مثل صياح الديك او هديل الحمامة المطوّقة او شجار العصافير. ومهما اشتدّ القصف وهدرت الصواريخ وضجّت الطائرات فان صوت عصفور كان يعادلها جميعاً. كأنما الحرب كانت تدور بين الطيور والطائرات. حتى قدم لنا اسامة بن لادن خبراته في اتقاء مخاطر القنابل من كل نوع، وذلك بانشاء "الملاجئ المسقوفة والمموّهة جيداً" كما قال في آخر رسائله... ذهلت وانا استمع الى هذه النصيحة الثمينة. كيف فاتنا حفر الكهوف وسقفها وتمويهها جيداً؟ كيف؟ مع اننا خبراء مجرّبون ابناء عن آباء عن اجداد، حتى ان ذاكرة جيناتنا تصلح أرشيفاً نموذجياً لخبرات اتقاء المهالك. بعد ان ذهلت جلست أتدبّر المقال. فها هو ذا مجرّب ينصحنا بأن نصنع "طورا بورا" كتلك التي دوّخت الاميركان، وهم يبحثون عن مداخلها حتى يئسوا ونكصوا على اعقابهم معلنين الهزيمة امام براعة ابن لادن. ومع انني اشك كل الشك في ان تلك الكهوف هي التي أنجته من بين وسائل عديدة لا يعجز الخيال المدرّب عن اقتراحها، حتى وان لم تؤكدها المعلومات والمصادر. ومع ذلك. فإنني بعدما تدبّرت المقال جعلت اتساءل عن سر كهوف "طورا بورا" وهل هي كهوف طبيعية، ام انها أُعدّت بحيث تصلح للعيش مدداً طويلة. وكم استغرق حفرها من الوقت والجهد والمال. وهل ينصحنا ابن لادن ان نصنع الشيء ذاته كأفراد، اي ان يحفر كل واحد كهفه ويسقفه ويموّهه جيداً، ام نحفر كلنا كهفاً واحداً يجمعنا ويحمينا ونعيش فيه "عيشة سعيدة"؟ بعد ان تدبّرت وتساءلت، قلت لنفسي: ذلك يشبه بالفعل حكايات "ألف ليلة وليلة". وهي تسمى "طوابق" ومفردها "طابق". وكم من محظوظ من ابطال الحكايات ضرب بفأسه فعثر على حلقة من نحاس فجذبها فوجدها جزءا من غطاء تحته سلّم يؤدي الى ممرات وقصور وجنائن وكنوز. ويا له من وقت حرج ذلك الذي اختاره ابن لادن ليكشف لنا عن سرّ نجاته وانتصاره. فكيف سنحفر كهوفاً تصلح للعيش المديد وتحمينا من اخطار كل الاسلحة وتصلح للتسلل منها الى الاماكن الآمنة، ونحن لا نملك الوقت ولا السرية الكافية. فأي حفر على هذا المستوى لا بد سينكشف لطائرات التجسس. ولن ينفعنا التمويه الا في المزيد من الافتضاح بحيث تنتفي النصيحة الثالثة لابن لادن، وهي ألاّ نخشى القنابل الذكية التي، مع التمويه الجيد، ستضرب على غير هدى، مما يضمن لنا اكبر قدر من السلامة. كما قال، ايضاً! فكّرت ملياً. فلم اجد سوى خيارين: الاول: ان ننقل "طورا بورا" بأكملها الى العراق. ذهبت الى الليلة الرابعة عشرة من ليالي الف ليلة وليلة. وكان الصعلوك الثاني في حكاية "الحمّال والبنات" يحكي قصته وكيف ان عفريتاً مسخه قرداً بعد ان ضبطه مع عشيقته في وضع فاضح. حتى اكتشفت سرّه ابنة احد الملوك. ولما ابدى الملك دهشته لمعرفة ابنته بعلوم السحر وسألها عن مصدر معرفتها قالت له: "يا أبتِ، كان عندي وانا صغيرة عجوز ماكرة ساحرة علّمتني صناعة السحر. وقد حفظته واتقنته وعرفت مائة وسبعين باباً من ابوابه، اقل باب منها انقل به حجارة مدينتك خلف جبل قاف". هنأت نفسي على فرط ذكائي. فإبنة الملك هذه افضل واسرع وسيلة لنقل "طورا بورا" من افغانستان الى العراق قبل ان يرتد لنا طرف. لكن، يا للحظ، تنشب فجأة معركة بين ابنة الملك وحشد من الأبالسة والعفاريت تنتهي باحترامهم جميعاً. لم يعد لدينا سوى الخيار الثاني: انتفاء احد "الطوابق" واتخاذه ملجأ طيلة امد الحرب. قمت وتفحصتها جميعاً فلم اجد افضل من الطابق الذي نزل اليه الصعلوك الثالث في الحكاية نفسها. فقمت ودخلت الليلة السادسة عشرة فوجدت الصعلوك مختبئاً فوق شجرة وسرباً من العبيد ينقلون بضائع من مركب يرسو على ساحل الجزيرة الى موضع يحفر فيه آخرون. وقفت اتفرج فإذا بهم يكشفون عن طابق جذبوا بابه فبان سلّم من الحجر فجعلوا ينزلون وهم ينقلون خبزاً ودقيقاً وسمناً وعسلاً وأغناماً وأقمشة وكل ما يحتاج اليه الساكن. وبعد ان نقلوا جميع ما في المركب ردوا الباب وذهبوا. بعد قليل نزل الصعلوك وعالج باب الطابق وفتحه ونزل، فنزلت وراءه فوجدنا بستاناً ثم ثانياً وثالثاً، الى تمام تسعة وثلاثين "وكل بستان فيه ما يكلّ الواصفون عنه من اشجار واثمار وذخائر". قلت في نفسي: ان هذا لمما يوصف بأنه "مثل الحكايات". ولما كنت اعرف باقي الحكاية مما لا يعرفه الصعلوك، تركته لمصيره. فها هو يرى باباً فيجعل يتساءل عما خلفه ويقول "لا بد ان افتحه وانظر ما فيه". تركته يفتح الباب ويدخل. رددت الباب وراءه، فأنا ادري انه سيجد فرساً مربوطاً، وسوف يفكّ رباطه ويركبه فيطير به حتى يحطّه على سطح فينزله ويضربه بذيله فيتلف عينه. ما شأني به. انا لديّ تسعة وثلاثون بستاناً تحت الأرض فيها كل ما يحتاج اليه العيش المديد الآمن الهانئ. جلست أعدّ قوائم بأسماء الاصحاب والاصدقاء الذين سأستضيفهم في ملجئي. وقائمة اخرى بأسماء العفاريت المتعددي الاختصصات، من الذين يعرضون خدماتهم بقولهم: "اطلب تعطَ" فلا شك ان احدهم قد سمع بالكهرباء وبثورة المعلومات! لئلا تشكّوا لحظة بأن كل من ابتكر غرائب القصص ما كان الا عديم الحيلة فاقداً للأمل.