زار وزير الخارجيّة الأميركي هنري كيسينجر لبنان في إطار تنقّلاته المكوكيّة بين الدول العربيّة مصر والسعودية وسورية والأردن واسرائيل. وكان الفلسطينيّون عندئذ قد بدأوا يشكّلون عنصر انشقاق في البلاد في حين كانت الحكومة اللبنانيّة، وهي أكثر الحكومات اعتدالاً في العالم العربي، في طليعة الدعاة إلى استرجاع الفلسطينّيين حقّهم المسلوب في الأرض التي اخرجتهم إسرائيل منها. وكان وزير الخارجيّة الأميركيّ مقتنعاً بأن لبنان بحكومته غير المتجانسة وجيشه المعرض للإنقسام، عاجز عن ضبط العمليّات الفدائيّة الفلسطينيّة ضدّ إسرائيل، وبالتالي عن حماية أرضه وشعبه ومؤسّساته من الغزوات والغارات الإسرائيليّة الانتقاميّة. ونظراً إلى دواع أمنيّة حالت دون استقبال الوزير الأميركي في بيروت، فقد التقاه رئيس الجمهورية سليمان فرنجية ورئيس مجلس الوزراء تقي الدين الصلح ووزير الخارجية فؤاد نفّاع في نادي الضباط التابع لمطار رياق العسكري، في منطقة البقاع، اي على بعد قرابة 75 كيلومتراً من بيروت .... وهنا محضر محادثات فرنجية - كيسنجر: - فرنجية: نرحّب بكم، ونتمنّى لكم كل النجاح في جهودكم الرامية الى تحقيق السلام الذي نريده جميعاً. ربّما استغربتَ اجتماعنا في هذه القاعدة العسكرية حيث نحن ضيوف على الجنرال غانم على سبيل الدعابة. والواقع أنّك حرمتنا قضاء عطلة نهاية الأسبوع كان اللقاء يوم الأحد ونحن غير منشغلين بأي عمل. فقرّرنا أن نحرمك بدورنا الاستمتاع بمشاهدة تظاهرة شعبيّة ضدّك في بيروت! - كيسينجر: ظننت أن كثيرين من تلاميذي القدامى تجمّعوا للترحيب بي! - فرنجية: إن لبنان هو البلد الوحيد بين البحر الأبيض المتوسّط واليابان الذي يعيش في ظلّ نظام يشبه الأنظمة السياسيّة الغربيّة. وممّا يُذكر في هذا السياق أن كلّ الدول العربيّة أيّدت المعسكر الغربي بعد الحرب العالمية الثانية ضاربةً صفحاً عن تاريخه الاستعماري البغيض. ثم ابتُلينا بالمشكلة الفلسطينيّة التي نشأت عنها تغييرات في هذه المنطقة تناولت أنظمة الحكم. ففي مصر، مثلاً، برز جمال عبد الناصر، وما لبث أن أطاح الملك فاروق. وفي سورية، حصلت انقلابات عدّة نتيجة المشكلة الفلسطينية. وعلى أثر حرب السويس عام 1956، تحوّلت دول كثيرة في المنطقة من مناصرة للمعسكر الغربي الى مناصبته العداء. وبحكم توجّهها نحو الشرق، اضطُرّت هذه الدول الى شراء الأسلحة من المعسكر الشرقي مما أدّى، ويا للأسف، الى تعاظم نفوذه في العالم العربيّ. أمّا بيت القصيد فهو أن التصرّف غير الودّي إزاء هذه المنطقة من بعض البلدان الصديقة المفترض أنها صديقة، تسبّب في فتح الباب على مصراعيه أمام النفوذ الشيوعيّ. وفي بعض الدول العربية التي ظلّت موالية للغرب، لم تتورّع الشعوب عن اتّهام زعمائها بالخيانة العظمى. ولكن، على رغم ذلك، استطاع أصدقاء الغرب أن يحافظوا على صداقتهم. فأنا، مثلاً، يمكنني أن أتحدّث مطوّلاً عن تظاهرات مضادّة للغرب لأنها في الواقع كانت موجّهة، الى حدّ ما، ضدّي أنا بالذات. وكثيراً ما شارك مواطنون أميركيّون مقيمون في لبنان في تظاهرات ضدّ الغرب وضدّ الولايات المتّحدة، وهم على صواب في رأينا. وذات مرّة مشى أميركيون في لبنان أربعين كيلومتراً على أقدامهم احتجاجاً على سياسة بلدهم. فالأميركيّون عندما يرون نتائج المشكلة الفلسطينية ولا يكونون خاضعين للنفوذ السياسي الصهيوني، لا يتردّدون في مؤازرة العرب. ومعروف أن كلّ من تعاطى السياسة في أميركا خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية، ودعم القضيّة العربيّة، إنما حكم على نفسه بالانتحار السياسي. أمّا الآن، وقد ثبت أن النفط سلاح سياسيّ فعّال، فيتوجّب على كل أميركيّ وكلّ عربيّ العمل جدّياً على حل المشكلة الفلسطينيّة. فبعد حرب تشرين الأوّل الماضي واضطرار الولايات المتّحدة الى إنقاذ إسرائيل، واقتناع العرب بفاعلية النفط كسلاح سياسيّ، أصبح تأجيل التسوية العادلة للقضيّة العربيّة-الاسرائيليّة يعرّض زعماء الدول المُنتجة للنفط لانقلابات مفاجئة على أيدي قوى ثورية متطرّفة. وإذا أُطيح بالملك فيصل وأمير الكويت وأمراء دول الخليج، فمن يحلّ محلّ كلّ منهم؟ هذا ما حصل في عدن. وأولئك الذين استولوا على الحكم هناك ليسوا ماركسيّين فحسب، بل ماويّين أيضاً نسبة الى ماو تسي تونغ. فإذا وجدنا أنفسنا في مثل هذا الوضع، كيف يمكن إذن منع الشيوعيين من السيطرة على المنطقة بأسرها؟ ومن تُرى يستفيد؟ حتى إن بقيت إسرائيل على قيد الحياة والحالة هذه فإنها تكون سجينة حبس كبير، ويكون الحلّ عندئذ غير مجدٍ. أمّا إذا بقيت إسرائيل دولة حرّة بفضل مساعيكم، فيتحتّم أن يبقى العرب أيضاً شعوباً حرّة. هكذا يمكن أن نصون مصالح الغرب والعرب معاً. وهكذا أيضاً يمكن وضع حدّ لحالة الاحراج والارتباك التي يعانيها كلّ صديق لأميركا. أنا لا أشكّ في أن ما أقوله صحيح، إلاّ إذا كانت الولايات المتّحدة قد تبنّت مخطّطاً بخسارة الشرق الأوسط بأسره. إلاّ أنني، في الوقت ذاته، لا أعتقد أنها مستعدّة للتضحية بمبادئها من أجل إقامة قاعدة لها في إسرائيل. أودّ أن أنوّه ببضع ملاحظات وردت في حديثك مع وزير الخارجية. أولاً، ذكرتَ حقوق الشعب الفلسطيني، وبخاصّة حق الفلسطينيين في العيش كبشر. ثانياً، تحدّثت عن مشكلة القدس. أريد أن أضيف إلى ما قلته أنت أنّ القدس لا تزال مدينة عربيّة منذ كان العرب. ثمّ نشأت اليهودية وبعدها المسيحيّة، كلاهما في فلسطين. وبعد نهاية السيطرة اليهودية على القدس بثمانمئة سنة بدأت السيطرة العربية عليها. وفي القرن العاشر احتلّ الصليبيون القدس وظلّوا فيها مئتي سنة. ولم يطل الزمن حتى تبيّن أن دوافع الحملات الصليبية لم تكن دينية، بل سياسيّة. فدبّت الخلافات بينهم - وهذا ما أتوّقع حصوله في إسرائيل - واستمرّت إلى أن تمّ تحرير القدس على يد بطل عسكري عربيّ. ومن ثم تعايش العرب المسلمون والمسيحيّون واليهود جنباً الى جنب في سلام حتى عام 1948. أودّ لو يتذكّر الزعماء الاسرائيليون اليوم تلك الأحداث. فالتاريخ يعيد نفسه. أتمنّى لكم النجاح في سعيكم نحو السلام الذي تعهّدتم تحقيقه. وأذكّركم بأن مشروع سلفكم روجرز لم ينجح لأن العرب لم يستسيغوا الاعتراف بإسرائيل. أما الآن فكلّ ما نطلب هو ان تستمرّ إسرائيل في البقاء بموافقة العرب، وإلا فنصيبها في البقاء في هذا الجزء من العالم يصير الى عدم. أخيراً ألفت الى أن لبنان خير مثال للتعايش السلميّ بين سكّان بلد واحد ينتمون الى طوائف دينية مختلفة. فعندنا سبع عشرة ملّة يعيش بعضها مع بعض في حالة وفاق ووئام. والآن يطيب لي أن أطلب من رئيس وزرائنا أن يبدي ما لديه من آراء. - تقي الدين الصلح: إنني متّفق مع الرئيس في كل ما قال. وليس بيننا سوى فارق واحد: هو يقيم الصلاة في الكنيسة، وأنا أقيمها في الجامع. أظنّ أن الوزير كيسينجر، بصفته أستاذاً سابقاً في علم التاريخ، يعرف أنّ قوماً من مسيحيّي الحبشة أتوا النبي محمّد ذات مرّة بقصد الالتقاء به. ولمّا حان موعد الصلاة، ولم يدروا كيف يتوجّهون، اقترح النبي أن يصلّي المسلمون في إحدى الزوايا والمسيحيّون في زاوية أخرى. لقد أردنا دائماً أن تكون فلسطين للجميع. وهذا ما نريده الآن. والمسلمون الذين حكموا القدس قالوا بأن لكلّ من أهل الكتاب مكاناً فيها. الجدير بالذكر في هذا السياق أن بعض البلدان العربية، من المحيط الى الخليج، أشرك يهوداً في مجالس وزرائه على مرّ الزمن. ختاماً أودّ أن أؤكّد أن المشكلة التي نحن في صددها لا يمكن حلّها إلا من خلال الولايات المتّحدة، كما لا يمكن لأحد أن يُقنع العرب بنقيض ذلك. فالولايات المتّحدة هي البلد الوحيد القادر على إقناع إسرائيل بالتسوية المقبولة. ومن الضروري أن يهتمّ الأميركيون بفهم العرب. - كيسينجر: أقدّر كل التقدير شرحكم الصريح هذا لوجهات نظركم. وكما تعلمون، نحن جادّون في محاولة واسعة النطاق لإحلال السلام في هذه المنطقة. ويسرّني أنكم أشرتم إلى أهميّة الدور الأميركي في إنجاح هذه المحاولة. كثيرون من حلفائنا يُحسنون إصدار التصريحات. فإذا كنتم تريدون البلاغات المنمّقة، أشير عليكم بالتعامل مع الأوروبيّين واليابانيّين. - فرنجيّة لا. إننا نريد الفعل. - كيسينجر: إذا كان الفعل هو ما تريدون، فعليكم أن تتعاملوا معنا، وأن تتركوا لنا إذن كيفيّة التصرّف، علماً بأن الفعل يتطلّب وقتاً أكثر من الكلام الطنّان. ثم إننا مضطرّون الى أن نحسب حساباً لردّ الفعل الداخليّ الأميركي. وعليه، ففي حين نحن ملزَمون بتفهّم الموقف العربي، على العرب بدورهم أن يتفهّموا الأوضاع السائدة في الولايات المتّحدة. كلّنا يدرك طبعاً أن القضية التي تشغلنا هي في غاية الصعوبة والتعقيد. وممّا لا شكّ فيه أنه ليس في وسعنا أن نخوض أكثر من معركة واحدة في وقت واحد. من مواطن الضعف الرئيسية في مشروع سلفي روجرز أنه وضع كلّ أفكاره في ورقة واحدة. فعليكم أن تسلّموا بضرورة الوقت، فأنا في حاجة الى مهلة من الزمن للعمل. ... تبقى هناك مسألة أودّ التعليق عليها بصراحة، هي حظر النفط. فعندما بدت الولايات المتّحدة متوانية في مساعي السلام أو متحيّزة لإسرائيل، أبدى العرب استياءهم باتّخاذ إجراءات معيّنة. ونحن فهمنا ذلك. أما الآن، وقد التزمنا مجهوداً من أجل السلام، فليس باللائق أن يُعاقب الشعب الأميركي في الوقت الذي يحاول زعماؤه أن يساعدوا العرب. وفي حال أُكره الأميركيّون على معاناة أي حرمان من الوقود خلال فصل الشتاء هذا، فلا بدّ من أن يصبّوا جام غضبهم على العرب، لا على إسرائيل. لقد فهمنا الى حدّ ما. وسنُقيم الدليل على صدق عزيمتنا بالإعداد لمؤتمر سلام ولعقد محادثات حول فك الارتباط العسكري. ولكننا بلد عظيم قائم على مبادئ ننوي حمايتها. فإذا تجاوز الضغط علينا حدّاً معيّناً، نتوقّف عن القيام بأيّ عمل. أعتذر عن التكلّم بهذه الصراحة. على أنني أتعهّد لكم بذل جهد كبير في سبيل تحقيق السلام. وتأكّدوا أن أصعب مرحلة في جولتي هذه هي محطّتي المقبلة في إسرائيل. - فرنجية: إن أشدّ مخاوفنا هو تلاشي الصداقة والعلاقات الودّية التقليديّة بين العرب والولايات المتّحدة. - كيسينجر: عليكم أن تتفهّموا دورنا في الحرب حرب تشرين الثاني 1973. لماذا أمددنا إسرائيل بالأسلحة؟ ما إن بدأت الحرب حتى قرّرنا وجوب إنهائها بأسرع ما يمكن، على أن نبادر، فور انتهائها، الى القيام بمحاولة كبرى لحل المشكلة الإقليمية. وعليه، حين رأينا أن الدول المدعومة بأسلحة سوفياتية قد تُحرز تفوّقاً في الحرب، هرعنا الى نصرة إسرائيل. إن ما يوهم بالتناقض هنا هو أنّنا اعتبرنا أن منع الأسلحة السوفياتية من الانتصار يؤول إلى إعادة إحياء مساعينا لتسوية النزاع العربيّ - الاسرائيليّ بعد الحرب، وأنّ إنقاذ إسرائيل إنما يُنقذ أيضاً في سياقه لبنان والمملكة العربية السعودية من امتداد الهيمنة السوفياتية إليهما. ومن ثم، إذا نجحنا في إحلال السلام في الشرق الأوسط، فلا بدّ من أن يتّضح عندئذ أن ذلك هو أيضاً إنجاز أميركيّ. - تقي الدين الصلح: هذا ما نرجو أن يحصل.