في غمار العولمة طرحت الدوائر السياسية والبحثية الغربية والمنظمات الدولية العالمية في الآونة الأخيرة مفهوما جديدا يهدف إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع وهو مفهوم الGovernance الذي ترجمه البعض إلى الحكومة الجيدة وأطلق عليه البعض أسلوب الحكم الجيد بل وذهب البعض إلى تبني تعبير الحكم المتحد وهناك الحكم الشامل والحكم العام والحاكمية والمحكومية والحوكمة وإلى غير ذلك من التعبيرات التي يترجم بها الباحثون هذه الكلمة Governance ونراها نحن تعبيرا عن أسلوب الحكم الموسع. ويعرف أسلوب الحكم الموسع هذا بأنه عقد جديد بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني في اطار شراكة ثلاثية بهدف تعبئة أفضل لقدرات المجتمع وإدارة أكثر رشادة لشؤون الحكم, وينطوي هذا المفهوم على إعادة تجديد مجالات العمل والنشاط لكل من تلك القطاعات الثلاثة, فتصبح الريادة في الحياة الاقتصادية في يد القطاع الخاص في ظل اقتصاد تنافسي قائم على مبدأ الحرية الاقتصادية, وتعمل الحكومة على ضمان الحرية السياسية والاقتصادية من خلال ايجاد أطر قانونية تعزز ذلك وترفع كفاءة أداء الجهاز الإداري, وتعمل على تنمية الموارد البشرية عبر الاهتمام بالمجالات التعليمية والصحية ثم اخيرا تحافظ على مساواة الأفراد أمام القانون, أما المجتمع المدني, الطرف الثالث في الشراكة, فإن عليه تعبئة جهود الأفراد في منظمات قوية تشارك بفعالية في الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وتلعب دورا في التأثير في السياسات العامة. من بين المفاهيم أيضا التي صاحبت عملية العولمة أو على الأقل أكدتها هذه العملية عليها وكرستها مفهوم الشفافية الذي يعني علانية القرار, فالقرار السري لا يمكن أن يناقش والأعمال الخفية لا يمكن المساءلة عنها, وحجب المعلومات عن المهتمين كفيل بتعطيل المشاركة والتي بدونها يصعب الوصول إلى حلول تتسم بالاستدامة. والشفافية في عمل الإدارة العامة تعتمد على كشف الاهتمامات والاهداف والدوافع والموارد والإعلان عن المبادئ, وتتضمن حقوق المنظمات الحكومية وغير الحكومية والمواطنين في الاطلاع على جميع الحقائق المتعلقة بالعمل والأنشطة والبرامج والتمويل والتعاقدات وما شاكل ذلك. الشفافية في مجال الإدارة العامة تعني في التحليل الأخير أن تكون أعمال الحكومة والأجهزة الإدارية العامة في صندوق من زجاج. في هذا السياق أصبح من غير الممكن للموظفين العامين الآن تجنب الإلمام بأهم التطبيقات الحديثة التي لم يعتادوا على استخدامها في السابق, مثل دراسات الجدوى وتحليل التكلفة المنفعة وغيرها, إنهم مطالبون الآن كذلك في ظروف الانفتاح الاقتصادي والتعددية السياسية المتزايدة أن يواجهوا ليس فقط الرئيس أو الوزير المختص كما كان الحال سابقا, بل أصبح عليهم أن يشرحوا السياسات والإجراءات للقيادة السياسية وللبرلمان وللصحافة وللرأي العام.. إلخ. وقد يقاوم بعضهم الشفافية أو المكاشفة التي تطرح أعمالهم للعيون الفاحصة المرتقبة وللألسنة الحادة. ومن ثم أصبح الموظف العام مطالبا اليوم أكثر مما كان في السابق بتنمية قدراته على شرح التعديلات والتغييرات في السياسات والخدمات