من الطّبيعيّ أنّ الرّؤساء، لدى انتهاء ولاياتهم أو اعتزالهم العمل السّياسيّ بإرادتهم أو خارج إرادتهم ومعاودة حياتهم الخاصّة، لا يُضطّرون إلى التسكّع بغير دخل أو هدف علماً أنّ كلاً منهم تحمّل تضحيات مادّيّة كبيرة بسبب ممارسة السّياسة من موقع الرّئاسة. وفي هذا المجال يُروى عن الرّئيس هاري ترومان الّذي كان يحبّ أن يقوم بدور الدّليل لزائري مكتبته في ولاية ميزوري، أنّه كثيراً ما كان يقول للسيّاح ممازحاً: "في أيّام حداثتي فكّرت في الخيار بين مهنتين، إمّا العزف على البيانو في بيت بغاء أو تعاطي السّياسة. وقد وجدت بعد خبرتي الطّويلة في السّياسة أنّ لا مجال لأن احتار طويلاً لأن لا فارق بينهما"! ومعروف أنّ الحكومة هي الّتي تتولّى الإنفاق على حراسة الرّئيس بعد انتهاء ولايته وعودته إلى الحياة العاديّة، وتؤمّن له حرسه الدائم من جهاز الأمن السّرّي، كما توفّر له مبلغاً سخيّاً علاوة على راتبه التّقاعديّ لإنفاقه على إدارة مكتب خاصّ ودفع أجور موظّفيه. معظم الرّؤساء السّابقين كتبوا مذكّراتهم في خلوة مكتباتهم الخاصّة، ثمّ غابوا تدريجاً وبهدوء عن الأنظار. فالرّئيس الجنرال دوايت أيزنهاور، عزّ عليه الانتقال من حياة مليئة بالحركة والنّشاط إلى حياة خاصّة رتيبة. وعندما تقاعد عام 1961 استقرّ مع زوجته مايمي في مزرعته الخاصّة في غيتسبورغ في ولاية بنسلفانيا ولزم الهدوء بعيداً من الأجواء السّياسيّة والاجتماعيّة، وقضى بقية حياته في جوّ من العزلة والانزواء. وليلة عاد الرّئيس ليندون جونسون وزوجته لايدي بيرد إلى تكساس، قاما بنزهة حول مزرعتهما، فلفتت انتباههما كومة من الحقائب والأمتعة الّتي كانت قد أُرسلت من واشنطن. ولم يكن هناك أحد لينقلها إلى داخل منزلهما سواهما. فابتسمت مسز جونسون ابتسامة بالغة الدّلالة على سخرية القدر: "إن العربة قد تحوّلت يقطينة، وكلّ الفئران لاذت بالفرار"، في إلماح إلى قصّة سنْدرلاّ. ومعروف عن الرّئيس جونسون أنّه عانى الكآبة والانهيار النّفسيّ طوال أشهر، وامتنع كلّيّاً عن ذكر البيت الأبيض أو التّلميح إلى أيّامه فيه. كما أطلق شعره بحيث غطّى عنقه، وعاود التّدخين على رغم تحذير أطبّائه بأنّه يعرّض نفسه للموت جرّاء ذلك. وممّا يؤسف له أكثر أنّ حضوره المؤتمر العامّ التّالي للحزب الدّيموقراطيّ الّذي تزعّمه طوال عقدين ونيّف، لم يعد مرغوباً فيه. وبعد مضيّ أربع سنوات تقريباً، كان الرّئيس جونسون قد تحوّل من زعيم عالميّ إلى نكرة سياسيّة بل إلى سياسيّ ميت. أمّا الرّئيس ريتشارد نيكسون المعروف ببطل إعادة الاعتبار، فقد تمكّن خلال تسع عشرة سنة عاشها، بعد تخلّيه عن الرّئاسة، من إصدار كتب عديدة تناولت حياته وفضيحة ووترغيت وشؤوناً خارجيّة" ومع أنّه نجح إلى حدّ بعيد في ترميم نفسه واستعادة حياته الطّبيعية، إلاّ أنّ ووترغيت ظلّت راسخة الجذور في السّطر الأوّل من خبر وفاته. على أنّ الرّئيس جيرالد فورد الّذي خسر البيت الأبيض إثر انتخابات 1976، لم يجد ما يفعله أفضل من ممارسة هوايته المفضّلة - الغولف - وما زال يمارسها حتّى اليوم. بقي من الرّؤساء الّذين عرفتهم الرّئيس جون كينيدي الّذي خلف الرّئيس أيزنهاور واغتيل في أواخر السّنة الثّالثة من رئاسته. ولو قُيّض له أن يعيش إلى ما بعد إعادة انتخابه وتولّيه الرّئاسة أربع سنوات أخرى، لكان عمره آنئذ خمسين عاماً، ولكان بذلك أصغر رئيس متقاعد وربّما أكثرهم شعبيّة. ولا شكّ في أنّه ما كان ليتردّد، كما كانت تقضي التّقاليد العائليّة لآل كينيدي، في أن يكمل مسيرته السّياسيّة بوجه شعبيّ، أي بمتابعة سعيه إلى إلغاء التّمييز العنصريّ والمطالبة بالمزيد من الحرّيّات الفرديّة وبحقوق الإنسان في مختلف المجالات.