ونحن مشغلون بما يجرى في العراق ووقوفنا الى جانب الشعب العراقي الشقيق، قد لا يكون الوقت مناسباً للحديث في الشأن الفلسطيني. ولكن، بما ان السيد محمود عباس ابو مازن، رئيس الوزراء الفلسطيني الاول، قد شرع في الاتصال والتشاور لتشكيل حكومته الجديدة وبات عليه ان يفرغ من ذلك ويقدم وزارته للمجلس التشريعي لنيل الثقة فيها خلال الاسابيع القليلة المقبلة، نجد انفسنا مضطرين ومن واقع الحرص والمسؤولية، لطرق هذا الموضوع وطرح بعض الافكار والقضايا التي يتركز حولها الجدل الداخلي والاهتمام الوطني. حتى تتوافر شروط النجاح لرئيس الوزراء الفلسطيني عليه ان يلتزم امام المجلس التشريعي والشعب بعدد من التعهدات التي من شأنها بعث الامل وادخال الطمأنينة في نفوس الفلسطينيين الذين يعانون من القلق وعدم الثقة وخيبات الامل المتكررة من وعود لم تتحقق بالاصلاح والتغيير، ويرون في استحداث منصب رئيس الوزراء استجابة لمطلب وضغط خارجيين، على رغم انه يشكل في الاساس مطلباً موضوعياً لاصلاح النظام السياسي الفلسطيني. - اولاً: على رئيس الوزراء التزام أولوية الحفاظ على الذات والكينونة الفلسطينية في ظل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من عملية تدمير منظمة لمقومات حياته ووجوده المادي والوطني على ارضه. ان ما يجرى على الارض الفلسطينية اليوم يشبه الى حد كبير ما جرى قبل عام 1948 وتوج بإحلال مجتمع وكيان خر مكان الكيان الفلسطيني. ان احد اهم الاولويات الفلسطينية التي يجب ان يضعها رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد في اعتباره هي كيفية ايقاف او تعطيل عملية التدمير والاحتلال المنظم التي يقوم بها الجانب الآخر والتي اصبح يستولي بموجبها على حوالى 60 في المئة من اراضي الضفة الغربية و40 في المئة من اراضي قطاع غزة، ويواصل نشاطه الاستيطاني، ويقوم بخلق واقع مادي جديد يستهدف اكمال عملية الاحلال الاستيطاني على ما تبقى من فلسطين. على رئيس الوزراء ضمان عدم انشغال الفلسطينيين او اشغالهم بأمور وقضايا تحرف وعيهم او انتباههم عن هذه القضية الوجودية. - ثانياً: عليه ان يطمئن الفلسطينيين ويعلن على مسامعهم بشكل لا يقبل التأويل، خصوصاً انه سيكون له دور تفاوضي، التزامه القاطع بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني المتمثلة في حق العودة واقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 واعادة القدس للسيادة الفلسطينية وتفكيك او اخلاء المستوطنات اليهودية في الاراضي الفلسطينية، وانه لن يقبل او يوقع اتفاقاً نهائياً مع اسرائيل لا يستجيب لمثل هذه الشروط، مع ما يستتبع ذلك من اعطائه هامشاً للحركة في المفاوضات والتعامل مع المبادرات السياسية المقترحة. وعلى رئيس الوزراء ايضاً ان يؤكد ويلتزم أن من حق الشعب الفلسطيني ممارسة كل خياراته المشروعة التي كفلتها له المواثيق الدولية في الدفاع عن نفسه وفي مقاومته للاحتلال، على ان يخضع اللجوء الى مثل هذه الخيارات لما تمليه المصلحة الوطنية العليا والقرار السياسي الفلسطيني الذي يعبر عن رأي الغالبية الفلسطينية. وعليه في هذه السياق العمل على وضع حد للمظاهر السلبية التي شابت النضال الفلسطيني بأشكاله المختلفة وترشيد اشكال هذا النضال وصولاً للاهداف التي يكافح من اجلها الشعب الفلسطيني، بما يقتضيه ذلك من ضرورات اجراء عمليات المراجعة والتقويم لمعالجة الاخطاء وتلافي تكرارها وتصويب المسار. ويتوجب على السيد محمود عباس التزام استئناف الحوار الفلسطيني من اجل تحقيق الاتفاق الوطني والشراكة السياسية على ارضية ما أنف ذكره، وطرح خطة مفصلة على الشعب الفلسطيني تتضمن اسس الاتفاق الوطني والشراكة السياسية ليقول الشعب الفلسطيني كلمته فيها الى حين اجراء انتخابات تشريعية ورئاسية. على رئيس الوزراء ان يضمن عدم استقواء السلطة والمعارضة احدهما على الآخر خارج اطار حكم القانون وعدم هدر ما تبقى لدى الشعب الفلسطيني من قدرات، وعدم تمكين أي طرف خارجي من هدر هذه القدرات. - ثالثاً: المطلوب من رئيس الوزراء تشكيل حكومة فلسطينية جديدة قوية ومصغرة، إن امكن ذلك، من اصحاب الخبرة والكفاءة والنزاهة والمصداقية، على ان يستثنى منها اعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية للمحافظة على المنظمة كاطار مرجعي للسلطة الوطنية الفلسطينية. كما يفضل اخراج اعضاء الفريق المفاوض من الوزارة حتى يتفرغ هؤلاء لعملية مهمة وخطيرة تحتاج الى كل جهدهم ووقتهم، وحتى تتحول الوزارة الى ورشة داخلية تقوم على اصلاح الوضع الفلسطيني وإعادة ترميمه. ان تشكيل حكومة صالحة ورشيدة سيمنح الفلسطينيين الكثير من الثقة والامل، وسيحقق ارتياحاً في الشارع الفلسطيني ويحسن صورة ومكانة السلطة الوطنية الفلسطينية ويعزز صدقيتها في الداخل والخارج، ويمنح رئيس الوزراء الجديد وحكومته فرصة ومساحة من الزمن لتنفيذ ما يقدمه من وعود والتزامات. ان تشكيل حكومة بهذه المواصفات سيكون بمثابة اختبار قدرة وجدارة للسيد محمود عباس. - رابعاً: المطلوب من رئيس الوزراء ايضاً تبني "وثيقة الاصلاح" التي اقرها المجلس التشريعي في شهر ايار مايو عام 2002 كجزء من خطة الحكومة، واستكمال ما لم ينفذ منها. ان اصلاح الوضع الداخلي الفلسطيني يجب ان يكون على رأس اولويات رئيس الوزراء والحكومة الجديدة، لأن ذلك يعتبر في الاساس حاجة فلسطينية، ولأن الاصلاح ضرورة ملحة لتعزيز القدرة الفلسطينية في مواجهة التهديدات والضغوط الخارجية، وفي اي مفاوضات سياسية مستقبلية. وفي سياق الاصلاح، لا بد من الشروع في عملية منظمة للرقابة والمساءلة والمحاسبة في وزارات السلطة ومؤسساتها واجهزتها لانه لا يمكنك تحقيق الاصلاح من دون ذلك، وفي ظل استمرار الاخطاء والتجاوزات القائمة. ولا بد ايضاً من اقصاء ومحاسبة عدد من المسؤولين الكبار في السلطة ممن ثبت او يثبت تورطهم بالتقصير او الفساد او سوء استخدام المنصب او المال العام او التجاوز على حكم القانون. - خامساً: حتى تأتي الحكومة ممثلة ومعبرة عن تطلعات الفلسطينيين وتحظى بقاعدة تأييد عريضة، على رئيس الوزراء اجراء عملية مشاورات جادة بشأن التشكيل الوزاري مع جميع الاطراف ذات العلاقة من الاتجاهات المختلفة في المجلس التشريعي الفلسطيني وممثلي الفصائل والاحزاب والقوى السياسية المختلفة، والشخصيات الوطنية وممثلي المجتمع المدني في المؤسسات، والاتحادات، والنقابات المهنية والجمعيات الأهلية. وعلى الاطراف التي يجري التشاور معها، في المقابل، التحلي بالمسؤولية والعقلانية والروح الايجابية، انطلاقاً من التزام ورغبة في جعل الحكومة الجديدة، طالما أمكن ذلك، مدخلاً لاصلاح الوضع الفلسطيني واخراجه من مأزقه الراهن. - سادساً: تقع على عاتق رئيس الوزراء مسؤولية اقامة علاقة تتسم بالثقة والتعاون بين الحكومة الجديدة والمجلس التشريعي الفلسطيني اصلاح العلاقة السلبية والمتعثرة التي سادت في معظم الاحيان بين السلطة التنفيذية والمجلس. ان تشكيلاً وزارياً سليماً ومقنعاً سيضمن موقفاً ايجابياً من المجلس التشريعي ويجعل من الصعب عليه ان يحجب الثقة عن حكومة ذات مواصفات جيدة، لانه ان فعل ذلك، لن يكون بمقدوره الدفاع عن موقفه، وسيكون موضع انتقاد من الشارع الفلسطيني. وفي هذا السياق، يتوجب على المجلس التشريعي الفلسطيني، وبعدما اكد ان لديه قوة لا يمكن تجاهلها، ممارسة دوره وقوته بمسؤولية وموضوعية واعتدال بعيداً عن اية اعتبارات ضيقة. اخيراً، بتشكيل الحكومة الجديدة، يكون الفلسطينيون قد غيروا حكومتهم للمرة الثالثة خلال اقل من عام. قد يكون ذلك مؤشراً ديموقراطياً، ولكنه في الوقت ذاته مؤشر على عدم استقرار سياسي وعلى تداعيات ازمة او ازمات يعاني منها الوضع الفلسطيني، وقد يكون ذلك انعكاساً لحالة مخاض يمر بها النظام الفلسطيني برمته. لا بد من الادراك في هذا المجال أن معالجة الازمات والمشكلات الكبرى والمزمنة بحاجة الى قدر كبير من الاستقرار السياسي، وعلى المجلس التشريعي الفلسطيني، كغيره من الجهات الفلسطينية ذات العلاقة، تحمل مسؤولياته في توفير مثل هذا الاستقرار. التحديات امام رئيس الوزراء في حال نجاح رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد في تشكيل الوزارة ونيل الثقة فيها، فإن السيد محمود عباس سيواجه مجموعة من التحديات منها: - اولاً: التحدي الاول الذي يواجه رئيس الوزراء الفلسطيني هو كيفية التوفيق بين ما تريده اسرائيل والولايات المتحدة منه وبين ما يريده الفلسطينيون وتحويل استحقاق خارجي دولي الى خطوة في اطار اصلاح النظام السياسي والى انجاز وطني فلسطيني، واخراج الوضع الفلسطيني من أزمته الخارجية. لا شك في ان الدوافع والاهداف تتباين. وفي الوقت الذي تدرك فيه اسرائيل بأن رئيس الوزراء الفلسطيني يرفض الشروط والاملاءات الاسرائيلية ستبدأ في وضع العراقيل امامه. ومع حكومة كحكومة شارون سيكون من الصعب وربما من المستحيل التوصل الى صيغة مقبولة على هذه الحكومة وعلى الفلسطينيين في الوقت ذاته وعلى حد سواء. كما ان استمرار الحكومة الاسرائيلية في ممارسة سياستها العدوانية الراهنة، وخصوصاً مواصلة عمليات القتل والتدمير وهدم البيوت سيقوض مصداقية رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد. - ثانياً: التحدي الثاني الذي يواجه ابو مازن هو قدرته على اخراج الوضع الفلسطيني من ازمته الداخلية، ومن حال التفاهم والتدمير التي يعيشها. وعلى افتراض ان الرؤية والخطة والارادة للخروج من الوضع الداخلي المتأزم قد وجدت، فهل تتوافر القدرة على اعادة فرص النظام واعمال حكم القانون وترميم الادارة الفلسطينية واصلاح الوضع الداخلي والشروع في معالجة المشاكل الاقتصادية والحياتية الاخرى للمواطنين؟ ان المهمة التي تواجه رئيس الوزارء الفلسطيني صعبة وفي غاية التعقيد ولكنها مع ذلك ليست مستحلية تماماً، لا سيما واننا نتحدث عن طريقة اقتراب تدريجية ولكن حازمة وتستند الى رؤية واضحة وخطة محدودة. - ثالثاً: التحدي الثالث الذي يواجهه السيد محمود عباس هو القدرة على صياغة علاقة عمل ناجحة مع الرئيس ياسر عرفات وممارسة الصلاحيات الممنوحة له في القانون الاساسي كرئيس للوزراء بشكل لا يتصام وممارسة الرئيس عرفات لصلاحياته كرئيس للسلطة الوطنية ومهماته الاخرى كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس لدولة فلسطين، لا سيما ان هذه هي المرة الاولى التي يستحدث فيها مثل هذا المنصب في النظام الفلسطيني. ولذلك، وعلى ضوء تجربة الماضي التي استحوذ فيها الرئيس عرفات على كل الصلاحيات، فإن مهمة رئيس الوزراء قد تكون في مراحلها الاولى، من الناحية الموضوعية، ومهما حسنت النيات، كالحفر في الصخر. - رابعاً: التحدي الرابع الذي يقع على عاتق رئيس الوزراء الجديد هو التوفيق بين مسؤوليته امام الرئيس ياسر عرفات ومسؤوليته امام المجلس التشريعي الفلسطيني في وقت تتسم فيه العلاقة بين هاتين المرجعيتين بالقليل من التعاون والثقة. فليس كل ما يريده الرئيس عرفات من رئيس الوزراء سيكون مقبولاً لدى المجلس التشريعي والعكس صحيح. ان الانطباع السائد في المجلس هو ان الرئيس عمل منذ البداية على تهميش دور المجلس في المساءلة والرقابة على السلطة التنفيذية، وضرب عرض الحائط بقرارات المجلس المختلفة. وفي السنة الاخيرة تجاهل الرئيس الى حد كبير مطالب المجلس المتمثلة في "وثيقة الاصلاح" الصادرة في شهر ايار مايو عام 2002، الامر الذي دفع المجلس الى اجبار حكومة الرئيس ياسر عرفات على الاستقالة في شهر ايلول سبتمبر من العام نفسه. كما ان رفض المجلس للتعديل المقترح من الرئيس على القانون الاساسي في شأن عرض رئيس الوزراء لوزارته على الرئيس عرفات او التشاور معه بشأنها جاء على خلفية العلاقة السلبية التي نشأت بين الرئيس والمجلس. * رئيس اللجنة السياسية في المجلس التشريعي الفلسطيني.