ليس فقط لرؤسائه وللسياسيين, بل للمجتمع كله بصورة اجمالية وبخاصة جماعات المتعلمين وصانع الرأي العام, فضلا عن الفئات الاجتماعية المتضررة ولذلك لابد أولا من اختيار موفق لعنصر التوقيت في إعلان أو تنفيذ خطوات معينة من برامج الاصلاح, ولابد من اكتساب بعض المهارات في عرض وتغليف السياسات والإجراءات غير المستحبة وأخيرا لابد من تنمية قدرات الموظف العام على الشرح والاقناع. من بين تأثيرات العولمة كذلك تعميق مساءلة الإدارة العامة ويعد ذلك تلامسا مباشرا مع ما يمكن تسميته بديمقراطية الإدارة العامة وعاملا محوريا في تحديد قدرتها على تنفيذ السياسات العامة بكفاءة وفعالية وبيان مدى استجابتها لاحتياجات المواطن. ويمكن النظر إلى المساءلة في الإدارة العامة بوصفها منظومة تبدأ بالمساءلة التقليدية المفروضة التي تركز على مدخلات المنظمات العامة, وتنتهي بالمساءلة الاجتماعية التي تركز على المخرجات, وبينهما نوعين آخرين للمساءلة هما مساءلة البرامج التي تنصب على المخرجات أيضا ومساءلة العملية التي تتناول الأنشطة والعمليات التي تتم من خلالها تحويل المدخلات إلى مخرجات. بل أصبحنا اليوم نتحدث عن مساءلة المواطن للإدارة العامة سواء قام بذلك على نحو فردي أو من خلال الاشتراك في مجموعات صغيرة, وتذهب الأدبيات في هذا الشأن إلى ثلاثة مستويات في مساءلة المواطن للإدارة العامة أولها المشاركة في الأنشطة الإدارية, وثانيها الانتاج المشترك مع الإدارة, وثالثها وآخرها مساءلة الإدارة بشأن المنتج النهائي. وبإعمال الشفافية والمساءلة يصبح من الصعب على الموظف العام التورط بسهولة في أي عمل أو ممارسة من الممارسات غير الأخلاقية, وفي ذات الوقت يصبح من الصعب على كبار المسؤولين رسم سياسات أو اتخاذ قرارات لا تلقى شعبية كبيرة من قبل المواطنين. العولمة تعني أشياء كثيرة بالنسبة للكثيرين, فمثلا يعتبرها الاقتصاديون خطوة نحو سوق عالمية متكاملة, وبعض علماء السياسة يرونها ابتعادا عن المفهوم المحدد للدولة وسيادتها الاقليمية وتسمح للمنظمات غير الحكومية الدخول في النظام العالمي, واساتذة ومستشاري (الأعمال) يرون العولمة عالما بلا حدود وأنها كظاهرة مستقاة من شركات القطاع الخاص وليس من الحكومات. أما المختصون بالإدارة العامة والسياسات العامة فقد تنبأ بعضهم بأن المؤسسات العالمية ستخلق نظاما يهيمن على حكومات الدول فتكون القرية العالمية وحكومة العالم تصاحبها الإدارة العالمية وقد حاول بعض المنظرين هنا تطوير نظرية كونية عالمية للإدارة العامة, يقابل ذلك اجتهاد بعض آخر منهم يعارض فكرة نهاية الدولة وينادي بالاصرار على حكومة الدولة بكل ما يتبعها من تطبيقات الإدارة العامة. ومع بداية الألفية الجديدة تشرق علينا ما يمكن أن نبالغ في وصفه ب(حضارة جديدة) وقد كانت التغييرات الوصفية لهذه الحضارة موضع عديد من الدراسات, على سبيل المثال تحدث هنتنجتون عن تصادم الحضارات وتنبأ قبله فوكوياما بنهاية التاريخ والانسان بينما يشير كوربين إلى العودة إلى القرون الوسطى. وقمة هذه التغيرات هي العولمة سواء كظاهرة أو عملية أو أيديولوجية, والتي يحدث من خلالها التكامل والتواصل على مستوى العالم.