إذا كان لنا أن نلخص بكلمة واحدة "البؤرة" الشعرية التي يطلع منها، أو يدور عليها، أو يتوثب في ثنياتها، الكلام الشعري المرهف في مجموعة الشاعر اللبناني بسام حجار، الصادرة حديثاً عن "المركز الثقافي العربي" في عنوان "ألبوم العائلة"، فإننا نستطيع القول إنها بؤرة "الفوات"، أو الشعور الراسخ والعميق بالفوات. على أن حمولة الفوات، ها هنا، تتعدى بطبيعة الحال نطاق دلالات أو وضعيات سائرة تترجمها عبارات من طراز "بعد فوات الأوان" أو قبله، إذ انها تطاول، الى جانب الإحساس الفجائعي بزمن مفقود بالضرورة، المكان والأشياء الماثلة فيه. على أننا، قبل الخوض في ماهية الفوات الذي يتعهده بسام حجار شعرياً، سنفتح قوسين لعبارة اعتراضية تتعلق بغرابة الشعور الذي ينتاب قارئ "ألبوم العائلة" في غمرة الأيام العراقية العربية استطراداً الساخنة. وليس المقصود، ها هنا، العزف على مقولة ممجوجة من طراز تلك التي تزعم أن الوقت الآن ليس للشعر، فهناك دائماً وقت للشعر. المقصود بكلامنا هو التدليل على بعض وجوه شروط القراءة في زمن ومكان يلفهما حيرة وقلق شديدان. بعبارة أخرى، من يرغب في تعقل أو عيش المحنة العراقية ومعضلاتها، وفي مقاربة أحداثها وتبعاتها، حتى شعرياً، لن يجد في ديوان بسام حجار سوى ما يسعفه في استعجال العزاء والتأسّي الذاتي. فهو، أصلاً وفصلاً، ينبذ مكاناً قصياً، ويجعله فسحة للقول الشعري، مدركاً أن ذائقة الشعر لا تحاكي ولا تترجم الظروف والمناسبات. فلنقل، ولو على سبيل الدعابة البلاغية، أن كلام حجار الشعري، في "ألبوم العائلة" وفي مجموعات شعرية أخرى، لا يخاطب، أصحاب القلوب القوية المقبلة، بشراهة على حاضر الحياة وأشيائها المأخوذة في آنيتها. بل هو يخاطب على الأرجح القلوب الضعيفة، العزلاء، المتشوقة الى سكينة وطمأنينة مفقودتين. وبهذه الطريقة، يخاطب فينا ما هو مرشح للصعلكة في المعنى النبيل للكلمة. وحدهم أصحاب القلوب الصعلوكية أو المتصعلكة يجدون في شعر حجار مادة يتقاسمونها ويشتركون فيها، تخييلياً وانفعالياً بطبيعة الحال، معه. وفي هذا، قد يكون بسام حجار من أرقّ الشعراء اللبنانيين، وأحذقهم أيضاً، في التعبير عن مشاعر اليتم التاريخي والوجودي لدى فئة لا يستهان بها من اللبنانيين المسكونين بهاجس معرفة ما الذي ورثوه ليس فحسب من الحرب الأهلية ومن نهايتها الغامضة والمضطربة، بل أيضاً مما هو سابق على ذلك ولاحق في آن، ما يرثه يتامى الكينونة ليس سوى "الفوات"، فوات كل شيء، كأن الحياة تمضي غادرة في عتمتها، في غفلة عن نفسها. ويدفع الشاعر هذا الإحساس الراسخ بالفوات الى أقصى حدوده، فيجعله وضعية كيانية ثابتة أنطولوجية، ثم يروح بلغة مرهفة ودقيقة وقوية الإيحاء، يستجمع العلامات التي تدل على الفوات. الحياة أشبه ب"الوشم في ظاهر اليد"، على ما قال الشاعر الجاهلي. هكذا: "الجهة التي أفضت بي،/ انمحت/ أرى حجراً على التلة/ كأنه ينتظرني". فلنتخيل أن كائناً ما مكث برهة على الشاطئ ثم دخل في المياه واختفى، ولا نعلم إن كانت الأمواج جرفته أو أنه غرق... إلخ. في عرف بسام حجار، يسعنا أن نعلم فقط أنه كان ثمة كينونة ثم زالت، تاركة بضع علامات أشبه بآثار خطوات على الرمل، وهذه البقايا الشاخصة تدعونا الى تذكر عبور الكينونة قبل اختفائها. لن يعود مستغرباً في هذه الحال ان يكون مناخ "ألبوم العائلة" مسكوناً بهاجس حداد غير ناجز. اصطياد العلامات وشحنها رمزياً، إضافة الى استنطاق إحالاتها السرية، هي شاغل الشاعر المتلهف الى ملاقاة بعض العزاء. الكائن المقيم على التذكر لا يشعر فحسب بأن زمن الحياة منقسم على نفسه، بل المكان أيضاً: "كانت تحدّق في المكان البعيد/ كأنها تراني/ وكنت أعلم أني، هناك/ في المكان البعيد،/ حيث تراني". وعلى النحو ذاته يحسّ الشاعر بأنه ورث أو جعلوا له حياتين اثنتين: "حياة/ ها هنا/ أقضيها مثل ذكرى/ وحياة/ هناك/ للذكرى". ثمة بالتأكيد طقوسية تذكارية أو استذكارية تلفّ شواغل بسام حجار وهواجسه، وهي طقوسية متحدرة، أو تضرب بجذورها في طقوسية ثقافية استذكارية شديدة الحضور، والدلالة في قاموس العبارات والعادات العربية والإسلامية. ونحن نعلم أن الوظيفة الأساسية للطقس الاستذكاري هي منح القدرة على جلب الماضي الى الحاضر، بحسب ما يرى بحق علماء الإناسة. وحين يستحوذ الاستذكار على الكائن، يشعر هذا الأخير بأنه مجرد ترجيع أو أثر لشيء سابق: "كأن صدى/ يتردد في صوتي/ وما عشت كان ذكريات". وليس مصادفة أن ينطوي الحقل الدلالي لعبارات شاعرنا، جزئياً في الأقل، على مفردات تتعلق بالبياض والغياب والصمت والعماء، فهو يتحدث عن "جلبة بيضاء" ويقول في موضع آخر: "أحياناً/ تغطيه بنسيج أبيض/ بشال أو منديل/ لم يدر أحد منا لماذا". على أن طقوسية الاستذكار الساعية الى جلب الماضي الى داخل الحاضر، تجد ما يقابلها ويناظرها في طقوسية أخرى تقوم بردّ الحاضر الى الماضي. الحسّ الفجائعي بالفوات لدى بسام حجار يقوده الى تحويل الحاضر الى ماضٍ متأخر، إذا جازت العبارة، أو أن الحاضر مسرح علامات وأشياء مرشحة بمجرد شخوصها، للانتقال الفوري الى متحف الذكريات. وها هنا يتبدى هاجس "العبور" الذي يكتفي بالإشارة والتدليل على أن الحياة والأشياء لا تفعل سوى التأكيد أنها عابرة، وأن صفتها الأساسية معقودة على العبور. ويخيل للشاعر بالتالي أن أنطولوجية البقاء في الحاضر والملموس إنما هي ضرب من الإقامة في العبور الزائل: "ذاك/ أن وحده العابر/ المدرك عبوره/ يريد أن يبقى/ ها هنا/ حيث الزوال". وكما أن الغياب لا يحصل على صفته إلا من خلال إدراك مستبطن لنقيضه ومقابله رأي الحضور، فإن الحياة تستطيع أن تستقبل الأشياء والحركات، غير أنها لا تنجح في التخلص من حسّها، المأتمي والجنائزي، بأن ما يمثل ويبقى منها هو علامات على زوالها. ليست حياة بالفعل تلك التي يرصد معالمها بسام حجار، بل مشبهة حياة، سراب حياة أو شيء أقرب الى الإشاعة منه الى المثول الفعلي. وقد يأتي هذا الظن في صورة تساؤل وجودي: "ما الذي أبصره لمرة أخيرة/ وبقي ماثلاً في عينيه؟". لأنه حامل أنقاض وبقايا، يقف شاعرنا على الدوام عند نهايات الأشياء، وعندما يتنبه الى مثول أو حركة شيء، فذلك لكي يقول لنا ليس صيرورتها، بل أيلولتها الى الزوال والامحاء، بل أكثر من ذلك الا صيرورة للأشياء سوى زوالها، و"ألبوم العائلة" الذي يتصفحه كل إنسان هو مخزن أو مكبّ علامات وذكريات. وإذا كانت هناك طرائق مختلفة في تصفح الألبوم العائلي، لا تعدم أحياناً الحبور والبهجة، فإن شاعرنا، وبسبب شعوره العميق بأن الحياة الماثلة باتت أثراً بعد عين، وشواهد الى قحط وجفاف كبيرين، فإنه يتوسل بالذكريات ما يتيح له أن يتعرّف على ذاته ويتحقق من حاله. انها حال شيخوخة وجودية تلك التي يستنطقها ويتعهدها شعرياً، صاحب "ألبوم العائلة". وهو يفصح عن ذلك أكثر في قصيدته الطويلة نسبياً الحاملة عنوان "العابر في منظر ليلي لإدوارد هوبر"، إذ يفتح أقواساً بعد كل مقطع ليمرر ما نحسبه تعليقات وشروحات شعرية، فيما هي إمعان وتوليد متجدد لرحلته الشعرية الخائضة في استكناه الغياب والخوف والعماء والصمت والاعتزال، أي في كل ما يلقي الشبهة على تحقق الكائن حتى في اللغة والكتابة. هكذا نراه يكتب ما لم يكتبه "بانتحال فاضح" ويضيف على الفور فاصلاً بين الجمل الشعرية ببياض صغير: "أكتب ما أكتبه إعياء وانصاتاً لما يسر به خوفي/ عماي الخرافي الذي يبصر من دون أن يبصر بلا عينين بالقلب والحاسة/ بلعبة الظلال على الجدار أمامي وخلفي وفي كل جهة/ بالمعجم بمعجم الحواس والموتى بالضحك المكتوم في ساعات الليل/ بأكاذيب الليل/ بالعبارة التي توهم بما تتوهم أنها تقول/ معبّر ظلال لحياة عاشها آخرون وأقاموا فيها ردحاً/ ثم غادروا ثم جئت لأصف خواءها، لأصف شغورها من الحياة التي كانت هنا وغادرت، ثم جئت لأولد العبارة عبارات والجدران مرايا والهمس صراخاً/ معبّر لغات هي ظلّ لغات/ ماضيها/ صدى يتردد بين الجنبات اقتفاء لأصداء متلاشية بين الجنبات .../ قول مسبوق بقول حياة معارة/ كنايات شخوص لم يوجد أي منها ومع ذلك أبصرت أثراً ومع ذلك صدقت وأقمت لكي يبقى المشهد وصرت واحداً منها أكتب ولا أحيا أو أحيا ولا أكتب/ معبّر صمت خرافي يطبق في صمته على كائنات نومي الخرافي ويطبق على كائنات صحوتي/ معبّر الحيرة والعيّ ومعبّر لا شيء/ لا شيء على الإطلاق". إذا كان لنا أن ندلّ على مصادر حساسية بسام حجار ولغته الشعريتين، فإننا نستطيع القول إن هناك بالتأكيد لحظة طللية في شعره، وهناك مصدر صوفي عريق خصوصاً ابن عربي والنفري في مخاطباته ومواقفه، وهناك مؤثرات رومانسية شعرية حديثة. غير أن المهم أو الأهم هو صهر الدلالات المتحدرة من هذه المصادر المختلفة في قوالب شعرية متجددة، وتأصيل ذلك في تربة لغوية وثقافية يودّعها بسام حجار بقدر ما يقبل عليها، ويدين جفاف الحياة المتبقية منها بقدر ما يستنبت فيها حكمة متألقة لأعشاب الشعر. وقد يكون الحس الجنائزي ثمناً معقولاً لأصالة تجربة لا تجد ما يكفيها للنماء.