إذا انتصر الأميركيون وحلفاؤهم وتمكنوا من تنصيب حكومة موالية لهم، وتمكنوا من إدارة العراق بطريقة تبدو "ديموقراطية"، فمن المرجح ظهور عدد جديد من المفردات في الخطاب السياسي الغربي الموجه للمنطقة العربية، إضافة إلى مفردات "الديموقراطية" و"المشاركة" و"حقوق الإنسان". من المفردات التي سيشيع استخدامها بكثرة، في بلادنا "الحكم الرشيد" Good-Government و"محاربة الفساد" و"النزاهة" و"المساءلة" و"الشفافية" و"المجتمع المدني"، وستصبح المفاهيم والمبادئ الكامنة وراء هذه المفردات المكونات الرئيسة لجهود "إصلاح الشرق الأوسط" بحسب التعبير الأميركي. ولهذه المفردات مدلولات سياسية واجتماعية واضحة ذات تأثير مباشر وبعيد المدى على النهوج السياسية والاقتصادية والاجتماعية، قد تتسق أو تختلف، مع الفكر والممارسات السياسية السائدة في الدول العربية، بحسب طبيعة الحكم، والتطور السياسي الاجتماعي فيها. صحيح أن هذه المفردات على درجة عالية من الألفة لدى النخبة العربية، إلا أن ما سيحدث هو أنها ستصبح جزءاً من المادة الإعلامية الجديدة الموجه نحو عامة الناس، لتصبح بالتالي جزءاً من الثقافة العامة. ومن سوء الطالع أن الأفكار النبيلة التي تقوم عليها هذه المفردات قد توصف بأنها "وصفة غربية" للتغيير، وقد يكون رد الفعل الأول تجاهها، هو الرفض من قبل قطاع عريض من الشعوب العربية، كرد فعل للموقف المسبق المتمثل بالشك والحذر من كل ما يأتي من الغرب وبالذات من الولاياتالمتحدة. منذ أقل من عقد من الزمان، بدأ البنك الدولي وعدد آخر من المؤسسات الدولية في الترويج لمفهوم الحكم الرشيد ومحاربة الفساد، كسبيل لتحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة. وكذلك بدأت بعض مؤسسات التمويل الأوروبية في الأخذ في الاعتبار الإجراءات التي تتخذها الدول لمحاربة الفساد كأحد العناصر التي تشكل سياسة المساعدات والمنح الخارجية لها. كما ظهرت على الساحة منظمات تطوعية وغير حكومية لدراسة ظاهرة الفساد ومدى انتشارها في الدول. ونشطت هذه المنظمات في الكشف عن الفساد الذي أدى إلى إهدار آلاف الملايين من الأموال الممنوحة وتقويض جهود التنمية في الدول المتلقية. كما زاد عدد المؤتمرات والمنتديات الدولية لدراسة الفساد وآثاره على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتدهور أخلاقيات المجتمع إذ عقد حتى الآن منتديان عالميان كبيران وعشرة مؤتمرات دولية في هذا المضمار، كما عقدت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا OSCE منتداها الاقتصادي السنوي لعام 2001 في مدينة براغ تحت شعار "الشفافية والحكم الرشيد في الأمور الاقتصادية"، وسيعقد المنتدى الدولي الثالث لمكافحة الفساد وصون النزاهة، وكذلك المؤتمر الدولي الحادي عشر لمكافحة الفساد في كوريا الجنوبية في شهر أيار مايو المقبل. ونظراً لأهمية هذا الموضوع قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 56/61 كانون الأول/ ديسمبر 2000 وضع اتفاقية دولية واسعة وفاعلة لمكافحة الفساد. وقد توجت الأممالمتحدة هذه الجهود باتخاذها قراراً لوضع اتفاقية دولية لمكافحة الفساد. وفي شهر تموز يوليو 2001 تم في مقر الأممالمتحدة في فيينا الاتفاق على أسس التفاوض للوصول إلى صك دولي لمكافحة الفساد بشتى أشكاله، وتم تشكيل اللجنة المخصصة للتفاوض لوضع اتفاقية واسعة وفاعلة لمكافحة الفساد. وستنهي اللجنة عملها في خريف هذا العام. ومن الجدير بالذكر أن هذه الاتفاقية والتي من الأرجح أن توقع عليها الدول العربية تشير في شكل واضح إلى ضرورة مراعاة مبادئ الحكم الرشيد كأحد سبل محاربة الفساد. ومن المؤسف أن بعض الدول العربية قد وقفت موقفاً سلبياً ورافضاً أحياناً من هذا الطرح حتى قبل بروز الأزمة العراقية الحالية. كما يلحظ غياب أي جهد عربي، حكومي أو مدني، لدراسة هذه التطورات الدولية والإسهام فيها ومعرفة كيفية تأثيرها فينا. أن هذه التطورات المتلاحقة في أقل من عقد من الزمان أدى بالبعض إلى القول أن زمان ربط المساعدات بالولاء السياسي في طريقه إلى الأفول، وأن على الدول التي تود الحصول على المساعدات الدولية أن تظهر درجة معقولة من مكافحة الفساد ونزاهة الحكم. وعلى رغم أن أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001 قد أفرزت تداعيات مخالفة لهذا التيار، إلا أن الأرجح أن يتقوى نهج ربط مساعدات التنمية بنزاهة الحكم في السنوات المقبلة. أن الأزمة العراقية الحالية وطريقة تعامل الإدارة الأميركية معها قد تفرز بعداً جديداً يتمثل في أن "الحكم الرشيد" بمفهومه الواسع قد يصبح شرطاً للرضى السياسي في الوطن العربي على الأقل، وهذا الأمر بالذات قد يجعله ضحية للحرب المحتملة، ويكون الخاسر النهائي هو المواطن العربي. فمن حق الإنسان العربي أن ينعم بحكم يحقق له الكرامة والأمن والعدل والمشاركة والنمو، وهذه كلها من مقومات الحكم الرشيد. فما المقصود بهذا المفهوم؟ يشير مصطلح الحكم Governance إلى الطريقة التي تدار بها شؤون الدولة والمجتمع في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، سواء من قبل الحكومة أو من قبل المؤسسات والمنظمات الأخرى، بما في ذلك القطاع الأهلي والتطوعي. وعلى رغم أن هذا المصطلح ظهر أولاً مقترناً بالكيفية التي تدار بها الشركات المساهمة الكبرى Corporate Governance إلا أنه سرعان ما وجد تطبيقاً له في الكيفية التي يجب أن يدار بها القطاع العام. فكما أنه من حق كل مساهم أن يكون له صوت في الشركة التي يساهم فيها بغض النظر عن حجم مساهمته، وأن يكون له رأي في الكيفية التي تدار بها الشركة، وبالتالي من حقه مساءلة الإدارة عن نتائج أعمالها، فإن من حق المواطن بالمثل أن يكون له رأي في الكيفية التي يدار بها وطنه بغض النظر عن مكانته ومركزه، وبمساءلة المسؤولين العموميين عن نتائج أعمالهم التي أنيطت بهم، لضمان أمن الوطن واستقراره وازدهاره. أن هذا التبسيط الذي قد يكون مخلاً، هو أبسط طريقة لشرح المقصود ب"الحكم الرشيد". ونظراً لكون البنك الدولي من أكبر المؤسسات الدولية المعنية بالحكم الرشيد وأكثرها نشاطاً في نشر الفكر والممارسات المتعلقة بها وتشجيع الدول على القبول بها، فقد قام البنك بتحليل مؤشرات الحكم في ما يزيد على 150 دولة. وقد أفضى هذا التحليل إلى إبراز المكونات الرئيسة التالية لمفهوم "الحكم". 1- قدرة الأفراد على الإسهام في النشاطات المجتمعية وممارسة المساءلة ودرجة توافر الحريات المدنية والصحافة الحرة. 2- الاستقرار السياسي وغياب العنف والاضطرابات والهزات الاجتماعية والسياسية. 3- فاعلية الحكومة في صوغ السياسات الواضحة وتقديم الخدمات العامة للجمهور. 4- نوعية التشريعات وشفافيتها. 5- سيادة حكم القانون وتوافر القضاء المستقل واحترام حقوق الملكية. 6- ضبط الفساد والحد من انتشاره. وبذا نرى أن الديموقراطية تقع في موقع القلب من "الحكم الرشيد" وأن الحرية وحكم القانون شريانان يغذيان هذا القلب. أن منظمات التمويل الدولية بدأت تطلب من الدول المستفيدة، بما فيها الأقل نمواً، اتخاذ التدابير اللازمة لضمان وجود أكبر عدد من مقومات الحكم الرشيد في إدارة الاقتصاد وشركات القطاع الخاص، وفي شكل خاص شفافية التشريعات وحكم القانون وضبط الفساد، حتى يمكنها تلقي القروض والمنح والمساعدات. ولكن ما هو الضامن لانتشار هذه الأفكار في "الحكم السياسي" Political Governance.؟ أن الأممالمتحدة بمنظوماتها المختلفة وكذا المؤسسات الدولية، لا يمكنها إلا أن تشجع الدول للسير في هذا الاتجاه. كما أن الدول الكبرى والمؤثرة، لها مصالحها السياسية وأهدافها الاستراتيجية التي يمكن أن تتقاطع بكل بساطة مع دول تتميز باستشراء الفساد، وأن تلتقي مع دول تغتصب حرية الأفراد وتنكر عليهم حقوقهم الأساسية، فكيف يمكن إذاً تصديق وعود الرئيس الأميركي بالخير العميم وانتشار الديموقراطية والمشاركة السياسية وحقوق الإنسان في شرق أوسط جديد. من سوء الحظ أن الأفكار الحسنة لا تحمل قوة حفز ذاتية تؤدي إلى انتشارها تلقائياً كما أن من المحزن أن تطبيقها يخرج أحياناً من رحم المعاناة. فالأفكار المتعلقة بضمان الأمن والاستقرار في أوروبا ولدت من أهوال الحربين العالميتين الأولى والثانية. إلا أن الحكمة تقتضي فهم رياح التغيير، واستشراف دلالاتها، والاستعداد لها، والتكيف مع معطياتها قبل أن تقوض هذه الرياح دعائم المجتمع وتهز كيانه. أنه لمن سوء الطالع كذلك أن النظام العربي - الدولة والمجتمع - لا يمتلك مؤسسات ومراكز بحث تعنى بدراسة المستقبل ووضع المشاهد الملائمة لتوجيه خيارات الدولة وتهيئة المجتمع للتغيرات المرغوبة قبل أن تصبح مطلوبة. ولذلك غالباً ما تأتي قرارات الدولة كردود فعل غير مدروسة، ويموج المجتمع في خضم التكهنات والتمنيات. * نائب رئيس اللجنة الدولية للتفاوض في شأن "اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد".